جاء اليوم المنتظر وبدأ الحفل بأشعارٍ وأغانٍ تمجد الملك والحاشية مؤكدةً على بسالتهم وجهدهم في السهر على رعاية مصالح الشعب ثم تلتها بعض الفقرات الغنائية والاستعراضية ومن ثم بعض الألعاب بين فريقين أحدهما يرتدي الأخضر والآخر يرتدي الأسود وكلما فاز أحد الفريقين بشيءٍ ما صاح بعض الأوبجازيين وإذا فاز الفريق الآخر صاح البعض الآخر من الأوبجازيين. تبعتها فقرة قتال الأوبجاز كما يسميها النيروسيون وهي أكثر ما يتسلون به، إذ يتقاتل اثنان من الأوبجازيين حتى يقتل أحدهما الآخر. جائزة الفائز خمسة قطع ذهبية ويمكنه إعطاء جثة الخاسر لمن يشاء سواء أوبجازيين أو غولز.
كانت چومانا وبراحت وفابكيراع وفوايت وسيبلاك ومانريد وثلاثة آخرون ينتظرون في الممر الشمالي الغربي حتى يأتي دورهم كأحد الفرق العارضة في فقرات الحفل. أما الباقون فجلسوا وسط الأوبجازيين يشاهدون الحفل.
قبل أن يأتي دورهم بقليل وصل بروتان مرتديًا ملابس الاستعراض وعيناه لا ترتفعان عن الأرض بينما يرتدي الحكيم محتوب زيه التقليدي، كان بروتان يحمل صندوقين من العملات ومعهم عامل يحمل الصندوق الأخير.
وضع بروتان الصندوقين وأمر العامل ليضع الصندوق الأخير وينصرف.
قال محتوب بصوتٍ مرتفع قليلًا: ستكون فقرتكم بعد قليل.
أثار كلامه استغراب الحراس القريبين، فإنه من غير المعتاد أن يشارك أحد الحكماء في الحفل. ربما يحضرونه ولكنهم لم يروا أبدًا أحدًا منهم يشارك في التجهيزات لأنهم يعتبرونها مضيعةً للوقت ومنافية للوقار.
صرخ فيهم منظم الحفل ليتجهزوا قائلًا: أنتم الفقرة التالية.
قال الحكيم محتوب بصوت منخفض: سأنتظر هنا.
صرخ فيهم منظم الحفل مرةً أخرى وهو يشير إلى مجموعتهم التي انضم إليها بروتان: ادخلوا الآن.
وقفت المجموعة كاملةً في أرض الحفل في دائرةٍ وثلاثة منهم يحملون الصناديق، وخيم الصمت على الجميع إلا بعض همهمات وسط النيروسيين في انتظار أن تبدأ الفقرة.
نظرت چومانا إلى الملك، كان التاج من الذهب المرصع بالجواهر يرتفع وكأنه رأس ثانية فوق رأسه. كانت ألوان المجوهرات التي تزين التاج غير موجودة إلا في التاج ولم يرَ أحدٌ مثلها من قبل. ويقال إن ثمن الواحدة منها تعادل كل ما يمتلكه الأوبجازيون جميعًا.
شكلت المجموعة نصف دائرة مفتوحة حول مانريد الذي وقف ووجهه في اتجاه الملك ثم قال بصوت جهوري:
- بأوامر ملكنا الأعظم، حامي البلاد، ملك الأوبجاز والنيروس، مصدر الخير والرخاء، نبدأ بهدية الملك.
ومع آخر كلماته فُتحت الصناديق وبدأ الفريق يلقون بالعملات عاليًا لتسقط في ساحة العرض أقرب ما يمكنهم من السلم المؤدي إلى الملك.
وكما كان الاتفاق فقد تحرك الأوبجازيون المتعاونون معهم ليأخذوا من العملات الواقعة على الأرض ومع تحركهم تشجع باقي الأوبجازيين ليأخذوا من هبة الملك.
