~ الفصل الرابع عشر ~
ضيفنا اليوم شاعر هادئ، حرمتنا منه أيادٍ آثمة. بقلبه حبّ لـ وطن ولها .. { غسان كنفاني }
{ أريد أن أنسى
ليس بوسعي أن أطمر الزهرة الوحيدة في عمري هكذا،
لمجرد أنكِ ذهبت، وأن أملي في أن ألقاكِ هو مثل أملي في أن ألقى طفولتي.
فيا أيتها الطليقة التي حملها جناحاها إلى أرض لا أعرفها، والتي كان علي منذ البدء أن أعرف بأنها ،
مثل العصافير، ستضرب في فراغ السماء وجاذبية المدى الذي لا يحده حد، لست أطمع منك بالعودة .
لقد رف جناحاك في زنزانتي وتركا في هوائها الساكن شيئاً يشبه خفق القلب،
زرعا في صمتها خفقة طليقة وتركاها تغطس في وحدتها المرة.
لست أطمع منك بالعودة، فالعصافير لا تسكن أعشاشها مرتين، وحين نفضت عن ريشك كسل القرار عرفت أنا أنك لن تعودي..
ولكن كيف تركتك تذهبين؟ كيف لم أربط نفسي إليك مثلما ربط السندباد نفسه إلى ريش الرخ؟
ليس عندي، أيتها الطليقة ، يا خبزي ومائي وهوائي، إلا الندم، وبعيداً في قراره توجد بذرة للشجرة القادمة }رعشة عشق ~
{ إنني أحبك
أحسّها و أنا أتذكّر أنني قاومت الدموع ذات يوم وزجرتها،
و الآن أبكي بحرقة بمرارة لم أعرفها }
ينفث دخان سيجارته مكوّنا سحابة كثيفة من الدخان، تترنّح أمام وجهه لترسم دوائر فارغة تشبه لما يدور في رأسه من أفكار تحيطها حلقات مفرغة كتب في وسطها إسمها " سما " يخرج الحروف من بين شفتيه لتتعانقا بعد كلّ حرف مستلذّا بطعمها المختلف الذي لم يعهده سوى منذ أيّام، منذ أن عانق الحقيقة وتصالح مع بعض من ذاته التي خاصمته يوم إتّهمها، تلك الذات كانت تصرخ ببرائتها، كانت تهدّد بفقدانه لها، كانت تندّد بالندم الذي سيزوره يوما، ذاته التي قمع صوتها منذ تلك الليلة المشؤومة، ليردم كثيرا من التراب عليها، ينعاها ببروده وصقيعه. ذاته التي عادت إليها الحياة وبعودتها عزفت الرياح سمفونيّة الحبّ ورقصت الأمطار على أنغامها وحلّقت الطيور تشدو فرحا بها، كاد منزله أن يخنقه وهو يرى حاجاتها مبعثرة بين أرجائه، أعاد ترتيبها بعد أن أثار فيها الفوضى في لحظة غضب زارته ليلة إتّهامه لها، لا يصدّق نفسه أنّه نام قرير العين معانقا فستانها البصليّ الذي طالما عبّرت عن عشقها له، ظنّا منها أنّه هديّة منه إليها، إنتقاها قلبه وإختارها عقله ولمستها يداه وهو ما كان سوى إختيار أخته في يوم عتب على نسيانه إهداء زوجته هديّة عيد ميلادها، لتأتي ملتفّة في ورق فخم، تحمل عبارة لا يتذكّر أنّه قالها يوما وتحته إسمه كُتب بحروف أنيقة كلّ قارئ لها سيعلم يقينا أنّه ليس بخطّ يده، فلما ظنّتها منه أم تراها تعلم أنّها مخطّطات صديقة طفولتها سنان التي تعرف خطّ يدها من بين ألاف الخطوط فقط أسكتت صوت عقلها وتقبّلتها بقلبها، أيعقل ؟ بل هو اليقين، لا عجب أن تفعلها ..! أليست هي سما، براءة الطفولة، عطاء لا ينبض، قلب يُبهج رغم أنينه ويد تُربّت رغم كسورها وعين لا تغفو رغم تعبها وإبتسامة تُواسي رغم حزنها، أليست هي سما، سماء تحتها طيّب جراحه وتصالح مع الحياة، تحتها وجد الأمان، طفل بداخله يخطئ وأمّ بداخلها تسامح فهل تعفو خطأه ذاك كما كانت تفعل دوما ؟ سؤال ردّده مرارا، كلّما إقترب من أشيائها، ليخنقه ويدفعه للخروج بحثا عنها، فلا يبارح سيّارته من أمام منزلها طوال اليوم، من بزوغ الفجر حتّى إنتصاف القمر في سماءٍ غاب عنها القمر.
يخرج تنهيدة حسرة، يرمي سيجارته من نافذة السيّارة لتعانق الأرض المغطّاة ببياض جميل، يرفع عينيه إلى السماء، يرى كرات الثلج الصغيرة تتساقط بهدوء دون أن تصدر صوتا قد يزعج الأشجار، الأبنية والأرصفة التي تستقبلها، يعود بنظراته إلى مدخل بيت زوجته، يفرك يديه ثمّ ينفخ فيهما محاولا بثّ بعض الدفئ إليهما، يشرد في أصابع يده المنتفخة، " حبيبي هل تشعر بالبرد، أوه اُنظر أصابعكَ إنتفخت بسبب الصقيع " تمسك بكلتا يديه، تفركهما بيديها الصغيرتين الدافئتين، لتبعث بدفئها إليهما، " أحمق .. نعم كنت أحمق " يردّد تلك العبارة بصوت عال أفزع طيرا كان يقف على شجرة السرو القريبة منه لينتفض بجناحيه ويغادر المكان عاليا، يعيد شتم نفسه وهو يتذكّر مافعله يومها " أحمق " لكم كان أحمق حينها وهو ينفض يديه عنها كما نفض العصفور ريشه ليبعد يديها ويواصل سيره نحو متجر الحيّ لإنهاء تبضّعهما الأسبوعيّ.