الفصل الثامن عشر

126 13 0
                                    

ثم نزلت مسرعة ورجعت بعد قليل ومعها قارورة زيت صبت جزءًا منه على المغلاق وفتحته دون صوت يذكر.
كانت الغرفة كبيرةً بالنسبة إلى باقي الغرف وتحتوي على طاولة للكتابة وأخرى مائلة كما أن هناك بعض الكراسي الخشبية الوثيرة المرصعة بالذهب، وجزء من الحائط تم تحويله إلى خزانة مخطوطات.
كان الحائط الذي يفصل تلك الغرفة عن جارتها مصنوعًا من الزجاج. وقفت چومانا تتأمل ذلك الحائط الغريب الذي يبدو ظاهره من باطنه. أخذت تمسح بيديها على الزجاج ووجهها يكاد يلتصق به.
قالت وكأنها تحدث نفسها: ما هذا؟!!!
كانت ترى من الجهة الأخرى كثيرًا من الصناديق صغيرة ومتوسطة وكبيرة الحجم وجميعها مرصعة بالذهب.
قال بروتان: هذه غرفة سلعود الخاصة وهذا زجاج.
كانت الغرفة بها نافذة واحدة كبيرة تطل على حديقة واسعة.
كان الحديقة جيدة الإضاءة على الرغم من أنه وقت الليل وبها عربة صغيرة كلعبة للأطفال وأرجوحات على الشجر وبركة ماء صغيرة وعلى مسافةٍ ليست بعيدةً توجد بحيرة كبيرة.
أفاقت چومانا من أحلامها وتحركت إلى باب ذلك الحائط الزجاجي فوجدته مغلقًا، فتحته بهدوء ثم بدأ كل منهم في استكشاف مجموعة من الصناديق والتي احتوت معظمها على أوراق حسابات ومديونيات على آخرين حتى قال براحت: وجدت واحدًا.
كان الصندوق يحتوي على كثير من العملات الفضية وبعد قليل قالت چومانا: وهنا واحد آخر - والذي كان ممتلئًا بالعملات النحاسية -.
طرق آذانهم صوتٌ آتٍ من بهو البيت فأشار إليهم بروتان أن يتوقفوا وتحرك ببطء إلى المدخل وحاول أن يسترق السمع ليسمع من أين يصدر الصوت ولكنه لم يسمع شيئًا فرجع إليهم ليجد أن براحت وجد صندوقًا آخر من العملات الفضية.
حمل كل منهم صندوقًا وبدأوا في التحرك نحو المخرج ولكن قبل الوصول إلى مخرج غرفة سلعود الخاصة سمعوا صوتًا يقول:
- أنا متأكد أنني أغلقتها بالأمس.
وضع بروتان صندوق العملات على الأرض دون صوت وقبض على سلاحه بيمينه مستعدًا للقادم.
لم تمضِ ثوانٍ حتى دخل الشخص الأول فعالجه بروتان بضربة من سلاحه اخترقت صدره، وقبل أن يعي الآخر ما حدث كانت چومانا تتخطى القتيل الأول وتجذب الشخص الآخر إلى الداخل ليفصل براحت رأسه عن جسده.
ظل الثلاثة متجمدين مكانهم للحظات والدم يخرج كالنافورة من عنق الرجل الثاني قبل أن يسقط جثةً هامدةً. على الرغم من أنه استغرق القتال أقل من بضع ثوانٍ إلا أن ضربات قلوبهم واتساع عيونهم وكمية العرق التي أفرزوها تشي بمستوى الأدرينالين في عروقهم.
انطلقوا عائدين إلى المطبخ ثم نظر بروتان إلى الطريق ليجد الحراس بالطريق الخارجي نائمين وهم مسندون ظهورهم للحوائط ومنهم من استلقى تمامًا على الأرض.
بدأت چومانا بالتسلق خارجةً من المطبخ وتبعها براحت.
أخذ بروتان يناولهما صناديق العملات واحدًا تلو الآخر ثم تسلق خارجًا هو أيضًا.
تحركوا مسرعين حتى عبروا منطقة الجرس والجثث الملقاة بها.
أمرهما بروتان ألا يتوقفا عن التحرك حتى يبتعدا عن هذا المكان.
