الفصل الثامن عشر

268 3 0
                                    



~ الفصل الثامن عشر ~

{ أنتَ السماء ،، وأنا بلا أجنحة ! }

قرأت هذه العبارة فأحسست كم تليق بهذا الفصل.. عنوان أضعه له يصف حال أبطالنا..



{ يا قلبها..
يا من عرفت الحب يوما عندها
يا من حملت الشوق نبضا
في حنايا.. صدرها
إني سكنتك ذات يوم
كنت بيتي.. كان قلبي بيتها
كل الذي في البيت أنكرني
و صار العمر كهفا.. بعدها
لو كنت أعرف كيف أنسى حبها؟
لو كنت أعرف كيف أطفئ نارها
.. قلبي يحدثني يقول بأنها يوما..
سترجع بيتها؟ !
أترى سترجع بيتها؟

ماذا أقول.. لعلني.. و لعلها }







دقّة قلب صامتة ~

{ وقلبي الذي له رائحة يدك، يحبّك بقوّة كما كان ..}



على رؤوس أصابعه يقترب مديرا قفل الباب ليدخل حابسا أنفاسه، يحاول أن لا يزعج نومها الهادئ حتّى لو كانت أنفاس صدره التي ترتفع مع كلّ إقتراب له منها، مشتاق لرائحتها، لقربها ولضحكتها.. نفورها منه جعل مسافة تفصل بينهما، مسافة رغم قصرها لكن يشعر أنّ ما يفصلهما قارّات وبحار، كلّما سعى لتقليص هذا الجفاء المقلق له، يصدمه رفضها المستمرّ، لينزوي مكتفيا بمراقبتها.. ومراقبة ما تفعل طيلة يومها الذي تمضيه عادة ما بين الجلوس على حافة البحر تتأمّل أمواجه العاتية، تخاطب صمته الضاجّ وتعانق بنظرها السماء الملبّدة تارة والصافية تارة أخرى أو النوم .. إعتادت أن تظلّ نائمة حتّى قبل موعد الظهيرة بقليل، فتُغادر السرير لتعود إليه مساءا في ساعة مبكّرة.. نومها الكثيف أمر أربكه فلم يعتدها إلاّ كنحلة نشيطة تستيقظ باكرا لتظلّ ما بين الطبخ والتصنيف والتنظيف وغيرها من أمور منزليّة أصبح هو المسؤول عنها في هذه الستّة أيام.. ستّة أيّام لا ينكر أنّه وجد فيها أخيرا نفسه الضائعة التي فقدها منذ أن وعى أن الدنيا لا يُقاومها سوى قساة القلوب وكان أحدهم، كان لابدّ أن يكون منهم ليحمي أسرة ذات ضلع أعوج بعد أن فقدت أعمدتها، لكنّ هذه القسوة تركت فيه أثارا لن يمحيها الزمن، غير أنّه يأمل بأناملها الرقيقة وقلبها النقيّ وروحها الرائعة أن تساعده على كسب سَكَنٍ هو في حاجة إليه.. يقترب من السرير مواصلا حبس أنفاسه، يضغط على كلتا شفتيه، نظراته تجول على جسمها المغطّى بغطاء خفيف، نائمة في وضعيّة الجنين، واضعة رأسها على وسادة صغيرة، بهدوء تُخرج زفيرها ليرتفع معه صدرها الذي تلفّه بيديها، يرفع نظره عنها نحو دفتر مرميّ بإهمال على حافّة السرير، بفضول يرفعه لتقع عيناه على مذكّرة تقويم شهري تحوي دوائر حمراء على بعض التواريخ، أمامها كُتبت عبارات بكتابة غير واضحة، يرفع حاجبه الأيمن محاولا فكّ طلاميسها ليهزّ كتفيه ويضعها بهدوء على طاولة بجانب السرير. دون أن يلتفت إليها يغادر محاولا أن يُبعد تفكيره عن شفتيها المنفرجتين بطريقة مغرية. يغلق الباب رافعا يده اليسرى ليرى xxxxب الساعة المعانقة لـ العاشرة والنصف صباحا. لازال الوقت باكرا على موعد إستيقاظها .. بتنهيدة عميقة يواصل مسيره مغادرا الكوخ الصغير الذي إستأجره بغاية فتح صفحة جديدة يكون عنوانها الوضوح والتفاهم، وفصولها الحبّ .. يخرج الكلمة من شفتيه " الحبّ " .. لا يعلم هل وُلد ليعيش شقاء الحبّ ويكون أحد خيوط لعبته البهلوانية، كيف لا تكون بهلوانيّة وهو يراه يهزأ به مستلذّا هذا التخبّط الذي يعيشه، فبعد أن كانت تغدق عليه من طقوس الحبّ الكثير أصبح يشحذ منها إبتسامة أقصى أمله أن تكون يوما له، ومع هذا يكفيه أن يراها