بهزةٍ واحدةٍ من يد خالد انطلق الحيوان الذي يجر عربتهما خلف العربة الأولى ليعيد الصوت الرتيب لطرق أرجل الحيوان للأرض مع حشرجة العجلات.
بعد ساعتين من التحرك داخل أنفاق وكهوف خرجت العربتان إلى فضاءٍ واسعٍ، على أحد الجوانب جبلٌ يعلو لأكثر من مائة متر وعلى الجانب الآخر أرضٌ مستويةٌ تمتد مد البصر ومغطاةٌ بنفس الطحالب المضيئة.
كانت الطحالب مضيئة بشدة بلون أصفر حتى إنه لم يستطع أن ينظر نحوها لمدة طويلة، بينما الطحالب في الممر كانت تضيء بلونٍ يميل إلى الأخضر.
كان الجو قد أصبح أكثر حرارة من ذي قبل وكأنه أحد أيام الصيف. أوقفت چومانا العربة فتوقفت العربة الأخرى بالتبعية وهبط سكونٌ تامٌ على الجميع. قفزت من عربتها وقالت لأخيها شيئًا ما وهي تشير إلى الجبل، ثم أشارت إلى خالد ألا يتحرك وتقدمت لبعض خطوات بعيدًا عن عربتها ووقفت كالتمثال وعينيها تمسح الجبل عن يمينها.
ظلت واقفةً لبضع دقائق وعيناها تتحركان ببطءٍ شديدٍ كالرادار. توقفت وأخذت تحد النظر في اتجاه ما، تعجب خالد من وقوفها ولكنه لم يتكلم. تحركت چومانا بخفةٍ إلى أسفل الجبل ثم قفزت معتلية أول حجر ثم كالفهد قفزت إلى حجرٍ آخر ومنه إلى آخر حتى وصلت إلى ارتفاع عشرة أمتار ومن ثم تعلقت ببعض الأجزاء البارزة من الجبل وظلت تتحرك بموازاة الجبل ثم قفزت على شيءٍ أسفلها مباشرةً.
بعد صراعٍ بسيط، وقفت تشير إلى أخيها بفرحٍ وهي ترفع هذا الشيء بيدها. أطلق الحيوان الصغير الذي اصطادته صرخات استغاثة وهو يحاول التملص من قبضتها.
أخذت چومانا تدق رأس الحيوان الصغير بالصخور حتى خمدت حركته تمامًا فأمسكته بفمها حتى وصلت إلى عربتها. رفعت الحيوان الذي اصطادته باتجاه خالد وقالت بصوتٍ مرتفعٍ وهي تبتسم وحبات العرق تتدحرج على جبينها: طعم لذيذ.
تحرك الركب بعد أن خبأت چومانا وبراحت الحيوان المقتول وسط أمتعتهما، ظلوا يتحركون لمدة ساعتين أخريين والطريق يتحول تارةً ليكون بين جبلين وتارةً بين جبل وما يشبه الصحراء أو يصعد ليكون فوق هضبة تحيط بها الصحراء وهكذا حتى توقفوا في ممر بين جبلين وقفزت چومانا من عربتها وتوجهت إلى خالد قائلة: العربة هنا.
وأشارت إلى عربته ومن ثم إلى جانب الطريق.
قال خالد بشكٍّ وهو يستدير حوله فلا يرى إلا الصخور الصماء:
- هل وصلنا؟
قالت الأنثى: لا.
ثم أشارت إلى عربتها الواقف بجانبها أخوها قائلة: اركب... العربة.
قال خالد وهو يشير إلى عربته: ولماذا لا تركبان هذه العربة؟
قالت چومانا وهي تشير إلى عربته: حراس.
قال خالد:
- أنا لا أفهم لماذا نركب كلنا عربة واحدة، وماذا ستفعلون في هذه العربة؟
قال براحت شيئًا بلغتهم وردت عليه أخته باللغة نفسها ثم استدارت لخالد قائلة:
- عربة... حراس.... ركوب.... لا يمكن.
مط خالد شفتيه ولكنه لم يعترض. حمل أخته فاقدة الوعي ونقلها ببطءٍ إلى العربة الأخرى وهو لا يزال ممسكًا بسلاحه تحسُّبًا لأي حركة غدر قد تصدر من چومانا أو أخيها.
