الفصل السادس

149 11 0
                                    

الخميس - ما يوازي السابع عشر من إبريل
مدينة ساندرون - مصر
الساعة السادسة صباحًا

استيقظ خالد على صوت حركةٍ خفيفةٍ ففتح عينيه وهو ينوي إبلاغ أمه وأخته عن الحلم الذي رآه بالأمس، ولكنّ نظرةً واحدةً إلى مصدر الصوت جعلته يقفز واقفًا على قدميه وهو يبحث عن سلاحه، وقد عادت إليه ذكريات الأمس دفعة واحدة.
كان مصدر الصوت هو براحت لافون شقيق چومانا وهو يفتح الستارة التي تغلق مدخل الغرفة حاملًا معه بعض النباتات الورقية التي تشبه حزمة من النعناع وبيده الأخرى قطعة قماش ملفوفة حول شيء صغير.
قال براحت شيئًا ما ولكن "خالد" لم يفهمه وظل يمسح الغرفة بعينيه باحثًا عن سلاحه.
استيقظت چومانا على صوت أخيها فقالت شيئًا ما ثم توجهت بحديثها إلى خالد: طعام.. أتى طعام
قال خالد بغضب:
- أين سلاحي؟
تحركت چومانا إلى فاطمة ثم انحنت فوقها وحركتها قليلًا لتخرج سلاح خالد قائلةً:
- ها هو.... أحد.... لا يراه.
قال خالد وهو يتقدم نحوها بحذر:
- أعطني إياه.
أمسكت چومانا بنصله وأعطته مقبضه فأخذه ثم قال:
- ما هذه الرائحة؟
قالت وعلى وجهها ابتسامة عريضة أظهرت أسنانها البيضاء بالكامل:
- طعام.
أخذت چومانا الطعام من أخيها وجلسا يفترشان الأرض وأمامهما النباتات الورقية، ثم فتحت الحقيبة وأخرجت منها شيئًا ما يشبه الأرنب المسلوق ووضعته أمامهما.
مد براحت يده ليأكل ولكن أخته ضربت يده قائلة شيئًا بلغتهما ثم توجهت بحديثها لخالد قائلة بالعربية:
- لا أكل.... أمس صباحًا.
كان إباء خالد يمنعه من مشاركة الطعام مع من كانوا السبب في وصولهم إلى هذا الحال. ولكن معدته كان لها رأي آخر وظهر ذلك جليًّا في صوتها. لم تمضِ ثوانٍ حتى تغلبت معدته على كبريائه وجلس يشاطرهما الطعام.
قطع خالد الحيوان إلى نصفين ثم أخذ قطمة من الحيوان الزاحف الذي اصطادته چومانا بالأمس بعد أن طهاه براحت.

قطبت چومانا حاجبيها بغضبٍ وهي تنظر إلى اللحم بيد خالد وفي فمه قائلة بغضب:
- كثير.
كان خالد يمسك بنصف الحيوان الزاحف ولكن بعد كلمة چومانا توقف ونظر في عينيها مباشرة وقضم قضمةٍ أخرى منه.
قالت چومانا بغضبٍ:
- أنا ... أصطاده.
ثم مدت يدها لتخطف اللحم من يده ولكن يد خالد اليسرى كانت أسرع فضربت يدها لتبعدها.
تركت چومانا الأكل وقفزت لتأخذ اللحم من خالد الذي أمسكها ورماها بعيدًا فقفز براحت ناحيته ولكن خالد أمسكه ولوى ذراعه خلف ظهره ثم رماه للخلف.
كان صوتهم عاليًا فجاء على أثره الحكيم محتوب قائلًا بغضب:
- لم يمضِ يومٌ على وجودكم هنا وصوتكم لفت انتباه كل من بالمشفى.
قالت چومانا وقد فشلت في مقاومة دموعها:
- أخذ.... نصف الضاب..... اصطدته.
قال خالد:
- إذًا فهذا الشيء اسمه ضاب، الحقيقة طعمه لا يختلف كثيرًا عن اسمه.
قالت چومانا:
- لا لحم..... كثير أيام ... يأخذ.... نصفه.

