كانت چومانا منشغلة في القراءة من قاموس الجمل العربية عندما تناهى إلى مسامعها صوت خرخشة بعض الحجارة. انتفضت مسرعةً إلى مدخل الكهف ولكنها استعادت هدوءها عندما رأت أن القادم هو (فوايت)، أحد ثلاثة قادة من الأوبجازيين الذين يتشاركون معها نفس الأفكار والأراء.
كان فوايت أكثر الأوبجازيين الذين تعرفهم أناقةً فهو دائم الاهتمام بملابسه ورائحته، كما أنه متحدثٌ لبقٌ جدًّا حتى إن الكثيرين يظنونه من النيروسيين لكثرة اختلاطه بهم في أعماله ولأنه الوحيد الذي تعرفه تزوج من النيروسيين. كان هناك دائمًا لمحة من الحزن على وجهه لأن زوجته (فردالين الجميلة) هجرته وذهبت لتعيش مع أهلها من النيروسيين وأخذت معها طفليه (باري) ذي الأربع سنوات و(نيبراخ) ذي العشر سنوات. حاول مصالحتها كثيرًا ولكن باءت كل محاولات الصلح بالفشل مع أنه من أغنى الأوبجازيين ويعيش في بيتٍ كبيرٍ يطل على المزارع ولديه خدم أكثر من بعض النيروسيين.
قالت چومانا:
- أنت دائمًا أول الحاضرين.
قال فوايت وهو يمسك عصاه البيضاء -كبشرته- والمزركشة بالذهب وبعض الأحجار الكريمة والتي يمسكها كعلامة على الوقار والرفعة:
- هكذا أنا دائمًا يا چومانا.
ابتسمت چومانا من طريقته قائلةً:
- هل معك شيءٌ لآكله ونحن ننتظر الآخرين؟
قال مبتسمًا:
- طبعًا، أنا لا أنسى أنك دائمًا جائعة.
ثم أخرج بعض الفاكهة قائلًا:
- هذا ما استطعت شراءه في هذا الوقت القليل.
أخذت چومانا كل ما كان معه وبدأت بالتهامه دون أن تنظر إليه أو تشكره، ثم قالت بعد أن انتهت:
- ما اسم هذا الشيء؟
قال فوايت:
- اسمه ماجابروناس.
قالت وهي تلعق أصابعها:
- حسنًا، سننتظر الآخرين ثم نبدأ.
قال لها: هل تجدين في نفسك الرغبة لتخبريني لماذا دعوتِنا إلى هذا الاجتماع الطارئ؟
قالت چومانا:
- انتظر حتى يأتي الآخرون.
صمت فوايت قليلًا ثم بدآ يتحدثان في أمورٍ عامةٍ لربع ساعةٍ أخرى حتى جاءهم صوت أقدام قوية فقال فوايت: هذا أكيد سيبلاك.
دخل عليهم (سيبلاك) وهو على النقيض من فوايت، فهو أسود البشرة تبدو عليه قسوة الحياة. جلد يداه سميك كعمال المزارع وملابسه مرقعة مثل عمال الحفر.
كان سيبلاك عليه لمحة من الحزن أيضًا فقد تزوج بعد قصة حب عنيفة ولكن ماتت زوجته (ميناع) عند ولادة طفلهما الأول والذي لحق بأمه بعد ساعات من ولادته.
كان سيبلاك يعيش في حفرة مميزة لا يسكنها إلا قواد الأوبجازيين ومراقبين المزارع فقط. ولديه غرفة كبيرة بمفرده ولكن بعد وفاة زوجته طلب من صديقه "مانريد" أن ينتقل للعيش معه.
قال فوايت فاتحًا ذراعيه كمن يستقبل صديقًا حميمًا:
- أنت دائمًا متأخر عن موعدك عزيزي سيبلاك.
رد سيبلاك بعنف:
- أنت لا تعمل شيئًا فوايت ولذلك يمكنك أن تأتي وقتما تشاء.
قال فوايت:
- أنا أعمل كثيرًا سيبلاك ولكنني أحافظ على ملابسي.
قال سيبلاك بصوتٍ غاضب:
- لا تتحدث عن ملابسي ثانيةً حتى لا أفتح رأسك وأكل ما بها على العشاء.
ابتسمت چومانا ولكنها لم تتدخل في الحوار.
فقال فوايت:
- حسنًا صديقي العزيز، لن أتكلم عن ملابسك الجميلة الرائعة لأني أريد الاحتفاظ برأسي وما بداخلها.
قال سيبلاك:
- هذا أفضل، والآن ما هذه الرائحة؟
قال فوايت:
- إنها فاكهةٌ أحضرتها لجومانا يا عزيزي سيبلاك.
قال سيبلاك:
- هل أنهيتها كالعادة أم بقي منها شيء؟
قالت چومانا وهي تمط شفتيها أسفًا:
- إنه لم يطلب مني أن أترك منها شيئًا، آسفة.
قال سيبلاك:
- لا عليك يا چومانا، سأتذوقها في وقت لاحق.
ثم أضاف: هل يمكن أن تعطينا نبذةً عن الموضوع الذي تريديننا فيه؟
قالت چومانا: الأفضل أن ننتظر حتى يأتي الآخرون.
لم تنهِ قولها حتى سمعت صوت أقدام أخرى فتحرك سيبلاك إلى مدخل الكهف ورجع قائلًا:
- إنه مانريد.
دخل عليهم مانريد بوجهه المليء بالتفاؤل وبشرته المائلة إلى الحمرة ووجهه المشرق وكأن ابتسامةً دائمة مطبوعةٌ على وجهه.
