~ الفصل العشرون ~
سأفتتح الفصل بـ رائعة من قلم شاعرتنا ندوش ..
{ في لحظات الشوق المرير
واستحضار ذكرياتي معك
احس بسكين مثلوم
يحز باحشائي ليجري نزيف دم
يوازي نزيف ذكرياتك ضحكاتك صفاء عينيك
تحتشد بصدري الانفاس لعلها تطفئ نار الحنين
او تجد لي علاجا يقضي على جرح في روحي
لم يندمل بل ازداد ألتهابا
كل الخوف يا أسرة روحي ان يستبد بي الشوق يوما
خوفي اذا مارحت ابحث عنك يوما لاجدك تبادلين اخر العشق
والحب العميق
خوفي ان تتسارع خطواتي اليك لتحتويك روحي وتمنع عن رئتيك الهواء
اذا فكرت بيوما ان تكوني لاخر فأنت لي بحزنك وفرحك ودمعات عينيك
انت لي انني أقر واعترف بجنوني الذي يعتريني بكل مايختص بك
حبيبتي }
فتات قلب ..~
" أنتبه لها أرجوك "
تلفّض بتلك الكلمات للممرّض وهو يُغلق باب غرفة الطوارئ أمامه، ليختفي طيفها الراقد على الحمّالة .. يمسح وجهه بيده يناجي الله .. لينتبه إلى ساعده الملطّخ بلون يخافه .. مهما إدّعى الشجاعة كان الخوف صديق وفيّ له .. صاحبه في كلّ لحظات شجاعته الواهية .. حينما تشاجر في طفولته مع مشاكسين ألحقوا الأذى بأخيه، دقّات قلبه الخائفة صمّت أذناه، رعشة يده الجامدة والتي لم يرها غيره كانت عائدة للخوف ..
الخوف من الموت، من الدماء .. ومن الألم ..
في سنّ صغيرة، إصطحبه عمّه ما إن وصله خبر الحادثة إلى المستشفى، جسد والدته الممتلئ بالجروح ورأسها الذي يكاد ينفصل عن جسدها، شعرها المحترق كان أوّل ما وقعت عليه عيناه.. عمّه الذي لم يراعي صغر سنّه في غرمة غيابه عن الوعي، صرخ يبحث عن أخيه ليكون مظهره أكثر بشاعة من مظهر والدته .. دماء تغمر أشلاء جسده المتناثرة فوق نقالة طبيّة .. تلك المشاهد حفرت في ذاكرته بصمغ لم يفلح الزمن في تخفيف قوّته .. وكلّما لمح لونا قاتما، تُعاد تلك المشاهد في عقله لتأرقه وتبعث الخوف بين صدره .. مرآها وهي مرميّة على سطح القارب، فاقدة للوعي والدماء تحيط بها .. جعله يتوقّف ثوانٍ عن الشعور .. عن القدرة على الحركّة .. بقي مرابحا مكانه كحجر إلتصق بالأرض .. ثمّ قوّة خفيّة كان مصدرها الخوف دفعته للتحرّك .. للإقتراب منها، حرّكها، صرخ بإسمها، ترجّاها أن تفتح عينيها، أن تخاطبه .. لم يتوانى عن صفعها علّها تستفيق من غفوتها ..
سيّارة المستوصف ذات الأجهزة المحدودة وصلت في وقت قياسيّ بالنسبة لقدراتها القليلة .. تمّ نقلها إلى غرفة الطبيب الوحيدة ليضطرّ بعد فحص صغير إلى الإتّصال بمشفى العاصمة طالبا إرسال مروحية لنقلها في أقرب وقت .. حالتها الحرجة التي ما إنفكّ الطبيب عن إخراجها من حنجرته، زادت من توتّره .. تساقط العرق من جبينه وهو يرى الدماء تزداد تسرّبا .. حملها دون أن ينتظر نزول الممرضَيْنِ من المروحيّة .. ركض بها إليهما ما إن وصله صوتها المدويّ .. ليصعد والطبيب يتبعه يلقي أوامره على الممرّض ..
" تعرّضت لنزيف قويّ ..تحتاج لثلاث أكياس دمّ .. حسب زوجها فصيلة دمها بي إيجابي " ..
