بعد قليلٍ رأى خالد أن مجاري المياه الصغيرة تجمعت على يسار الطريق لتصنع مجرى أكبر بعرضٍ أقل من نصف المتر وعمق يزيد قليلًا عن ربع المتر، ظل مجرى الماء الوليد يكبر مع مرور الوقت حتى أصبح بحجم جدول ماءٍ صغير. ثم ازداد ليصبح بحجم ترعة متوسطة الحجم بعرض خمسة أمتار تقريبًا ولا يدري عمقها وعادت الصحراء ثانية على الجهة الأخرى من النهر الصغير ولكن الطحالب هنا كانت تشع بلون يميل أكثر للاخضرار.
قالت چومانا: تظاهر بالموت.
رأى خالد في آخر الطريق السائرين فيه مبنى خشبيًّا كبيرًا وكأنه بوابة للمياه على النهر الصغير.
قالت چومانا بصورة ملحة: تظاهر بالموت.... يراقبون.
استلقى خالد ساكنًا لمدة عشر دقائق كاملة ولكنه لم يكن مغمضًا عينيه بصورةٍ كاملة. رأى بعض الحراس يجلسون فوق المبني الخشبي وقد توقفوا عما يفعلون وهم ينظرون إلى العربة القادمة من خارج المدينة.
لم يتحرك خالد ولكنه لاحظ وجود حركة في الجهة المقابلة من المبنى الخشبي فحرك رأسه ببطءٍ حتى لا يلحظه أحد ووجد مجموعة أخرى من الحراس يجلسون على جزءٍ بارز من الجبل بالقرب من مدخل أحد الكهوف.
لم تتوقف أو حتى تبطئ العربة من سيرها حتى ابتعدت عنهم، وبعد مدة تقترب من عشر دقائق قالت چومانا:
- تحرك.
قال خالد: ما هذا البناء على النهر؟
قالت چومانا: تحكم.
قال خالد: تحكم في ماذا ولماذا؟
قالت: ماء.
ظل خالد صامتًا لمدة أخرى وهو ينظر حوله لنفس المناظر التي لا تتغير فكلها صخور ومعظمها مغطًى بتلك الطحالب المضيئة. ظهرت فجوة بين جبلين على يمينه فلفت نظره وجود ما يشبه حقول المحاصيل الزراعية ووسطها أشجار ذات جذوع مضيئة وكثير من الأشخاص يعملون بها.
توقفت چومانا بعد الفجوة بقليل فقال خالد:
- ماذا الآن؟
قفزت چومانا ووقفت بجانب العربة وهي تشير إليه قائلة:
- انزل.
نزل خالد وعيناه تراقبان چومانا وأخاها.
أخذت چومانا الغطاء الذي يغطي فاطمة.
أمسك خالد معصمها بقوة قائلًا: اتركيه.
نظرت إليه چومانا بعينيها الواسعتين قائلة: غطاء... ملابس.
لم يفهم خالد ما تعنيه ولكنه تركها على أية حال فأخذت الغطاء وألبسته لخالد كالعباءة.
قال خالد: لماذا؟
قالت: لا يعرفونك.
ثم أردفت مشيرة إلى العربة: اركب.
ركب خالد وأجلس أخته فاقدة الوعي ووضع رأسها على صدره. كانت إحدى يديه تسند أخته والأخرى يستند عليها. ظل صامتًا وعقله به مئات الأسئلة عن هذه المخلوقات البدائية إلا أنه آثر الصمت حتى يطمئن على أخته.
أخذت العربة منعطفًا مائلًا إلى اليسار ثم آخر إلى اليمين وبعد مائتي متر أو يزيد قليلًا رأى خالد ما غير رأيه عن هذه المخلوقات؛ فقد كان أمامه بناءٌ عملاقٌ منحوت بباطن الجبل، شيء لا يوجد إلا في الخيال.
عقد خالد حاجبيه وهو يحاول أن يستوعب ما يراه.