وضع أخته ببطء وأخرج ذراعيه من تحتها وغطاها بنفس الغطاء. في الوقت نفسه كانت چومانا وبراحت ينقلان الأسلحة وبعض الأغراض من العربة الأخرى ويخبآنها في العربة التي سيقودانها.
انطلق الركب بعد أن تأكدوا من أن جميع الأسلحة مخبأة بشكلٍ جيدٍ ولا يمكن كشفها، قادت چومانا وأخوها العربة بينما خالد يجلس بجانب أخته وعيناه تنتقل بين الأوبجازيين تارةً وأخته والطريق والسلاح الذي لم يتركه من يده تارةً أخرى.
بعد مرور ساعة تقريبًا توقفت چومانا بالعربة والتفتت إلى خالد وأخذت تصنع بعض الإشارات والحركات وكأنها تريد نقل رسالةً ما إلى خالد وهي تقول:
- موت.
قطب خالد حاجبيه وقبض على سلاحه بقوة قائلًا:
- ماذا تعنين؟
أشارت إليه بيدها أن ينتظر ثم أخرجت من العربة سجلًا كبيرًا وأخذت تتفحصه ثم قالت:
- تظاهر... بالموت.
مد خالد يده وأشار إليها أن تعطيه المجلد، أعطته إياه وحين نظر بداخله وجده قاموسًا بين العربية ولغة أخرى لم يرها خالد من قبل.
قال خالد:
- لماذا أتظاهر بالموت؟
قالت چومانا:
- حراس.... أمام... حراس.
قال خالد:
- هل تريدينني أن أتظاهر بالموت أمام حراس سنقابلهم؟
هزت چومانا رأسها:
- نعم... نعم
قال خالد:
- حسنًا، ولكنني لن أترك السلاح من يدي.
قالت چومانا:
- لا يروه.
قال خالد:
- حسنًا، لن يرى السلاح أحد.
غطى خالد نفسه بالغطاء مع أخته وأخفى سلاحه بينه وبينها، وتأكدت چومانا من تغطيتهم بالكامل ثم اعتدلت في جلستها وبحركة من الحبل رجع حيوان الماندور غريب الشكل للمشي بطريقته وصوت طرقات أقدامه المعتاده.
ظلت تقود العربة لمدة عشر دقائق أخرى حتى وصلت إلى مكان حراس الطريق.
كان الحراس جالسين على جانبي الطريق فقلما مر عليه أحد هنا. حين رأوا العربة قادمة من بعيد، قاموا كعادتهم وأسلحتهم موجهة ناحية القادم الجديد حتى يلقوا الخوف في قلوبهم، فقد تعلموا في أثناء تدريبهم أنه لكي يستتب الأمن يجب أن يبقى الشعب خائفًا. وقف أحد الحراس أمام حيوان الماندور فتوقف وصمت الجميع.
نظر الحارس إلى عيني چومانا وبراحت لبرهة فنظر براحت إلى الأرض أما چومانا فظلت تنظر في عيني الحارس بتحدٍّ.
لم يكن من المعتاد أن ينظر أحد إلى عيون الحراس مباشرة لعلم عامة الأوبجازيين أن ذلك قد يؤدي إلى مشاكل كثيرة وأحيانًا يتم الزج بهم في السجن حتى يكونوا عبرة لغيرهم.
ولكن لم يكن الحال هكذا مع چومانا حيث كانت تطيل النظر إلى عيونهم كلما عبرت إحدى نقاط التفتيش تلك.
قال لها الجندي أمرًا بلغتهم الأوبجازية:
- انزلوا.
نزل براحت وخلفه چومانا وهي تنظر إلى عينيّ الجندي بتحدٍّ دون أن تتكلم، فقال لها:
- ما معكِ؟
قالت بهدوء:
- أشياء لا تخصك.
قال الجندي:
- أي أشياء؟
حاول خالد أن يستنتج أي شيء من هذه اللغة ولكن كل محاولاته باءت بالفشل، قالت چومانا:
- اثنان من البشر العلويين.
اقترب الجندي من يمين العربة وجعل ينظر إلى جسدي خالد وأخته المغطيين ثم مد يده ليلمسهما ولكن چومانا صرخت بعنف:
- ابعد يدك القذرة عنهما، إنهما للملك والحاشية.
اقترب جنديٌّ آخر وقال بخشونة: من أنتِ يا امرأة؟
قالت چومانا: أنا صيادة.