على غفلة منها مُرتسمة على شفتيها، تكون لطفل مرّ بجانبها أو لرضيع يتصدّر شاشة التلفاز في إحدى إعلانات الحفاظات المملّة والتي غدت المفضّلة له خلال الأيّام التي مضت.. لازالت ليلتهما الأولى هنا محفورة في ذاكرته، ليلة الإعتراف، ليلة الجموح، وليلة الإنفجار.. إعصار هجم به عليها في تلك الليلة، لم يُقاوم صمتها المزعج فصرخ كما إعتاد دوما، ما إن وطأت قدميهما عتبة هذا الكوخ .. حينما قرّر أن يستأجره كان يرسم أحلاما غلب الزهر عليها، كانت فكرة تمضية أسبوعين في كوخ على المحيط حلم طفولتها، سمعه يتكرّر على شفتيها مرارا، وإعتاد هو السخريّة منها أو تجاهله، وحتّى عندما لمّحت إليه بعد زواجهما بأسبوع إدّعى اللامبالاة والتجاهل ليوأد رغبتها تلك فتصمت مدّعية تقبّلها ببسمة زائفة تُزيّن ثغرها وقلب يأنّ برودا يصله من حبيب يجهل معنى الحبّ.. لكن ما إن أرسل رسالة إلى عماد منذ ثمانية أيّام يسأله على إستحياء إقتراحا لهديّة مصالحة لزوجته فيردّ عليه مقترحا دعوة لتمضية شهر عسل متأخّر جدا، حينها ضحك كطفل وجد لعبته المفضّلة بين كراتين سقيفة المنزل، ليبدأ بحماس مُتّقد تنفيذ مخطّطاته والحجز في مكان لا يليق سوى بحبيبن تدفئهما حرارة الحبّ في فصل شتاء قارس قرب بحر طقسه ممطر وبرودته مرتفعة بدرجة كبيرة.. ردّة فعلها وهي تنزل من السيارة لتتجاوز عتبة الباب وتتساءل بهمس " لما أتيت بي إلى هنا ؟ أعدني إلى المنزل " جعله ينتفض ممسكا بكلتا كتفيها صارخا في وجهها " سما ألا ترين أنّكِ زودتيها، أنا أحاول أن أعيد حياتنا إلى مجاريها لكنّكِ بتعنّتكِ هذا تجعلين الأمر صعبا عليّ " صدمته حينما إختضّت مبتعدة عنه، عيونها حمراء، ويديها ترتفعان في إتّجاهات مختلفة وصراخها فاق ما تصوّره يوما قد تخرجه حنجرتها التي إعتادت الهمس والهدوء " بعد ماذا ؟ وأيّ حياة تتحدّث عنها ؟ أتسمي حياتي معك سابقا حياة ؟ الحياة هي دفئ وحضن، لم أجد منكَ غير البرود والتجاهل، كنت أحد قطع الأثاث في منزلكَ، لم تهتمّ يوما لي .. كنت خادمة لكَ راضية، مكتفية بذلك ومع هذا طعنتني وإتّهمتني وطردتني فتوقّف أرجوكَ عن هذه المهزلة " جموده لم يدم سوى ثواني حتّى أخرج ما نغّص عليه دوما " برودي كنتِ السبب فيه، كنتُ أنتظر منكِ أن تعاتبي، أن تتطلّبي وأن تستفسري، كنتِ أقْنَعَ ممّا يحتمل رجل فما بالك برجل مطعون، رضاكِ وقناعتكِ بما أمدّه إليكِ يخنقني يجعلني أُكنّ لكِ شعورا لا أستطيع وصف كنهه لكن أثق أنّ كرها يغلب عليه يجعله سوادا في سواد، إنتظرت أن تسألي لما أنتِ ؟ لما إخترتكِ أنتِ ؟ وكنت أنتظر أن تخبريني لما قبلتِي وأنتِ تعلمين حقّ المعرفة أنّكِ لست سوى غطاء لرجولة تسرّبت كرامتها كثيرا، لم تهتمّي لكلّ هذا، إكتفيت بالصمت وصمتكِ قتلني حتّى تضخّم شعور الإنتقام داخلي.. " يومها وأمام صمتها واصل غير عابئ بدموعها التي ترقرقت بين مقلتيها " كنت أسعى للإنتقام من صمتكِ، من رضاكِ ومن خنوعكِ، تمنيت أن تأتي لتسألينني عن خبايا تلك الزيجة التي أعلم يقينا أنّها قتلت براءة حلم نسجته من خيوط الحبّ، أتتخيلين حقّا أنّني لا أعلم كنه شعوركِ نحوي منذ نعومة أظافركِ، ألم تسألي لما لم أتزوجكِ رغم حبّكِ المغري لرجولة أيّ شخص يحمل جينات ذكوريّة .. كنتِ أكبر مما أستحق .. حينما أتيت بماري إلى منزلكم في حفلة عيد ميلادك كنت أنوي بها إرسال رسالة خفيّة أخبركِ فيها أن المتقدّم لطلب يدكِ، ذاك الفتى الأردني مناسب لكِ كثيرا، فرصة لا