ظلت العربة تتحرك للأمام والبناء يزيد اتضاحًا كلما اقتربوا منه.
كان البناء ثلاثة أدوار ومزينًا ببعض التماثيل المنحوتة، ارتفاع كل دور سبعة أمتار تقريبًا والباب بارتفاع ستة أمتار وبجانب الباب أعمدة صخرية تحمل الطابق الثاني والموجود به بعض الفتحات التي يبدو أنها تستخدم كنوافذ، ونفس الأعمدة تستمر لتحمل الطابق الثالث.
ظل خالد يحدق في البناء أمامه وفي التفاصيل التي تنافس كل ما رآه في حياته دقة وفي الناس الواقفين أمام مدخله. كان هناك مجموعة من الحراس الممسكين ببعض الأسلحة والعصيان ويتحدثون فيما بينهم وأمامهم مجموعة كبيرة من البشر لا يرى آخرهم، يبدو عليهم الهزال الشديد.
انحرفت چومانا بالعربة يسارًا تاركةً المدخل الرئيسي، ليصبح المبنى على يمينهم. وبعد مائتي متر تقريبًا توقفت چومانا بالعربة قائلة شيئًا لأخيها ثم ترجمت قائلة لخالد:
- انتظر.
ببطءٍ أسند خالد أخته لتستلقي على العربة ثم قفز منها وهو يتفحص المكان حوله والمكان الذي دخلت منه چومانا.
غابت چومانا لعشر دقائق كاملة قبل أن تعود ومعها شخص آخر يرتدي ملابس بيضاء نظيفة عليها علامات ذهبية بمنطقة الصدر.
كان الرجل طويل القامة نسبيًّا، أسود شعر أسود قصير، قمحي البشرة قليلًا وذا عيونٍ بنيةٍ ويبدو على ملامحه النباهه والذكاء.
وقف الرجل ينظر إلى خالد وهو يتفحص وجهه وجسده وملابسه دون أن ينبس بحرفٍ واحدٍ، وكأنه ينظر إلى ديناصور حي.
كان خالد لا يزال يضع الملاءة فوقه كالعباءة ويظهر تحتها ملابسه الحديثة، بنطال جينز وتي شيرت.
لكزت چومانا الرجل المبهوت فانتبه وقال بلغة عربية فصيحة:
- أهلا بك يا سيدي، لقد قالت چومانا أنكما من البشر العلويين.
قال خالد: أنت تتحدث العربية بطلاقة.
قال الرجل:
- شكرًا على المجاملة سيدي، أنا من الحكماء وكلنا نتحدث العربية فنحن نتعلم من الكتب العربية.
أوشك خالد أن يسأله من أين يأتون بالكتب ولكنه فضل ترك هذا الموضوع جانبًا قائلًا:
- هل يمكنك معالجة أختي؟
اقترب الرجل من العربة وأخذ يتفحص وجه فاطمة والجروح على جسدها ثم قال:
- الأفضل أن تدخلوها إلى المشفى.
نظر خالد إلى أخته فاقدة الوعي للحظة، ومن ثم أخذ أحد السيوف القصيرة وحمل أخته متبعًا ذلك الرجل حتى دخلا من نفس مكان خروجهم وتبعتهم چومانا بينما بقي براحت بجانب العربة.
كان البناء المنحوت داخل الجبل تحفةً معماريةً وفنيةً في كل تفاصيله، الصغيرة منها قبل الكبيرة، كانت الجدران عبارة عن لوحات رائعة، أو كانت رائعة منذ أمدٍ بعيدٍ ولكن أكل عليها الدهر وشرب ولم يبقَ منها إلا آثار شاهدة على مهارة من رسمها.
دخل الحكيم ثالث غرفة إلى اليسار تبعه خالد حاملًا أخته وبعده چومانا، ثم قام الحكيم بإغلاق الستارة التي تحل محل باب الغرفة.
