داعبت نسائم الصباح وجهها فخففت من وطأة ذاك الشعور المبهم الذي سيطر على قلبها. ابتلعت ريقا وفكت أسر شعرها كي تداعبه الرياح.
وصلت إلى المنزل فبدلت ناظريها بين السلم المؤدي إلى غرفتها الصغيرة على سطحه وبين الباب الأمامي بتردد. كانت تشعر بالتعب وقد أسقمتها المشاعر التي اختلطت عليها في المشفى قبل قليل ولكنها شعرت بحاجة إلى شيء من الرفقة.
تنهدت بعمق ثم دفعت سور الحديقة وصعدت السلالم هاربة إلى غرفتها الصغيرة. رمت حقيبتها جانبا وتجاهلت نداء معدتها مقررة النوم فعندها مناوبة مسائية ستبدأ بعد بضعة ساعات.
استلقت على سريرها بإهمال وحبست غصة خنقت حلقها. كانت تعود من العمل فقط لتذهب إليه مرة أُخرى. شعرت لوهلة أنها لا تمتلك شيئا سوى العمل، أنها تعيش لتعمل وليس العكس.
تكورت على نفسها وترقرقت الدموع في عيناها متذكرة ذاك الرجل الذي كان يسأل عن بلسم. ترى إن وقعت طريحة المرض فهل ستمتلك أحدا ليسأل عنها؟ هل سيصل بهذه السرعة القياسية فور سماعه بالخبر؟
الإجابة التي كانت كلا قد فطرت قلبها؛ فهي ليست سوى غصن مقطوع من شجرة. لا شيء يمكن أن يعيده إلى أصله.
أخرجت قلادتها الذهبية ونظرت بفتور إليها. تلمست الرمز المحفور بأناملها وهي تسأل نفسها لمَ أتت حقا إلى هذه القرية البعيدة كل البعد عن العاصمة التي ترعرعت فيها؟
أحقا لأنها كرِهت تلك المدينة بعد ما حدث؟ هل أتت لتُحقق الأمر الذي يجول في بالها؟ وأي سذاجة تلك التي دفعتها لاتخاذ هذا القرار؟ ماذا عن كل الوعود التي قطعتها على نفسها؟ بأنها لن تسير نحو اليد التي أفلتتها.
شعرت بأن الجواب سيجعلها تبدو مثيرة للشفقة لا أكثر لذلك فضلت طمسه داخل عقلها ومنعته من الخروج إلى السطح. بدت كل المبررات والأسباب مجرد خيالات ابتدعتها طفلة عطشانة ليس إلا.
أغمضت عينيها والدمع تسلل من طرفهما. لقد كانت خائفة بل مرعوبة وهي تلملم حقائبها وتتجه إلى محطة القطار. أتت لأن الوحدة قتلتها، ولأن العالم الواسع ضاق عليها فخنقها. أتت لأن في قلبها جرحا لا يندمل مهما حاوت أن تتجاهله أو تداويه. مهما أقنعت نفسها بأنها بخير وحدها، وأنها نجت بمفردها وعلى الأقل عندها قوت يومها لم تُفلِح.
أنت تقرأ
غَيْهَبْ
Spiritualبعد حادثة مؤلمة، تنتقل الممرضة الألمانية موج فؤاد جبران إلى قرية المواكب، متجاهلة تماما السبب الدفين الذي دفعها للقدوم إلى هذه القرية في المقام الأول. موج بعد أن عاشت طول حياتها وحيدة، آخر ما كانت تتوقعه هو أن تقع في شباك الحب والعائلة.. بل أن تتمز...