الفصل الثاني :
صباحًا، كان فارس يتناول افطاره كعادته في احدى الكافيهات القريبة من النيل، والتي تطل على مظهر يجعل قلبه ينشرح وتغدقه شمس الأمل والتفاؤل والراحة النفسية.
انتهى ونهض يضع بعض الاموال على الطاولة، وكاد يتحرك ولكن أوقفه لوهله ظهور اخر شخص تمنى رؤيته، حيث " نغم" طليقته السابقة، كانت بالقرب منه ويبدو أنها رأته قبل أن يراها، أحس أن كل الراحة النفسية التي كان يلتمسها فرت ادراج الرياح لمجرد رؤية تلك النغم!
تحرك بعد أن رمقها بنظرات تصرخ بمقته واشمئزازه، ولكنها سارعت بالاقتراب منه وهي تناديه:
-فارس استنى.
إلتفت لها ولم تتبدل نظراته بل ازداد اتساع قاعها المليء بالنفور، فوقفت هي امامه وهتفت بنبرة بدت له لزجة:
-إيه مالك مشيت بسرعة أول ما شوفتني وكأنك شوفت عفريت ليه؟
-دا العفريت أرحم.
بصق الرد التلقائي بوجهها فاتسعت عيناها ذهولًا من اعلانه لنفوره وحقده بهذه الطريقة، فقد عرفته دومًا على أنه شخص لبق لطيف وهذا ما جذبها له في البداية.
عقدت ما بين حاجبيها وهي تعاتبه ببجاحة لم يفطن مصدرها:
-مش فاهمة أنت بقيت بتحقد عليا ومش طايقني كدا ليه، مع إن اللي عملته عادي، وطبيعي أي واحدة مكاني تقرر هتقدر تتنازل عن الأمومة او لأ، وأنا دي بالذات مش هقدر عليها سوري يا فارس.
ضغطت وبقسوة على جرح قلبه ورجولته النازف، فـ خر ذلك النزف على حروفه الهوجاء وهو يزمجر فيها:
-مش طايقك علشان واحدة قليلة الأصل ومادية وحقيرة، كنت بتجاهل كل عيوبك وجشعك ولو كان العيب عندك كمان كنت هستحمل ونحاول عشان أنا أصيل.
رفعت كتفاها معًا ببرود تحاول به مداواة كبريائها الذي جُرح للتو:
-بس الحمدلله العيب مش عندي، أنا من حقي أبقى أم وأعيش حياة طبيعية من غير نقص.
أردف فارس من بين أسنانه بلهجة غليظة:
-عمرك ما هتعيشي من غير نقص، لأن النقص أصلًا جواكي.
ثم غادر المكان تاركًا إياها خلفه تكز على أسنانها بحقدٍ دفين، وكأن عاصفة هوجاء مرت مبعثرة خلفها ذرات الهواء حتى.
ركب سيارته وهو يتنفس بصوت مسموع، بدا وكأنه يحاول نفث نيران الغضب التي إلتهمت دواخله، فبعدما جاهد ليلملم رماد كرامته وكبريائه جاءت هي برياحها العاتية وهبت ناثرة كل ما لملمه لتتركه يشعر بالخواء فقط...!
ضرب على المقود عدة مرات وهو يصرخ بجنون طالقًا تلك الآهه المتحشرجة التي علقت بجوفه ممزقة إياه.****
بعد قليل..
استطاع فارس استعادة ولو قليل من ثباته الذي أفقدته إياه، وتوجه نحو شركته كالمعتاد، اتجه للمصعد مباشرةً، وقبل أن يُغلق باب المصعد كان احد الرجال الاداريين في الشركة، يقف بسرعة على أعتابه حتى لا يُغلق، وينظر لـ "فيروز" هاتفًا يحثها على القدوم:
-يلا يا فيروز أطلعي طلعي الورق زي ما قولتلك.
هزت فيروز رأسها نافية وهي تنظر للمصعد بخوف وكأنه وحش كاسر سينقض عليها في التو !
وتمتمت بحروف زهقها الارتياع:
-لا بخاف والله يا استاذ دياب.
زجرها الاخر مشددًا على حروفه في صرامة:
-مينفعش الورق يتأخر دقيقة كمان يا فيروز، وأكيد مش لسه هتطلعي 10 ادوار بالسلم، يلا اتحركي بسرعة بلاش دلع بقا.
حينها تدخل فارس الذي كانت الشياطين تتقافز أمام عينيه، وكأن الدنيا من أمامه أصبحت باللون الأحمر، هادرًا فيها بحدة:
-هنقعد نتحايل على حضرتك اليوم كله ولا إيه يا أنسة! دا مش أسانسير للموظفين أصلًا دا للإداريين بس، وأنا ساكت احترامًا لوجود استاذ دياب، فياريت بلاش عطلة.
انتفخت اوداج فيروز بالغيظ وتلبسها مارد العناد فتحركت بلحظة لتصبح داخل المصعد، فلوى فارس شفتاه متمتمًا دون صوت:
-دلع ماسخ!