نظر خالد حوله، كانت الغرفة بطول سبعة أمتار وعرض خمسة. كانت خاليةً تمامًا إلا من بعض الأقمشة الموزعة على الأرض وكأنها أسرّة. لم يكن بتلك الغرفة أي من الرسومات الجدارية كالممر بل كانت أشبه بصندوق من الصخور له باب من القماش.
أشار الحكيم إلى خالد أن يضع أخته على أحد الأسرة فتوجه خالد إلى حيث أشار وببطءٍ شديدٍ وضع أخته على الأرض.
تكلم الحكيم لبعض الوقت مع چومانا بلغتهما ثم توجه بحديثه إلى خالد قائلًا:
- اسمي محتوب وأنا الحكيم المسئول عن هذا المشفى.
ثم جلس بجوار فاطمة الممددة على الأرض مكملًا:
- إصابات أختك سطحية ولكن تكمن الخطورة في ما وضعه الحراس على الجروح لتسييل اللحم.
امتعض خالد من الكلمة قائلًا:
- ماذا؟!!!
توقف الحكيم وعلى وجهه بعض علامات الأسف والأسى ثم قال:
- سأقص عليك كل شيء لاحقًا، لكن المهم أن چومانا قد وضعت بعض الأعشاب الطبية على الجروح فتوقف تأثير المواد التي وضعها الحراس، وسيأخذ تنظيف جروح أختك والعناية بها بعض الوقت حتى تسترد صحتها.
قال خالد:
- إذًا فيمكنك علاجها.
قال محتوب:
- نعم يمكنني، الأمر ليس صعبًا ولكنه يحتاج بعض الوقت فقط.
تنهد خالد بصوت منخفض:
- الحمد لله.
ثم سأل الطبيب:
- كم يستغرق هذا العلاج؟
قال الحكيم: أظنه سيستغرق تسعين أو مائة يوم.
اتسعت عينا خالد: ثلاثة أشهر؟!
قال الحكيم محتوب: نعم، ثلاثة أشهر أو أكثر قليلًا.
قال خالد: هل يمكنك عمل شيء مؤقت ونستكمل علاجها في البيت، أقصد فوق الأرض؟
قال الحكيم:
- لا أظن ذلك، لن تجد حكماء يعلمون ما أصابها ولا كيفية علاجها، ولكنني سأحاول تسريع العلاج بأقصى ما يمكنني.
كان هذا أسوأ ما يخشاه خالد، فأمه بالبيت بمفردها وستموت من القلق بسبب اختفائهما المفاجئ، وهو لا يمكن أن يرجع ويترك أخته بمفردها هنا.
كادت الحيرة تقتله ولكن فكرة أن خاله سيعتني بأمه أعطته بعض الاطمئنان وساعدته على اتخاذ قراره، فقال بعد ترددٍ مستسلمًا لقضاء الله وقدره:
- حسنًا فلتبدأ العلاج يا دكتور.
قال الحكيم:
- نحن لا نستخدم مصطلح (دكتور) هنا، هنا يطلقون علينا اسم الحكماء، وبالمناسبة ما اسمك؟
- اسمي خالد.
الحكيم: حسنًا سيد خالد، سأحضر بعض الأدوات وأعود... لن أتأخر.
رجع الحكيم محتوب بعد قليل ثم قال موجهًا حديثه إلى چومانا بعد أن وضع أغراضه بجانب فاطمة الممددة على الأرض: أحضري شعله وأكثري الإضاءة.
كانت الإضاءة ضعيفة إلى حدٍّ بعيد ولكن بعد قضاء اليوم بأكمله في هذه العتمة فإن خالد قد اعتاد على الرؤية بأقل كمية إضاءة.
عادت چومانا بعد قليل حاملةً شمعة بيضاء وأخذت تقرب اللهب من العمود الحامل للكرة المغطاة بالطحالب فزاد توهج الطحالب وتحولت الإضاءة من اللون الأخضر الضعيف إلى لونٍ أصفر قوي. كان ذلك العمود المعدني مثبتًا بالحائط وأسفل هذا العمود يوجد مكان لوضع شمعة أو مصدر للهب.