قال وهو يشير بيده: وأين الباقي والحراس؟
قالت: يغلقون المنفذ وسيلحقون بنا.
تحرك الجندي إلى جوار زميله ثم قال وهو ينظر إلى خالد وأخته: سنأخذ قدم.
قالت بعنف:
- إن لمستم أيًّا منهما فسأبلغ حاشية الملك.
قال الجندي:
- قولي لهم أن أيًا منهما كان مقطوع القدم.
قالت بتحدٍّ:
- إن لم نتحرك الآن فسأبلغ سيدي زايزات أنكم عطلتمونا. وأنتم تعرفون من هو سيدي زايزات.
جاء جندي ثالث قائلًا بعنف محاولًا إخافتها:
- أين ورقك؟
أخرجت چومانا بعض الأوراق من جيب سري في ملابسها ثم فتحته بعناية وأعطته له، قال الجندي:
- يمكنني تقطيع الورق وآخذك أنتِ ومن معك.
ابتسمت چومانا قائلةً:
- لا تستطيع أن تفعل ذلك فأنت تعلم العقاب الذي سينتظرك والحقيقة أنك أجبن من أن تخدش الورقة التي بيدك.... وإن لم ترجع الورق إليّ ونرحل في الحال فسأبلغ عنكم سيدي.
فكر الرجل للحظات ثم قال وهو يرمي الورق على الأرض:
-خذي الورق.
انحنت چومانا وأخذت الورق وعلى عينيها وشفتيها ابتسامة انتصار فأكمل الجندي:
- ولكننا سنأخذ هذا.
وأشار إلى أخيها الذي امتقع وجهه ولكنه لم يستطع فتح فمه بكلمةٍ واحدة.
ابتسمت چومانا مرة أخرى وهي تقول:
- لن تفعل، وإن لم يتحرك كلانا الآن فسأقطع الورقة وأقطع جزءًا من الفرائس وأبلغ عنكم أنكم أخذتموه عنوة وسيكون عليك أن تشرح الموقف للحاشية.
امتقع وجه الرجل ثم قال وهو يصطنع الشجاعة:
- ارحلي ولا تتأخري على سيدك.
نظرت إليه بوجهٍ باردٍ ثم صعدت مع أخيها العربة وحركت لجام الحيوان فتحرك متخطيًا الجنود، أما أخوها فظل صامتًا حتى تركوا الجنود خلفهم.
ما إن ابتعدوا بمسافة كافية حتى قال براحت بلغتهم الأوبجازية:
- أيها الإله الأوحد، لقد كدت أموت خوفًا.
قالت أخته:
- اطمئن، إنهم أكثر خوفًا منا. نحن لا نملك ما نفقده، أما هم فيملكون.
بعد مرور عدة دقائق وبعد أن تأكد من أنه لا أحد يراهم قالت چومانا بالعربية:
- حراس.... تخطينا.
تحرك خالد بحذرٍ ونظر خلف العربة فلم يجد أحدًا ثم قال:
- إلى أين نحن متجهون؟
قالت چومانا: الحكماء... يعالجونها.
قال خالد: كم بقي من الوقت؟
ضاقت عينا چومانا وهي تمعن النظر إلى الطحالب: اثنان ساعة.
نظر خالد حوله ليرى إلى ما كانت تمعن النظر فيه ولكن المشهد حولهم لم يتغير فهم يسيرون في طريق بين جبلين دون أي معالم، ثم نظر إلى أخته والتي تتنفس بصورة طبيعية الآن.
سأل خالد: متى ستفيق فاطمة؟
قالت چومانا: لا معرفة.
مسح خالد العرق من رأس أخته ووجهها ثم ابتسم وهو يدعو الله من كل قلبه أن يحفظها.
أنت تقرأ
رواية جومانا (الحلم) / للكاتب محمود حسن دسوقي
Fantasyكان صوت أنين الأخير يصل إلى أذن چومانا ولكنها كانت تعلم أنه لا أحد يستطيع الاقتراب منهم ولا حتى أقاربهم. ومن يبدي فقط تعاطفه فسينتهي به الحال معلقًا مثلهم. كان سلوى أهاليهم الوحيد هو أن المُعلق سيموت سريعًا خلال يوم أو اثنين على أقصى تقدير ولن يتعذب...