قبل أن يتفوه أحد بشيءٍ آخر صدر صوت تأوه ضعيف، فالتفت الجميع ورمى خالد قطعة اللحم وانطلق ليجلس بجانب أخته وبجانبه الحكيم محتوب وهو يتفحصها.
قال خالد:
- هل ستفيق؟
قال الحكيم:
- المفترض أن تفيق منذ ساعات. لا أعلم ما الذي أخرها.
ثم التفت إلى چومانا قائلًا:
- الإضاءة.
تركت چومانا الطعام بعد أن أخذت قطعة اللحم التي رماها خالد ومسحتها ثم انطلقت لتأتي بشمعة لتسخن الأعمدة لتزيد من إضاءة الطحالب.
بدأت فاطمة تهزي ببعض الكلمات المبهمة لمدة ثم فتحت عينيها وظلت تنظر إلى خالد وهي عاقدة حاجبيها ثم قالت وهي تتأوه ثانية:
- ماذا حدث؟
قال خالد مبتسمًا ويده تمسح على شعرها ووجهها:
- هل تذكرين حينما كنتِ صغيرة، ألم تكوني تتمني أن تذهبي في مغامرة مثل الأميرات مع أبي -رحمه الله-؟
ابتسمت فاطمة ولم تجب فأضاف خالد وهو يقلد أسلوب أفلام الرسوم المتحركة:
- نحن في مغامرةٍ مثيرةٍ.
ثم أضاف: ولكنها جاءت متأخرة أكثر من عشر سنوات.
حاولت فاطمة أن تستند على يديها لتعتدل جالسة ولكن الحكيم وضع يده عليها قائلًا:
- استريحي، الأفضل أن تظلي راقدةً حتى تستعيدي قوتك.
قالت فاطمة:
- أنت تتكلم بطريقة مضحكة.
ثم ابتسمت وهي تنظر إلى ملابسه البيضاء المطرزة بخيوط ذهبية:
- لماذا ترتدي هكذا؟
أجابها خالد:
- هذه جزء من المغامرة؟
نظرت حولها ثم قالت:
- أين نحن؟
ثم رأت چومانا وبراحت وظلت تحدق بهما للحظات، ثم تحولت ملامحها إلى رعبٍ صافٍ عندما قفزت أحداث الأمس لذاكرتها.
دفنت فاطمة وجهها بيديها وجسدها يهتز بشدة وكأنه موصلٌ بتيارٍ كهربائيٍّ. وضع خالد يده على كتفها فرمت فاطمة بنفسها على صدر أخيها الذي احتضنها بقوة.
لم تدرِ چومانا ما تقول ولا كيف تعتذر فظلت واقفةً ودموعها تنساب بصمت. قالت بعد مدة وبصوت منخفض:
- آسفة... لا إرادتي.
ظلت فاطمة في نوبة البكاء الهستيري لأكثر من نصف ساعة وجسدها يرتج وخالد محتضنها بقوة.
أشار الحكيم محتوب إلى چومانا بأن تظل صامتة حتى هدأت فاطمة تمامًا والتي قالت وهي تتحاشي النظر إلى چومانا:
- ماذا حدث لأمي؟ وأين نحن؟ ولماذا فعلوا ذلك؟
اعتدل خالد في جلسته ثم قال:
- سأحكي لكي التفاصيل ولكن عديني بأن تكوني قوية وتتحملي كل ما سأقوله.
وعدته فاطمة فأخبرها أنه رأى أنه من الأفضل أن يبقى معها تنفيذًا لوصية والده بأن يعتني بها ولأن خاله سيعتني بأمهما ثم حكى لها كل ما حدث دون إغفال أي شيء وأيضًا من هؤلاء ولماذا هم تحت الأرض وكل ما عرفه من الحكيم محتوب ثم حكى لها ما عرفه عن سبب خطفها وعن الملك والحاشية واعتقاداتهم.
قالت فاطمة بعد أن انتهى خالد وعلى وجهها علامات رعب مخلوط بامتعاض:
- كانوا يريدون أكلي؟!!
ابتسم خالد على الرغم منه وجذب رأس أخته إلى صدره ثانية لثوانٍ. نظرت فاطمة إلى چومانا التي جلست منكمشة بجانب الحائط:
- لماذا فعلتِ ذلك بي؟
قالت چومانا ودموعها تنساب بصمت:
- بشرية علوية.
قالت فاطمة:
- ولماذا علوية؟
هنا تدخل محتوب في الحديث قائلًا:
- هناك أسطورة تقول إن لحوم البشر العلويين تعطي قوة للرجال وتزيد جمال النساء.
ثم أضاف عندما رأى الدموع في عين چومانا:
- لا تقسوا عليها، إنها لا تملك الاعتراض أو الرفض، وإن رفضت فستتمنى الموت ألف مرة.
تنهد ثم أكمل:
- بعد العلاج سترجعان إلى بيتكما أما هي فسيكون الموت مصيرها إن كانت محظوظة أو كان لديها الجرأة لتقتل نفسها أما إن تم القبض عليها فهناك سببان لتعذيبها حتى تطلب الموت ولن تجده.
قالت فاطمة:
- لماذا؟
رد محتوب:
- مات الحراس جميعًا وسيتهمونها وأخاها بقتلهم ثم اختفت الفريستان الخاصتان بالملك... العذاب الذي سيقع عليهما خارج حدود مخيلتي.
قال خالد:
- هذا جزاؤها.
أما فاطمة فردت بعاطفة الأنثى:
- هي لم تقتل أحدًا.
قال الحكيم:
- هذا لا يهم، سيجعلون منها ومن أخيها عبرة لكل الأوبجازيين.
صمت للحظات ثم قال لفاطمة مغيرًا الموضوع:
- يجب أن تأكلي الآن حتى تستعيدي بعضًا من قوتك.
قربت چومانا الطعام لها ثم رجعت إلى مكانها بجانب الحائط وعيناها لا تفارقان الحيوان المطهو الذي اصطادته بالأمس، أخذت فاطمة أول قطعة ثم بصقتها وهي تقول:
- طعمه سيئ.
قال الحكيم: يجب أن تأكلي.
تدخل خالد في الحديث:
- اضغطي على نفسك وتناوليه.
أخذت فاطمة تتناول قطعًا صغيرة وملامح وجهها تشي بطعمه.
ظلت چومانا تنظر إلى فاطمة وهي تتناول الطعام ثم قالت شيئًا باللغة الأوبجازية ورد عليها الحكيم محتوب باللغة نفسها.
قال الحكيم محتوب لخالد:
- إن اللحم شحيحٌ بدرجةٍ كبيرةٍ وسط الأوبجازيين وعندما يجدونه يجب أن يحموه حتى لا يأخذه أحد منهم. لذلك تضايقت چومانا مما فعلته لأنها لم تأكل أي لحم منذ خمسين يومًا ومع ذلك جاءت باللحم هنا كي تتقاسمه معكم ولكنك أخذت نصف الضاب وهذا دفعها للجنون.
توقفت فاطمة عن الأكل قائلة:
- لقد شبعت، يمكنها أن تأخذ الباقي.

رواية جومانا (الحلم) / للكاتب محمود حسن دسوقيحيث تعيش القصص. اكتشف الآن