قال الحكيم محتوب بعد أن لاحظ متابعة خالد لما تفعله چومانا:
- يزيد توهج الإضاءة الصادرة من الطحالب مع ارتفاع درجة حرارتها حتى درجة معينة ولو زادت عنها فإنها تحترق.
أضاف خالد وهو ما زال يراقب ما تفعله چومانا:
- وأيضًا يتحول لونها من الأخضر للأصفر.
أخرج الحكيم محتوب سكينًا صغيرًا من حقيبة أدواته ثم غمسه في قارورة صغيرة بها سائل أحمر وبدأ يعمل على جراح فاطمة وبعد دقائق بدأ جسد فاطمة يهتز.
توقف الحكيم وتركها تهدأ ثم سأل:
- كم عمرها سيد خالد؟
أجاب خالد: تسعة عشر عامًا
قال الحكيم محتوب:
- سيد خالد، أنصحك بشدة أن تعود إلى بيتك وترجع هنا بعد مائة يوم.
هز خالد رأسه قائلًا:
- لن أتركها هنا بمفردها.
قال الحكيم:
- أنا أتفهم موقفك سيد خالد وخاصة بعد ما حدث، ولكن إذا قررت المكوث هنا فستكون هناك خطورة كبيرة عليكما وعلى چومانا وعليّ أيضًا.
قال خالد: أنا لا يهمني كل هذا الهراء، أنا لن أترك أختي معكم.
قال الحكيم: إذا كان لا بد فهناك أمور يجب أن تفهمها إذا أردت البقاء هنا، أولًا يجب أن لا يعرف أحد أبدًا أنكما من البشر العلويين لأن هذا حكم بالإعدام علينا جميعًا.
ثم أضاف وهو ينقل نظره من چومانا إلى خالد:
- سنتمنى الموت ألف مرة إن عرفوا أنك من البشر العلويين ونحن نخفيك. ثم أكمل بعد لحظات من الصمت:
- لذلك فالأفضل أن تتظاهر أنك أبكم، ثانيًا: يجب أن تغير ملابسك بملابس الأوبجازيين، ثالثًا: ستتجنب الاحتكاك بأي أحد هنا سواء أوبجازيين أو...."
صمت للحظات مفكرًا ثم أكمل: الأفضل أن نجد لك مكانًا تعيش فيه.
قالت چومانا شيئًا باللغة الأوبجازية فظل الحكيم صامتًا لمدة ثم قال لخالد: يمكنك أن تعيش في أحد حفر الأوبجاز.
امتعض خالد عندما سمع كلمة حفر ولسبب ما ربطها مباشرة بهؤلاء الواقفين أمام المشفى بالعشرات ولكنه نفض ذلك عن تفكيره قائلًا:
- لن أترك أختي ولن أبتعد عنها ما دمنا هنا.
قال الحكيم: أنت لا تفهم خطورة هذا سيد خالد، إن عرف أحد أنك من البشر العلويين فسيقبضون عليك وعلى أختك وستكون نهايتك.
قال خالد: دعهم يعرفون وسيلحقون بالآخرين.
ضاقت عينا الحكيم وردد ببطء: الآخرين!!!
أنت تقرأ
رواية جومانا (الحلم) / للكاتب محمود حسن دسوقي
Fantasyكان صوت أنين الأخير يصل إلى أذن چومانا ولكنها كانت تعلم أنه لا أحد يستطيع الاقتراب منهم ولا حتى أقاربهم. ومن يبدي فقط تعاطفه فسينتهي به الحال معلقًا مثلهم. كان سلوى أهاليهم الوحيد هو أن المُعلق سيموت سريعًا خلال يوم أو اثنين على أقصى تقدير ولن يتعذب...