اُغلق الباب وبدأ المصعد يتحرك بالفعل، ثقلت أنفاس فيروز وبدأت تشعر أن جدران صدرها تضييق حتى لم يعد هناك مجال للتنفس، دون وعي وضعت يدها على ساعد "فارس" الذي انتبه لتوه لحالتها متفاجئًا من الاعياء الذي فرش بساطه محتلًا ساحة وجهها، وانطفاء الحياة في عينيها الفيروزية وتصاعد بدلًا منها دخان الهلع.
أمسك ذراعها وكأنه يثبتها حتى لا تخر ساقطة ارضًا، وسألها بصوت بدأ الندم يلفحه:
-أنتي كويسة؟ أنا فكرت إنه خوف عادي ودلع.
-فوبيا، عندي فوبيا، خرجني.
غمغمت بها بحروف متقطعة وكأنها تجاهد لإخراجهم، فأحاط فارس ذراعيها معًا بحركة مباغتة لم تمر على عقله الصلد، وبدأ يمسد على ذراعيها برفق وبشيء من الحنو يهدهدها وكأنها طفلته الصغيرة:
-اهدي واتنفسي، أحنا خلاص وصلنا دي دقيقة وأقل من الدقيقة كمان.
وبالفعل فُتح باب المصعد، فبدأت تتنفس الصعداء مغمضة عيناها، تشدق فارس يناكفها:
-أنتي إيه حكايتك كل شوية ألحقك من حاجة، حد قالك إني السوبر هيرو بتاع الشركة دي؟
ضيقت عيناها وهي ترمقه باستنكار مُبطن، ثم تابعت في حنق:
-وهو مين السبب؟ لو ماكنتش.....
وبقيت جملتها معلقة كالتي استوعبت للتو أنه "مديرها" في العمل وليس صديق طفولتها زياد!
عضت على شفتيها في غيظ ونظرت للاتجاه الاخر، فتدلت الابتسامة على ثغر فارس الذي استطرد مشاكسًا:
-وإيه كمان ؟ كملي كملي ماتكتميش في قلبك ليجرالك حاجة.
نظرت فيروز ارضًا، ثم رفعت رأسها ببطء بعد ثوانٍ وقد تخضبت قسماتها بالمسكنة وهي تتشدق:
-أنا أسفة يا باشمهندس دا بس من ضغط الموقف اللي اتعرضتله دلوقتي.
أوشكت الاجابة على تخطي شفتاه، ولكن نظرة احد الموظفين له وهو يقف ليدردش مع مجرد موظفة عادية في الشركة، وعلى غير طبعه!
جعلت الاجابة تتراجع لمسكنها من جديد، وتنحنح قائلًا بصوت أجش آمر:
-اتفضلي روحي على شغلك.
ثم تحرك مغادرًا المكان تاركًا إياها رافعة حاجبيها بغيظٍ ملحوظ من التحول الذي أصابه، فقد كانت تحاول شغل تفكيره بردود أفعالها المباغتة باختلافها، ولكن اتضح أنه هو الذي فعل وباغتها.
**
توجهت بعدها لاحد المكاتب حيث يعمل "دياب" الذي ساعدها منذ قليل، وما أن دخلت وأغلقت الباب خلفها، أردفت متأففة:
-هو مفيش أي حل اتنقل اشتغل فوق معاه؟ كدا مش هينفع.
هز رأسه نافيًا وهو يرسخ اقدام العقبة التي تمنت فيروز ازالتها:
-منا قولتلك يا فيروز من الأول إن الموضوع صعب وإن فارس ابو الدهب مش شخص عادي.
بلحن صوت قانط أكملت:
-بس أنا كدا محتاجالي سنتين تلاتة عشان أعمل اللي أنا عايزاه.
رفع الاخر كتفاه معًا وهو يؤكد:
-أنتي مضطرة تستحملي للأسف، قوانين الشركة هنا صعبة ومفيهاش وسطات.
بدأت تبوح بمخاوفها، متذكرة اصطناعها الرعب والتظاهر أنها لديها فوبيا !
وكيف كانت كانت دقات قلبها مهتاجة وفي حالة رثة من الهلع، ولكن ليس بسبب المصعد، بل خشية ازاحة ستار الخداع عن عيني "فارس" واكتشافه لكذبها..
-أنا خايفة يبتدي يشك إن أنا بعمل المواقف دي عن قصد، دا لاحظ إنه أنقذني كذا مرة!
صمت "دياب" ولم ينطق، وارتسم الخوف على بقاع معالمه، فأدركت هي مغزى ذلك الخوف، ربتت على يده متمتمة:
-متقلقش كل حاجة هتكون كويسة.
-فيروز أنتي لازم بعد كدا تظهري قدام فارس بطريقة غير مباشرة ومش مقصودة ولازم تاخدي بالك إن فارس ذكي جدًا.
حذرها بشيء من الحزم، فهزت رأسها موافقة وهي تسير مغادرة، تحاول تبديد ذلك الشعور بأن الطريق طويل وصعب امامها، بل ومليء بالأشواك.
أنت تقرأ
رواية " لخبايا القلوب حكايا " بقلم/ رحمة سيد
Romanceرواية رومانسية اجتماعية ❤ أتمنى لكم قراءة ممتعة 😍