الفصل الحادي عشر

137 10 0
                                    

بعد يومين من انتقال چومانا وبراحت من الحفرة التي كانا يعيشان فيها، فوجئ الجيران بدخول أكثر من عشرين حارسًا مع قائدهم، ناشرين الرعب بين الأطفال والنساء والرجال وهم يفتشون الغرف كلها ويعيثون فيها فسادًا.
وقف قائد الحرس وظهره إلى غرفة چومانا وبراحت الخالية ثم قال بصوت جهوري جمد الدم في عروق الرجال قبل النساء والأطفال:
- سكوووت.
ران صمت مهيب على الجميع إلا من بكاء بعض الأطفال الذي ظل يتردد في أصداء الكهف حين أشار قائد الحرس إلى سيدة عجوز تجلس أمام إحدى الغرف مستندة إلى أحد الجوانب تنظر بخوف إلى الحراس وهي ترتعد، قائلًا:
- أحضروا هذه.
جرها اثنان من الحراس حتى رماها أمام قائدهما الذي قال بصوت عالٍ موجهًا حديثه إلى الجميع: أين چومانا وبراحت؟
كرر القائد ما قاله بصوت أعلى: قلت أين چومانا وبراحت؟
قالت السيدة العجوز وهي ترتجف تحت أقدامه: أخذوا أغراضهما منذ يومين وقالا إنهما سيتوجهان إلى غرفة أخرى.
قال القائد: أين؟
قالت وهي ترتجف: لا أعلم.
استل القائد سيفه قائلًا: قلت أين؟
قالت وهي تكاد تفقد وعيها: لا أعلم.
قال رجل وهو يرتجف: سنبحث عنها في كل مكان ونحضرها لك، نعدك، وإن لم نفعل فيمكنك فعل ما تشاء.
نظر إليه القائد فأوشك الرجل أن يذوب من الرعب.
قال القائد موجهًا حديثه للجميع: ستجدون رأسها عندكم غدًا وسنقطع رقبة واحد منكم يوميًّا حتى تجدوها.
ثم أشار إلى الحراس أن يأخذوا العجوز معهم وانصرفوا.

ساد الصمت بعد خروج الحراس إلا من صوت بكاء الأطفال فقال رجل موجهًا حديثه إلى الباقين كنعامة تحولت إلى أسد بعد زوال الخطر:
- سنبحث عنها في كل مكان حتى نجدها.
تكلم صوت أنثوي على استحياء: لكنها لم تؤذِ أحدًا.
التفت الرجل إلى مصدر الصوت وعيناه كجمرتين: أولادك أمْ چومانا وبراحت؟
صمتت نورلامب الواقفة أمام غرفتها ولم تدرِ ما تقول فهي تدري أن الحراس لن يتوقفوا عن تهديدهم حتى يجدوا براحت وجومانا.
قال الرجل: سنقسم أنفسنا أربعة أقسام، ولن نترك أي شبر في المدينة حتى نجدها ومن يجدها يسلمها للحراس وإياكم أن تهرب منكم.
أزاحت نورلامب -التي كانت تدافع عن چومانا- الستار عن مدخل غرفتها ثم قالت بصوتٍ منخفضٍ لابنتها المختبئة:
- اخرجي حبيبتي، لقد ذهبوا ولكنني أريدك أن تستعدي فسنغادر هذه الحفرة للأبد.

