الفصل السادس عشر

113 11 0
                                    

بحث خالد في كل الأدراج في دولابه ومكتبه وفي غرفة والدته عن تليفونه المحمول حتى وجده. أوصله بالشاحن ثم جلس مع فاطمة في صالة البيت بعد أن تأكد أن الهاتف قد بدأ يتقبل الشحن.
قالت فاطمة وهي تنظر إلى خالد:
- ماذا ستقول لهم عن تغيبنا؟
مط خالد شفتيه وهو يقول: أنا لم أتوقف عن التفكير ولا أجد حلًّا، بالتأكيد لن نقول لهم إننا كنا مخطوفيْن تحت الأرض وبالطبع لم نكن نقضي أجازةً في الريفييرا.
قالت فاطمة وهي تشير بالسبابة: وأيضًا لم نكن مخطوفين من عصابة ما، لأن هذا سيثير تساؤلات وسيجذب الشرطة.
خالد: الحل الوحيد هو أن نطمئنهم علينا ونقول لهم أن يتصرفوا وكأننا لم نغب ولا يبلغوا أحدًا بعودتنا.
قالت فاطمة: هل أثر وجودك تحت الأرض على دماغك، بالطبع لن يقبلوا بهذا الكلام. ولكن دعنا من أمي وخالي الآن، ماذا ستقول لهم في عملك؟
قال خالد بغضبٍ غير مبرر: أنا لا أعمل لدى أحد، أنا أعمل عندما أريد وفي الوقت الذي أريده.
أشاحت فاطمة بيدها وهي تقول: أنا أفهم هذا، ولكن صديقك الذي يتصل بك ويبلغك أن هناك عملًا مع شخص ما، ماذا ستقول له عن فترة تغيبك؟
قال: سأبلغه أنني فضلت أن أقضي فترة في عزلة حتى أعيد ترتيب حياتي.
قالت: ألن يغضب؟
قال خالد بشيءٍ من اللا مبالاة المتتزجة بالفخر: سيغضب بالتأكيد. ولكنني لا أهتم لأي أحد، هناك كثير من الحراس الشخصيين ولكن ليسوا كثيرين من كانوا في قوات الصاعقة.
قالت فاطمة: آمل ألا يؤثر غيابنا على علاقاتك بعملائك.
ثم أضافت بشيء من الحماسة: بالمناسبة يا خالد، أريد أن أراك وأنت تعمل يومًا ما.
قال خالد: عملي ليس كما تظنين، أنا أقضي معظم الوقت أقف بجانب العميل أرتدي نظارةً سوداء وأنظر حولي إن كان هناك خطر ما.
قالت وقد اعتلاها قليل من خيبة الأمل: فقط؟
ابتسم قائلًا: لا أحد يجرؤ على مهاجمة عملائي إلا مجانين المعجبين. وهؤلاء لهم طريقة معاملة خاصة سأكلمك عنها لاحقًا، المهم الآن هو الاتصال بأمك فقد شحن هاتفي بما فيه الكفاية.
وقف خالد وأمسك الهاتف بترددٍ ثم جلس على الكرسيّ ثانية وهو يرمي الهاتف على الأريكة المجاورة له قائلًا: لا أعلم.
قالت فاطمة وهي تعيد الهاتف لأخيها: لا تعلم ماذا؟
لم يجب سؤالها وظل صامتًا لبرهة ثم قال وهو يقف: تعالَي، سنتحدث إليهما ونحن في الطريق، الأفضل أن نتكلم معهما وجهًا لوجه.
لم تمضِ ساعتان حتى وصلا إلى بيت خاله بشبرا، قالت فاطمة بعد أن نزلت من السيارة الأجرة: الحياة صاخبةٌ وسريعةٌ جدًّا هنا، أسرع بكثير مما هي عليه هناك.
قال خالد مبتسمًا: كل شيءٍ أسرع من حيوان الماندور.
قالت فاطمة وهي تنظر إلى مدخل العمارة: هل فكرت أن تخبر الناس الحقيقة، أقصد عن وجود عالمٍ آخر تحت الأرض.
قال خالد: أولا سيتهموننا بالجنون، ثانيًا هذا سيكشف أمرهم وفي هذا خطرٌ على وجودهم.
ثم أكمل: ولكن فكرة أننا كنا مخطوفين هي فكرة جيدة. دعي لي التفاصيل وأنا سأتكفل بها.
مطت فاطمة شفتيها وكأن الكلام لم يعجبها ولكنها قالت: هذا كلام أفلام ولكن تصرف كما تشاء.
قال خالد وهو يطلق زفيرًا بصوتٍ عالٍ وكأنه يريد إخراج توتر أعصابه مع الهواء الخارج: على بركة الله.
ثم اتصل على رقم والدته ولكن الهاتف كان مغلقًا. حاول عدة مرات دون فائدة فقام بالاتصال بخاله.
بعد ثوان رد خاله سالم: خالد!!!!!!!
قالد خالد: نعم يا خالي، أنا خالد.
قال سالم: أين أنت يا خالد؟ وأين فاطمة؟
قال خالد وهو يتحرك نحو مدخل العمارة وفاطمة بجانبه: نحن تحت منزل حضرتك وسنصعد حالًا.
قال سالم والقلق ينضح من كلماته: هل أنتم بخير؟
قال خالد: نعم، نحن بخير وسنصعد الآن، أين أمي؟ هاتفها مغلق.
تردد خاله سالم للحظات ثم قال: اصعد وسأحكي لك، أنا منتظرك.