نظر الملك للأوبجازيين الذين يلتقطون العملات من على الأرض وعلى وجهه ابتسامة ثم قال لزوجته الجالسة بجانبه: هذه فكرةٌ جيدة.
أما قائد الحرس والواقف أعلى السلم المؤدي إلى كرسي الملك فقد اقتضب حاجباه من اقتراب الأوبجازيين لهذه الدرجة من الملك.
بدأ الأوبجازيون في دفع بعضهم البعض ليأخذ كل منهم أقصى ما يمكنه والملك يشاهدهم وابتسامته لا تفارق شفتيه.
كانت المسافة بين أقرب الأوبجازيين والسلم لا تتعدي خمسين قدمًا وقد بدأ بعض الحراس في التقدم لمنع الأوبجازيين من التقدم أكثر.
قالت چومانا لبروتان وهي تتحسس مقبض سلاحها المخفي تحت ملابسها بإتقان: متى؟
أخرج بروتان سلاحه وقال بصوت هادر كالفيضان:
- الآن.
أخرج جميع المقاتلين أسلحتهم وهجموا كقطيع من الذئاب على الحراس الواقفين أسفل سلم الملك.
كانت المفاجأة قويةً وقاتلةً حتى إنها شلت تفكير الحراس مما جعل كفة المعركة تميل بسرعةٍ ناحيتهم. فمع أولى لحظات الهجوم وفي أقل من ربع دقيقة كان أكثر من سبعة من الحراس قد قُتلوا وبدأ الباقون في التراجع والاكتظاظ أمام السلم. بدأ بعضهم في الوقوع فوق الآخرين وبعضهم بدأ في الصعود على السلم، وفي تلك الأثناء انضم الحكيم محتوب للقتال.
صرخ قائد الحرس على الحراس الواقفين داخل الممر الشمال الغربي:
- اهجموا عليهم.
انفصل مانريد وسيبلاك وفوايت وبعض المقاتلين من الأوبجازيين عن الباقين ليقاتلوا الحراس القادمين من الممر ليعطوا چومانا وبراحت والحكيم محتوب وبروتان وفابكيراع وبعض الأوبجازيين الآخرين فرصة الوصول إلى الملك.
صرخ قائد الحرس مرة ثانية على الحراس في الممر الشمالي الشرقي، والذين بدأوا في تطويق الأوبجازيين لتبدأ أسوأ مذابح شهدها الجيل الحالي من الأوبجازيين.
استطاع قليل منهم الإفلات من الحراس، أما الغالبية ممن جاءوا ليلتقطوا الأموال الملقاة على الأرض فقليل منهم من بقي رأسه متصلًا بجسده.
استمر القتال لأكثر من ربع ساعة وخلالها كان الإجهاد قد بلغ منهم مبلغًا شديدًا مع تدفق الحراس. حتى إنه عند قتل أحد الحراس يظهر مكانه أربعة وكأنهم ينبثقون من تحت الأرض. ولم يبدو أن هناك أملًا في الوصول للملك.
بعد أن مالت كفة القتال للأوبجازيين مع وقع المفاجأة، أصبحت الآن تميل للعكس حتى إن بعض الحراس استطاعوا محاصرة فابكيراع وچومانا وبراحت، وهنا صرخ الملك: لا تقتلوهم، أريدهم أحياء.
أعطت أوامر الملك فرصة للباقين أن يقاتلوا لفترة أخرى حتى قال الحكيم محتوب بصوت عالٍ: إلى الممر الشمالي الغربي.
تبع الجميع أو من استطاع منهم الحكيم محتوب، وقد استطاعوا أن يخترقوا صفوف الحراس الباقين داخل هذا الممر. وبمجرد أن عبروهم حتى أتى الحراس مدد من ساحة العرض فقال بروتان:
- اجروا، سأعطلهم وألحق بكم.
قال سيبلاك: سأبقى معك.