*****
في صباح اليوم التالي، وقبل أن يبدأ الضوء المنبعث من الطحالب في الازدياد، قالت چومانا لبراحت وهما يأكلان طعام الإفطار أنها ستذهب إلى خالد وفاطمة في المشفى. قبل أن تنطلق أمرت أخاها براحت ألا يتحرك إلا إذا كان هناك داعٍ شديد لذلك وأمرته أيضًا أن يقتصد في الطعام حتى يكفيه ما أحضره فوايت.
خرجت چومانا من الكهف متوجهة إلى المشفى متخذةً بعض الطرق الجانبية التي كانت تسلكها قديمًا للبعد عن مضايقات الحراس أو حينما تصطاد شيئًا تريده لنفسها ولأخيها فقط. على الرغم من عدم وجود أي أصوات إلا صوت أنفاسها وصوت بعض الحشرات التي لا تراها إلا أن چومانا تحركت ببطءٍ في الممرات المختلفة وهي تنظر حولها بين الحين والآخر حتى تتأكد أنه لا أحد يراها أو يتبعها.
تجمدت فجأة عندما تناهى إلى مسامعها صوت هامس، توقفت وهي تنصت أكثر، ثم تقدمت بحذر بحيث ألا تصدر أقدامها أي صوت. تقدمت ببطء وكفاها ملامسان الصخور الملساء حتى رأت مجموعة من الحراس يقفون على جانب الطريق في مكان لم ترهم فيه من قبل.
ظلت چومانا مختبئة مكانها للحظات ثم بدأت في التراجع بحذرٍ أكثر وعيناها لا تفارق الحراس ثم أعطتهم ظهرها وبدأت تسرع الخطى مبتعدة وهي تفكر في طرقٍ أخرى.
كان الطريق الآخر الذي يمكن أن يوصلها بعيدًا عن الطرق الرئيسية سيجعلها تسير أكثر من ساعتين إضافيتين. لم تجد بدًّا من أخذ الطريق الطويل حتى تتجنب الحراس.
بعد سيرٍ بين الجبال لأكثر من ساعة ونصف وجدت نفسها على بعد أقل من خمسة عشر مترًا من مجموعةٍ صغيرةٍ أخرى من الحراس، ثلاثة منهم نائمون واثنان منشغلان في الحديث.
توقفت چومانا ثم بدأت في الرجوع للخلف بحذرٍ بعيدًا عن الحراس والندم يقتلها على ضياع كل ذلك الوقت والجهد هباءً.
أخذت تعصر ذهنها في محاولة لتذكر أي طريق آخر يمكن أن يوصلها ولكن دون جدوى. لم يكن أمامها حل إلا أن تتجاوزهم من فوقهم.
لم تكن المرة الأولى التي تفعل هذه الحركة فقد فعلت ذلك كثيرًا مع أخيها براحت وهم صغار، ولكن عندما كانوا صغارًا كان العقاب هو بعض السباب أما الآن فإن رآها الحراس فسيكون العقاب هو سجن الثعبان.
أمسكت سكينها الوحيد بفمها، ثم بدأت تتسلق الجبل حتى وصلت إلى ارتفاع خمسة عشر مترًا. بدأت تتحرك أفقيًّا ببطءٍ وهي تتأكد من موضع قدمها في كل خطوة حتى وصلت إلى فوقهم مباشرة.
كانت تتخيل أنهم يسمعون صوت دقات قلبها وأن أحدهم سينظر إلى أعلى في أي لحظة ويشير إليها ويقوم مع زملائه ليقبضوا عليها ويأخذوها إلى الحاشية ثم إلى قبو المبنى الحكومي ثم إلى تابوتٍ في سجن الثعبان.
أخذت تتخيل التعذيب هناك وهي تمشي خطوةً بعد خطوةٍ فوقهم. لم تجد مكانًا يمكن أن تضع فيه قدمها فاضطرت للنزول ثلاثة أمتار لأسفل حتى تستطيع إكمال طريقها.
رأت أحد الحراس يتثاءب ويرفع رأسه إلى أعلى. تسمرت مكانها لبعض الوقت ولكن خدمها الحظ عندما لم يلاحظها.
بدأت في التحرك ثانيةً حتى تخطت المنطقة التي يقفون بها بمسافةٍ كافيةٍ ثم نزلت إلى أرض الممر وأكملت السير دون أن تتوقف حتى لتلتقط أنفاسها.
بعد المسير لساعاتٍ أخرى وصلت إلى آخر الممر الموصل إلى الطريق الرئيسي، كان المشفى على بُعد خمسين مترا عندما لاحظت أن الحراسة كانت على غير المعتاد. ظلت چومانا واقفة مختبئة كالتمثال قريبًا من حافة الممر حتى حانت اللحظة المناسبة عندما تأكدت أنه لا أحد من الحراس يراها فانطلقت مسرعة إلى مدخل المشفى الجانبي حتى إنها اصطدمت بالحائط المقابل لذلك المدخل.

ما إن دخلت حتى انحرفت يمينًا وانطلقت مباشرة إلى الغرفة الموجود بها خالد وفاطمة. اتسعت عينا چومانا الواسعتين أصلًا عندما وجدت الغرفة خاليةً. نظرت يمينًا ويسارًا وخرجت في الممر بين الغرف لتتأكد من أنها لم تخطئ الغرفة. كان الغرفة هي ذاتها التي تركت بها خالد وفاطمة. اقتربت من الأغراض الموضوعة بركن الغرفة وأخذت تفتش فيها حتى وجدت بها ملابس خالد التي جاء بها. شعرت بالعالم يدور من حولها فخرجت مسرعةً من الغرفة وتحركت في طرقات المشفى ناظرةً إلى الأرض حتى تخفي ملامحها.
وجدت الحكيم محتوب واقفًا في إحدى الغرف يتكلم مع أحد المرافقين لأحد المرضى الراقدين على الأرض.
وقفت چومانا أمام الحكيم محتوب وظهرها لمرافق المريض بطريقةٍ فجة ثم قالت بصوت مبحوح: أين هما؟
أربك ظهورها المفاجئ الحكيم محتوب؛ فعقد حاجبيه وظل صامتًا للحظات ثم قال ببطءٍ بعد أن هدأ قليلًا:
- في المرة القادمة لا تظهري من العدم هكذا فقد كدت تقتلينني.
كان القلق باديًا على وجهها وصوتها وهي تقول: آسفة، لكن أين هما؟
قال: ذهبا إلى (إيريحاد) لقضاء حاجتهما مع (نيرساري) وسيعودان بعد قليل.
قالت: هل تثق فيها؟
اعتذر الحكيم للمريض ومرافقه وقال وهو يخرج مع چومانا خارج الغرفة:
- أنا أثق في مساعدتي الشخصية كما أثق في نفسي، وأيضًا هي على علم بقصة خالد وهي من أقنعت الجميع أن "خالد" من حراس الحاشية وأنه هنا لأن أخته مريضة ولذلك يتجنب الجميع الحديث معه.
تنفست چومانا الصعداء قائلة: جيد، هذا سيجعل الكثيرين يتحاشونهما ويهابون الاقتراب منهما.
قال الحكيم محتوب:
- الآن يمكنك انتظارهما في غرفتهما لأن لديّ عمل أقوم به.

رواية جومانا (الحلم) / للكاتب محمود حسن دسوقيحيث تعيش القصص. اكتشف الآن