الثلاثون دقيقة التي أمضتها المروحيّة في طريقها إلى مشفى العاصمة، لم يرفع فيها رأسه عن وجهها .. يقبّلها تارة وأخرى يتلو آيات تعوّدت الخالة سارة ترتيلها في كلّ ظرف سيّء يمرّون به .. يده لم تتوقّف عن مسح شعرها يبعد إلتصاق خصلاته عن وجهها الشاحب .. جفونها المغمضة بتعب مرتسم عليها، جعله يقترب منها ليقبّلها .. ظلّ على حاله، حتّى شعر بالمروحية تنزل لتستقرّ على ممرّ المشفى المخصّص لها .. بخفّة يقفز منها، ليعود إلى حملها والركض بها نحو الفريق الذي ينتظرهم، يتبعه الممرضَيْنِ، واحد يُحمل معه سمّاعاته ويجرّ عمودا يحوي كيس دمٍ متّصل بيدها .. والآخر يدير أرقام هاتفه اللاّسلكي ليملي بعضا من ملاحظاته حول الحالة ..
بعيدا قليلا عن المروحية كانت تنتظرهم حمّالة وأربعة أشخاص، أكبرهم يرتدي نظّارة سميكة، من هيئته يتبيّن أنّه الطبيب ليأكّد كلامه وهو يستلم الحالة آمرا من حوله باشياء إستعصت عن فهمه .. ما إن وضعها على النقالة حتّى ركض يساعدهم على دفعها .. ليتوجّهوا نحو قسم الطوارئ .. وهنا يقف بعد أن منعه الممرّض من الدخول " سيدي سنهتمّ بها .. " ..
ينقل بصره إلى ركبتيه، إرتعاشهما كان مربكا له .. يشعر بثقل يمنعه من تحريكهما، بجهد يصل إلى مقعد موضوع بإهمال وسط الرواق، ليرمي بجسده عليه ويحاول الضغط على ركبتيه بكلتا يديه .. فقد القدرة على السيطرة على الإرتعاش الذي تزايد بصفة كبيرة .. حركاته المتوتّرة جذبت نظر ممرّضة مارّة من جانبه لتقترب إليه تسأله بإهتمام ..
" سيّدي هل أنتَ بخير ؟ " ..
غير قادر على رفع عينيه عن الإرتعاش الذي تضخّم بنسبة فائقة .. إكتفى بهزّة رأس .. تثني قدميها وتجلس على أرضية المشفى، تحاول تمديد ساقيْه ونزع حذائه والبدأ بتدليكهما .. وبنبرة إنجليزية ريفيّة تطمئنه " لا تخف .. هذه علامات الصدمة .. وقتية.. ستتحسّن خلال دقائق .. حاول أن تسترخي .. فكّر بلحظات جميلة .. تنفّس بهدوء .. " دون أن تتوقّف عن التدليك، ودون أن يحرّك يديه المتجمّدتين، يراقب يديها الخفيفتين والمتمرّستين، تمرّان بسلاسة على طول ساقيه .. تضيف " جيّد .. أترى ها قد بدأ الإرتعاش يخفّ .. "..
بعودة قدرته على التحكّم بالرعشات، يشعر بتحسّن .. بإبتسامة لم يعتد رسمها، يشكر الممرّضة التي وقفت ناصبة طولها الفارع، بثوبها الأبيض وملامحها المريحة، تبتعد وهي تردّد " سأبحث لكَ عن قهوة تهدّؤكَ .. " .. لم يشعر بالوقت الذي مرّ على غيابها، ليستفيق من شروده على رأسها وهو يطلّ عليه .. إبتسامة عفويّة ترتسم على شفتيها ويدها اليسرى تحمل كوبا بلاستيكيا يحوي قهوة ساخنة .. بخارها يوحي بلذّتها .. يأخذها وشفتاه تهمس بكلمة شكر .. يرتشف بعضا منها علّه يهدّئ دقات قلبه الخائفة ..
ما إن شعر بقروب إنتهاء الكأس، حاول مدّ يده إلى الحائط والإستناد عليه للوقوف .. بجهد يضغط على ساقيه المتيبّتسن، لتقفز إليه، يتقبّل مساعدتها .. ليصله صوتها وهو يخطو خطواته الأولى متّكئا عليها .. " لازلت تحتاج للراحة .. فأرجوكَ سيدي عُدْ للجلوس " دون أن يتوقّف عن التقدّم، متخليا عن مساعدتها، ومحاولا الحفاظ على توازنه يجيبها " أرجوكِ هل يمكنكِ طمأنتي على حال زوجتي .. هي في غرفة الطوارئ .. " تلحق به لتوقفه مانعة إيّاه من الدخول عنوة إلى الغرفة " سيدي أعدكَ أن أسأل عن حالها لكن يمنع الدخول هناك .. ستشتّت إنتباه الطبيب والممرّضين وهم في حاجة للتركيز .. " يلتفت إليها، بإيماءة رأس تشجّعه للعودة إلى مقعده، مشيرة بيدها .. يتقبّل دعوتها ليعود بتثاقل بدأ يخفّ وبخطوات بطيئة بدأت تعود الحياة إليها ..