كان (مانريد) متوسطًا في كل شيء، فبينما فوايت أبيض البشرة وسيبلاك أسمر البشرة، كان مانريد ذا بشرةٍ ما بين البني والبرتقالي مع شعر كستنائي. كان يُقال إن سبب لون بشرته وشعره أنّ أحدًا من أسلافه أكل كثيرًا من الطحالب المضيئة.
قال مانريد بهدوء: أرى أن كلاكما هنا ولم يقتل أحدكما الآخر.
ابتسمت چومانا قائلةً: لم يفعلا لأنني هنا.
قال مانريد: جيدٌ أنكِ هنا وإلا كنا سنجد أحدهما يأكل الآخر.
قال فوايت بوقاره المعتاد ويداه تستندان على عصاه المذهبة:
- عزيزي مانريد، أنا أقدر صداقة عزيزي سيبلاك، وإن كان هناك خلافٌ بسيطٌ في بعض الأمور الجانبية فنحن نتفق على كل الأمور الأساسية المهمة.
قال سيبلاك وهو ينظر إلى فوايت: قل لي شيئًا واحدًا نتفق عليه.
قال فوايت: نحن نتفق على.... إمممم.... حب اللحم على سبيل المثال.
قال سيبلاك:
- نعم، اللحم الذي أتذوقه كل عشرين يومًا وأنت تأكله كل ساعة.
قال فوايت:
- عزيزي سيبلاك، لا أحد يأكل اللحم كل ساعة وإلا لن يجد وقتًا للفاكهة والنوم.
هنا تدخّل مانريد في الحوار مبتسمًا وهو يقول:
- هل يمكن أخذ هدنة في هذا الحوار، والآن أين الباقون؟
جاءهم صوت من مدخل الكهف قائلًا: أنا هنا.
التفتوا ناحية مصدر الصوت فقال صاحب الصوت بصرامة:
- يجب أن تتعلموا أن تكونوا أكثر انتباهًا من هذا.
قالت چومانا بسعادة: بروتان، لم نسمع حتى وقع أقدامك.
كان (بروتان) قوي البنية جدًّا وكأنه صخر يتحرك على قدمين. يعيش بمفرده في غرفة خاصة قريبة من بيت قائده (حالوف). كان له أخ اسمه (أمارتين) ولكنه انتقل إلى المدينة الوسطى منذ سنين طويلة.
قال بروتان ذو البنية القوية والوجه الصارم:
- لذلك قلت إنكم يجب أن تكونوا أكثر انتباهًا من هذا.
قالت چومانا: هل وجدت صعوبة في المجيء؟
قال دون ابتسامة: أنا من الحراس، لا أحد يجرؤ على سؤالي.
قالت: أقصد الاستئذان من رؤسائك.
قال بروتان: أنا أعمل مع القائد (حالوف) ولا أحد يجرؤ على سؤالي إلا هو، وعندما أقول إنني لدي بعض الأعمال الخاصة فلا أحد يعترض.
قالت: حسنًا، الآن لم يبقَ إلا براحت أخي وفابكيراع.
لم يمضِ وقت طويل حتى جاء براحت شقيق چومانا مع فابكيراع صاحب ورشة الحدادة.
جلس السبعة على الأرض في دائرة وفي وسطها وضعت چومانا بعض الطحالب على الأرض حتى تنير الاجتماع.
بدأت چومانا الحديث وحكت لهم كل ما حدث مع وصف كيف قاتل خالد الحراس الباقيين وتغلب عليهم بمفرده وعندما انتهت ران عليهم صمت طويل ثقيل.
كان بروتان صاحب البنية القوية والوحيد المتعاون مع چومانا من الحراس هو أول من بدأ الحديث قائلًا: ما المطلوب منا؟
چومانا: أولًا، هل توافقون على دعوة خالد للانضمام إلينا؟
قال فوايت وهو يضع يده على مقبض عصاته الملقاه على الأرض أمامه:
- هناك سؤالان يجب أن نجيب عليهما چومانا: ما الذي سيقدمه لنا إن وثقنا فيه؟ وما الذي سنقدمه له بالمقابل؟
چومانا: سأجيب عن السؤال الأول الآن وسأرجئ السؤال الثاني.
ثم أدارت نظرها لتقابل عيون الجميع:
- في البداية، لقد رأيته يقاتل الحراس ولم أرَ في حياتي من يقاتل مثله، لقد قتل ثمانية من الحراس قبل أن أفيق من صدمة رؤيته بيننا، إنه سريع وقوي، ثانيًا: لا يمكن تهديده، كل منا لديه صديق، أو قريب أو شخص ما يخاف عليه، أما هو فلا يوجد إلا أخته وإن رجعت إلى العالم العلوي فسيكون حرًّا هنا، ثالثا: ليس لديه ماضٍ يضعف الثقة فيه ولذلك سيجتمع الأوبجازيون خلفه أو على الأقل لن يقاوموه.
أنت تقرأ
رواية جومانا (الحلم) / للكاتب محمود حسن دسوقي
Fantasyكان صوت أنين الأخير يصل إلى أذن چومانا ولكنها كانت تعلم أنه لا أحد يستطيع الاقتراب منهم ولا حتى أقاربهم. ومن يبدي فقط تعاطفه فسينتهي به الحال معلقًا مثلهم. كان سلوى أهاليهم الوحيد هو أن المُعلق سيموت سريعًا خلال يوم أو اثنين على أقصى تقدير ولن يتعذب...