[٢٥]: آل النسّاج.

152 21 9
                                    


توقف غيهب أمام كوخ خشبي كان يربض وحيدا في نهاية السهل بعيدا عن زحمة السياح والعاملين في المزرعة، فتوقفت موج خلفه تنظر إلى المنزل ذي الطابقين. إنه كبير وجميل، وذو تصميم راقٍ يوحي بذوق صاحبه لكن.. لكن شيء ما فيه حزين.

لوهلة خيل لها أن أخشاب هذا البيت تأن، تهتز شوقًا، إلى من؟

اشتدت قبضته فجأة على يدها، فعرفت الجواب. نظرت إليه فرأت بصره شاخصا في الباب، والحزن، الحزن العميق النقي كان يتدفق من عينيه البريتين، خدش قلبها.

أفلت يدها وارتقى درجات المدخل فضمت الكف التي أفلتها بالكف الأخرى، محاولة تجاهل انزعاجها من الفراغ الذي تركه.  

رفع غيهب إصيص الزهور الذي على رف الشرفة الخشبية وسحب مفتاحًا من تحته. يده كانت ترتجف وهو ينظر إلى المفتاح، لم تعرف ما يدور في رأسه لكنه فجأة رفع رأسه نحوها، وهل تتخيل أم أنه يستجدتي الشجاعة منها؟

وجدت نفسها تبتسم بمواساة، وتومئ مشجعة له. نظر إلى المفتاح، شعر بأن مخالبًا نبتت لأضلعه، تفتك بقلبه. أراد أن يتداعى، أن يسحق ركبتيه بالأرض وينتحب من أعمق نقطة في صدره.

حين مات والداه لم يستطع أن يذرف دمعة واحدة. حبس دموعه، كهرمان ضمته وبكت كثيرا لكنه بقي يرتجف بصمت في حضنها، ببؤبؤين متسعين التهما العالم.

أصبح يصمت كثيرا بعدها، صار الصمت عادته. كان الكلام يتطلب منه مجهودًا عظيمًا.. الدموع التي لم يذرفها ذهبت بصوته، لقد انسكبت في الداخل حتى طاف بها صدره.

غرق حيََا، ببنات عينه.

ربما لهذا السبب كانت عيناه بليغتان كل تلك البلاغة؛ لأنهما أخذتا المهمة عن لسانه. لعله لهذا السبب وقع في حب موج، لأنها كانت بليغة العينين مثله.

كانت تفهم كلام العيون وتقلبات الفؤاد. كانت امرأة متهدجة الصدر ومتضطربة الفؤاد؛ لأن ضلوعها مزدحمة ببحور سحيقة، هائجة من المشاعر.. مثله.

أدخل المفتاح في القفل وأداره، طقطق صوت انفتاحه ودفع غيهب الباب فعَلا صريره. اشتاحت موجة من الذكريات قلبه.

سحب نفسا عميقا ثم أفسح الطريق وتطلع إلى موج قائلا: «من بعدك.»

ترددت بعض الشيء لكنها صعدت الدرجات بتأنٍ ودخلت  حذرة الخطى، تشعر أنها تنتهك حرمة أرض مقدسة.

صرت الأخشاب تحت قدميها، أطلت أشعة الشمس على أثاث البيت كما تطل على شواهد القبور، تفضح ذرات الغبار التي تطايرت هلعة في الهواء، من دخل وعكر سكونها؟

البيت لم يكن متسخًا، من الواضح أن أحدهم ينظفه كل فترة، لكنها عرفت أنه فقد سكانه، قالت الجدران ذلك.

إن صمت الجدران البليغ.. مشهد حزين.

«لقد قضيت أسعد لحظات طفولتي هنا.» تحدث غيهب من خلفها، لكن صوته لم يكن سعيدا. ترك باب الكوخ مفتوحًا على وسعه كي لا تنزعج وتبعها إلى الداخل.

لقد وصلت إلى نهاية الفصول المنشورة.

⏰ آخر تحديث: Aug 28 ⏰

أضِف هذه القصة لمكتبتك كي يصلك إشعار عن فصولها الجديدة!

غَيْهَبْحيث تعيش القصص. اكتشف الآن