دب خوفٌ غريب في صدر خالد: سنكون عندك في ثوانٍ.
سألت فاطمة: ماذا حدث؟ أليست أمي فوق؟
قال خالد وهو يعيد هاتفه لجيبه: لا أعلم ولكن كلامه أصابني بالقلق.
بعد ثوانٍ وصلا إلى الدور الثالث الذي يقيم فيه خاله، وما إن وصلا إلى ذلك الدور حتى وجدا خالهما أمامهما وهو يهجم عليهما ويحتضنهما بشدة.
مرت لحظات طويلة وخالهما يحتضنهما ودموعه لا تفارقه بينما ظل خالد وفاطمة صامتيْن.
قال زوجة خالهما سالم بعد مدة: دعهما يدخلان يا سالم.
مسح خالهما عينيه وهو يقول: ادخلا. دعونا نتحدث بالداخل.
مشي خالهما وهو واضعٌ يديه على كتفيْ خالد وفاطمة وكأنه يخشى أن يفقدهما ثانيةً، وبعد أن دخلا واستراحا وسلما على أبناء خالهما الكثيرين قالت فاطمة وهي تتلفت حولها: أين أمي؟
ابتلع خاله سالم ريقه، ومقلتا عينيه تتراقصان وكأنهما تخشيان البوح.
كرر خالد السؤال ثانية فقال خاله سالم: لله ما أعطى ولله ما أخذ وكل شيءٍ عنده بمقدار. فاتقوا الله واصبروا.
لو استطاعت الكلمات البكاء لاستطاع قلمٌ أن يصف الحزن الذي أصاب خالد وفاطمة. ولكن لا كلمات تستطيع وصف تلك المشاعر ولا حروف تشرح ذلك الألم. ألمٌ يقتل الإنسان من الداخل، ألمٌ مصدره كل ذرةٍ في جسد الإنسان، ألم لوح الزجاج وهو يتكسر إلى مئات القطع، ألم وكأن الإنسان يتنفس من ثقب إبرة.
دفنت فاطمة وجهها في يديها واجهشت بالبكاء وهي تقع على أقرب كرسي لها بينما ظل خالد صامتًا وهو يجلس بدوره على الكرسي المجاور لها غير مستوعب ما حدث. بدأ عقله يلومه على اتخاذ قرار بقائه بالأسفل. كان لا بد أن يترك أخته في رعاية الحكيم محتوب ويعود ليطمئن أمه.
استمر الندم ينهش في قلبه ولحمه، حاول التماسك ولكن دموعه خانته. بكى لدقائق ثم أجبر نفسه على التوقف حتى تستمد أخته قوتها منه فالآن لم يبقَ لها في هذا العالم غيره.
أخذت زوجة خاله وبناتها فاطمة إلى إحدى الغرف وبقي خالد مع خاله وأبنائه وهم يواسونه.
استمر الحال ما بين بكاء وحديث نفس وجلد للذات لا يقطعه إلا صوت المروحة المتهالكة حتى وصلت الساعة إلى الرابعة عصرًا. وتحت إلحاح خاله وزوجته وافق خالد وفاطمة أن يأكلا معهم.
بعد الغداء تحدثا عن فترة ما قبل وفاة والدتهما، وتجنب خالهما ذكر أي شيءٍ خاص بحزنها عليهما حتى لا يزيد من ألمهما.
وبعد ذلك أمر خاله أولاده أن يتركوهم هو وزوجته بمفردهما مع خالد وفاطمة ثم سألهما على استحياء عن ماذا حدث وأين اختفيا تلك الفترة الماضية.
قال خالد: سأحكي لكم كل شيءٍ بالتفصيل ولكن ما سأقوله يجب أن يبقى سرًّا.
ثم أخذ يؤلف ويحكي لهم كيف تم اختطافه مع فاطمة وكيف نجحا في الهرب لاحقًا.
استمر الحديث لفترة تخلله كثير من الأسئلة وبكاء فاطمة المتقطع.
قال خاله سالم وهو يمسح عرقه: هل أبلغتما الشرطة؟
قال خالد بقوة: لا، ولن نفعل.
تغيرت تعابير وجه خاله سالم: لماذا؟
قال خالد: أولًا لا يوجد أي دليل، ثانيًا أنا عملي هو حماية الناس فكيف سيكون تأثير ذلك على العمل إن عُرف أنني لم أستطع حماية نفسي.
قال سالم: أنا أتفهم هذا ولكن يجب إبلاغ الشرطة حتى لا يؤذونكم ثانية.
قال خالد: لن يستطيعوا، لقد أخذت احتياطاتي جيدًا.
قال سالم: ما زلت أرى أنه من الأفضل أن تبلغا الشرطة وحتى يتم إغلاق القضية.
قال خالد بحدة: لا، لن نبلغ الشرطة، ولن يفعل أحد. الموضوع انتهى ولن نفتحه ثانية.
تعجب سالم من أسلوب ابن أخته الجاف ولكنه أرجعه لما يمر به حاليًا.
ظل الحديث مستمرًّا حتى قبيل منتصف الليل. وقبل الانصراف حاول خالهما أن يجعلهما يبقيان للصباح ولكن خالد وفاطمة تحججا بأشياءٍ كثيرة واعتذرا بأدبٍ لعلمهما بضيق الشقة وبكثرة أبناء خالهما.

*****

رواية جومانا (الحلم) / للكاتب محمود حسن دسوقيحيث تعيش القصص. اكتشف الآن