تتركيها، فأنا لن أكون لكِ، أردتكِ أن تخرجي من محيط دائرتي التي حجزت نفسكِ فيها، كنت أريد لكِ السعادة .. لكنّ رفضكِ جاء سريعا رغم زواجي، وهذا ما شجعني لأن أتقدّم إليكِ، كنت أحتاج لحضنكِ ولوقوفكِ بجانبي، لا تنظري إليّ هكذا أرجوكِ " لم يقاوم نظراتها المعاتبة، رغم علمها بكلّ كلمة تخرج من شفتيه لكنّ الصدمة رُسمت بإتقان على ملامحها، يتخلّلها الكثير من الألم .. ليواصل فـ لحظة الإعتراف والمعاتبة لا تتكرّر " أعلم أنّني أنانيّ وبشدّة لكنّكِ كنت أنانيّة بطريقتكِ، أنانيّة في إحتفاظكِ بالألم، لم أكن زوجا كاملا لكِ، كنت تحتفظين بأشياء ترفضين مصارحتي بها وكزوج لكِ كان لي الحقّ في أن أشارككِ إيّاها، كنتِ أنانيّة حينما تقبلتني بكلّ مساوئي دون أن تسعي لتغييري أو نهري عليها .. إكتفيت بالصمت وهذا كان منتهي الأنانيّة .. لا أرغب الآن سوى بـ أن نرمي الماضي وراءنا ونبدأ من جديد " جوابها كان الصمت القاتل، لم يعرف هل وافقت على هدنة الصلح التي إقترحها، أم رفضتها .. هي عادت ولم تعد .. تتكلم ولا تتكلم .. معه وليست معه. يخرج تنهيدة أخرى ثم يمسح بيده على وجهه متوجها نحو السرداب ليخرج عدة الصيد، ليس بصياد ماهر كعماد الذي تعوّد أن يصطاد في كل رحلة قاما بها سوية في سنّ الطفولة أو الشباب، لكنّه من أجلها سيحاول، تحب السمك الطازج، يفكر أن يجعل أمسية العشاء ممتعة، سيشويان السمك تحت ضوء القمر، حسب الأرصاد الجوية الليلة ستكون صافية على غير العادة .. وهذا مبشر له .. من بين البراميل الخشبية يخرج صنارة وُضعت خصيصا للزائرين الراغبين في ممارسة هواية الصيد، بخفة يضع حمله الثقيل على ظهره ويتّجه نحو الخارج بخطواته الهادئة الواثقة.. يتوقف قبل أن يخطو سور الكوخ متذكّرا فجأة أنّه نسي أن يضع رسالة صغيرة يخبرها فيها عن وجهته، قد تقلق عليه حينما تستيقظ ولا تجده، عادة لا تهتم بوجوده، فما إن تغادر فراشها حتى تتوجّه نحو الشاطئ رافضة رفقته، مكتفية بكلماتها المختصرة " أريد أن أظل وحيدة " لكن في كل مرة تراه موجودا وما يدريه اليوم ربما قد تصاب بالهلع إن وجدت نفسها وحيدة وخاصة أن الإرسال هنا ضعيف .. يعود إلى المدخل هامسا " سأضع لها رسالة أعلّقها على باب الثلاجة "، بحذر يدير قفل الباب ليتسرّب صرير الصدأ الذي يصاحبه في فصل الشتاء خاصة، دون أن يضع حمله يتقدم متوجّها نحو المطبخ ليستوقفه ظلها، يبتلع ريقه بصعوبة وهو يلمح قامتها الطويلة قليلا بثوبها الزهري الفاقد لكل إغراء لكن يكفي أن يزيّنه جسمها ليجعل أنوثة تتدفّق من بين جميع ثناياه، بعيون مدققة يستهل بنبرة خالية من كل روح " صباح الخير، أراكِ نشيطة اليوم " ترتفع أنفاسه أكثر وهو يلمح إبتسامة تكاد لا ترى ترتسم على ثغرها، جعلته دون شعور منه يلتفت مشكّكا إن كانت موجّهة لأحد غيره قد يكون واقفا وراءه، يعود بنظراته المستغربة إليها بعد أن تأكّد من أنّه المقصود بالإبتسامة، لترتسم أخرى أكبر على شفتيه وهو يسمعها تقول " صباح الخير .. هل أنت ذاهب للصيد ؟ " بإيماءة يجيبها مكتفيا بالصمت والنظر إلى تعابير وجهها الطفولية وهي تضمّ يديها وتحني قليلا رموشها الكثيفة وتترجاه بلهجتها التي إشتاقها كثيرا " هل يمكنني الذهاب معك ؟ أرجوكَ " كمن بُوغت بسؤال لم يتصوره، ظل ينظر إليها ببلاهة يعيد حروفها بتأنّ " هل يم.. كنـ...ني الـ..ذها..ب .. معي ؟ "



أحبك مرتعشة الجزء الاول من سلسلة عجاف الهوى لكاتبة أمة اللهحيث تعيش القصص. اكتشف الآن