كانت حركتهم بطيئة إلى حدٍّ بعيدٍ بسبب ثقل ما يحملونه. فالمسافة التي كانوا يقطعونها في ساعةٍ أصبحوا يقطعونها في ساعتين. ولكنهم لم يتوقفوا حتى قالت چومانا وصدرها يكاد ينفجر من قوة تنفسها والعرق النازل على جبينها يكاد يعميها: يجب أن نستريح قليلًا، لا أستطيع أن أكمل.
كان بروتان يلهث من الإرهاق ولكن على الرغم من ذلك قال: سيطلقون الجرس بمجرد رؤية أيّ من الجثث ويجب أن نكون قد قطعنا مسافة كبيرة قبل هذا
قالت جومانا بصوتٍ أقرب ما يكون إلى البكاء: أريد أن ألتقط أنفاسي.
قال بروتان وهو يشير بيده الخالية: أعطيني صندوقك وسأحمله عنك حتى تستريحي قليلًا ولكننا لن نتوقف.
أعطته صندوقها فأصبحت تشعر أنها أخف وزنًا ولكنّ قدميها ما زالتا تصرخان من الألم وتتوسلان لها أن تستريح قليلًا.
حاولت چومانا أن تطلب من بروتان أن يتوقفوا للحظات ولكنه رفض ثانيةً.
بعد فترةٍ أخرى قال براحت وهو ينزل على ركبتيه ويضع الصندوق أمامه:
- لم أعد أستطيع المشي، سأموت إن أكملت خطوة أخرى.
سقطت چومانا بجواره قائلة مستجدية بروتان:
- دعنا لنستريح للحظات وسنعوضها بعدها. أعدك.
كان بروتان يتمنى الراحة أيضًا مثلهما فقال وسط أنفاسه المتلاحقة:
- حسنًا سنستريح للحظات قليلة ثم نكمل.
لم تمضِ دقائق حتى وقف بروتان آمرًا براحت وچومانا أن يُكملا. كانت فترة الراحة قليلة ولكنها كافية ليستعيدوا جزءًا من طاقتهم.
لم تمضِ ساعتان حتى سمعوا صوت جرس من بعيدٍ تبعه صوت جرس آخر وآخر وهكذا قال بروتان عاقدًا حاجبيه:
- أظنهم اكتشفوا الجثث الآن.
شعرت چومانا بالقلق يجتاحها قائلةً: ماذا سنفعل الآن؟
قال: يوجد مكان أعرفه سنختبئ فيه لبضعة أيام ثم نكمل عائدين لملاقاة الباقين.
قالت چومانا: وماذا عن عملك؟
أغمض بروتان عينيه قائلًا وهو يبتسم: لقد أخبرتهم أنني سأتغيب لبضعة أيام وأيضًا من يخطط لقتل الملك لن يأبه أن يتم فصله من عمله.
*****

وقف خالد أمام غرفة الفنان عامر مغربي أحد أشهر الفنانين في مصر حاليًا قبل الحفلة الغنائية التي سيحييها اليوم. كانت الساعة تشير إلى السابعة مساءً وسيبدأ الحفل بعد أقل من ساعة. مع أنه لم يمر على وصوله مع المطرب المشهور أكثر من نصف ساعة إلا أنه جاء ما يقرب من عشرة أشخاص، معظمهم في مرحلة المراهقة أو تخطوها بالكاد، وكل منهم يمني نفسه أن يلتقط مع ذلك المطرب صورة أو حتى يسلم عليه.
كان خالد يتقاضى في اليوم الواحد هنا أكثر مما يتقاضاه أقرانه في شهر أو أكثر ولكنه مع ذلك لم يكن راضيًا، كان يحتقر نفسه، ويحتقر هؤلاء الذين يدفعون تلك المبالغ الطائلة ليشاهدوا هذا المغني. كان يحتقر تذللهم إليه ليدعهم يدخلوا ليسلموا على ذلك الذي يهتز كالفتيات على خشبة المسرح.
رجع خالد بذاكرته إلى چومانا وهي تحكي عن حلمها وعما تخطط لفعله لتغيير حياة الأوبجازيين. ابتسم عندما فكر أن أحد هؤلاء يمكن أن يصبح غداءً لجومانا أو تصطاده للملك والحاشية.