لم يجادله بروتان وحمل الاثنان حملة رجلٍ واحدٍ على الحراس مع هروب الباقين ثم قال سيبلاك فجأة: الآن، اجرِ بسرعة.
جرى الاثنان مدفوعين بحب الحياة حتى استطاعا الهروب من الحراس الذين تبعوهم لمسافة كبيرة ثم توقفوا راجعين إلى مكان الحفل بعد أن اختفت الطريدة عن عيونهم.
ظلوا يجرون لساعاتٍ حتى وصلوا إلى الكهف، كان بروتان وسيبلاك آخر الواصلين إلى الكهف مع اثنين آخرين من الأوبجازيين سقطوا أثناء جريهما فاضطر بروتان وسيبلاك إلى مساعدتهما.
ما إن دخل بروتان الكهف حتى لاحظ أن الكهف خالٍ تمامًا إلا من بعض الجالسين هنا وهناك. رمى كل من الأربعة المتأخرين بنفسه عند أقرب مكان وهما يحاولون التقاط أنفاسهم. أخذ بروتان ينظر حوله منتظرًا أن يظهر أحد آخر عند مدخل الكهف في أي لحظة.
بعد فترةٍ من السكون إلا من صوت الأنفاس المتقطعة والآهات المكتومة جاءهم صوت الحكيم محتوب قائلًا بصوت يختفي البكاء خلف أسواره: يبدو أنه لم ينجُ أحدٌ آخر.
قام بروتان من مكانه بصعوبةٍ فرأى محتوب محاطًا بمانريد وفوايت، فحاول أن يسأل عن الباقين ولكن خوفه من الإجابة التي يشعر بها منعته فنظر حوله يمنة ويسرة وهو يحاول أن يجد باقي الفريق.
بعد قليل استجمع شجاعته قائلًا: أين الباقون؟
نظر إليه محتوب دون أن يجيب فقال أحد الأوبجازيين الناجين:
- لقد رأيت الحراس يحيطون ببراحت وأخته وفابكيراع.
قال بروتان ببطءٍ عندما لم يجد صديقيه المقربين: وأين بارتان ولاخنوع؟
قال الرجل: آسف بروتان، لقد رأيتهما يسقطان.
ابتلع بروتان ريقه وهو ينظر إلى الناجين عسى أن يكذِّب أحدهم الرجل أو أن يكون لديه أخبار أخرى أقل قتامة، ولكن لم يتحدث أحد.
لم يكمل عدد الموجودين عشرة أفراد متضمنين الفريق والباقي إما هرب وانضم إلى الأوبجازيين العاديين أو قُتل أو تم أسره وهذا أبشع مصير يمكن أن يحدث لأحد.
قال فوايت بعد مدة وهو يستجمع شتات نفسه:
- الكهف ليس مكانًا آمنًا الآن، لأنه إن تم القبض على أحد فسيبلغ عنه حتمًا. الأفضل أن ننتقل إلى مكان آخر.
قال بروتان وهو يجاهد ليخرج نفسه من صدمة فقْد صديقيه:
- أعرف مكانًا آخر لن يخطر على بال أحد أننا هناك. اجمعوا ما تستطيعون حمله من أغراضكم واتركوا الباقي ودعونا ننطلق الآن.
قام الجميع وهم يحملون أنفسهم ويجمعون ما يستطيعون حمله من متاعهم وانطلقوا خلف بروتان الذي انسابت دموعه الصامتة إلى منفاهم الجديد.*****
أنت تقرأ
رواية جومانا (الحلم) / للكاتب محمود حسن دسوقي
Fantasyكان صوت أنين الأخير يصل إلى أذن چومانا ولكنها كانت تعلم أنه لا أحد يستطيع الاقتراب منهم ولا حتى أقاربهم. ومن يبدي فقط تعاطفه فسينتهي به الحال معلقًا مثلهم. كان سلوى أهاليهم الوحيد هو أن المُعلق سيموت سريعًا خلال يوم أو اثنين على أقصى تقدير ولن يتعذب...