في أثناء انشغال خالد في تفكيره جاءت إحدى الفتيات ووقفت أمامه قائلةً بصوت يجمع بين الأمر والطلب والاستعلاء والنرجسية:
- ابتعد. سأقابل الفنان الآن.
نظر إليها خالد وهو يرى بعينيْ عقله الباطن دموع چومانا وهي تتركهم بعد أن طلبت منه أن يشاركهم في قتل الملك.
قالت الفتاة الواقفة أمامه ثانية: ألم تسمعني؟!!
أخرجه سؤالها للمرة الثانية من ذكرياته فقال:
- آسف جدًّا. الفنان لا يقابل أحدًا.
أخرجت بعد الأوراق النقدية من فئة المائتي جنيه ثم قالت وهي تمد يدها لخالد وتتحرك نحو باب الغرفة: لن أستغرق أكثر من بضع دقائق.
قال لها وهو يرد يدها بحزم ولكن بأدب: آسف جدا. لا يمكن.
كان يرى بعين عقله چومانا حينما غضبت وهجمت عليه عندما أكل لحم الضاب الذي اصطادته هي.
ظهر الضيق على وجه تلك الفتاة وهي ترجع الأموال لحقيبتها الصغيرة ولكنها لم تقل شيئًا آخر بل نظرت إلى خالد من قمة رأسه لأخمص قدميه ثم تركته وانصرفت.
بعد نصف ساعة تقريبًا عادت البنت ومعها رجلٌ كبير السن والذي مد يده ليبعد خالد عن الطريق قائلًا: ابتعد. . سنقابل أستاذ عامر.
أمسك خالد يده برفق قائلًا: آسف جدًّا. الفنان لا يقابل أحدًا.
نظر الرجل إلى يد خالد الممسكة بيده قائلًا بغضب:
- هل جننت، ألا تعرف مع من تتحدث؟
خالد: آسف ثانيةً، ولكن لدي أوامر مشددة ألا أسمح لأحد بمقابلة الفنان.
قال له الرجل: هذه الأوامر لا تنطبق عليّ، أنا اللواء شمس الدين البندري.
لم يعنِ الاسم شيئًا لخالد الذي قال: لا يمكنني السماح لأي أحد بمقابلة الفنان إلا إذا أخبرني الفنان نفسه بذلك.
احمرّ وجه الرجل، وبدا وكأن الدم سيخرج من مسام وجهه فانقض على خالد ليبعده عن الباب ولكن خالد أمسك يده ثم دفعه دفعةً بسيطةً بحيث لا يقع.
صرخت البنت قائلةً: كفاية يا "بابا" لا أريد مقابلته.
نظر إليه الرجل نظرة تحمل شر العالم كله: ستندم وستأتي لتقبيل قدمي.
كانت ضحكة چومانا يتردد صداها في عقل خالد وهو يقارن بينها وبين تلك الفتاة الواقفة أمامه.
قال خالد مكررًا ما قاله مرة ثانية: لا يمكنني السماح لأي أحد بمقابلة الفنان إلا إذا أخبرني الفنان نفسه بذلك.
انصرف الرجل وهو يهدد ويتوعد.
ظل خالد واقفًا مكانه وهو يتذكر حديث چومانا المتواصل مع فاطمة وضحكتها وذكرياتها وأحلامها واهتمامها بهموم الأوبجازيين، وكذلك حديثه مع الحكيم محتوب ونيرساري حتى قطع خروج المغني حبل أفكاره.
شد قامته وبدأ يتحرك أمام المغني حتى وصلا إلى خشبة المسرح.
ظل خالد واقفًا حتى يمنع صعود أي شخص إلى خشبة المسرح حتى انتهى الحفل.
ركب خالد سيارة الحراسة منطلقًا خلف سيارة المغني وبعد أن تأكدوا من وصوله إلى فيلته بأحد أفخم مناطق مدينة الشيخ زايد أوصلته سيارة الحراسة إلى منزله بقليوب.

رواية جومانا (الحلم) / للكاتب محمود حسن دسوقيحيث تعيش القصص. اكتشف الآن