~الرسالة الثانية عشر~
لن تغير شيئاً ما دمت صامتاً..
لن تنال شيئاً ما دمت لا تحاول..
وسيهزمك العالم ما دمت مستسلماً..
فابحث عن سبيلك للفوز بما تتمنى..
فالحياة قصيرة وظالمة..
****
تحركت علياء بصينية الطعام نحو غرفة والدها.. وما أن دخلت وجدته مستيقظاً ينظر للخارج فابتسمت قائلة: "صباح الخير.. كيف حالك اليوم أبي؟"
التفت لها وابتسم بالمقابل بإرهاق وتعب بينما يرد: "بخير يا حبيبتي.. كيف كانت فسحتك البارحة؟"
تنهدت بينما تقترب منه وتقول: "المعتاد.. ريم اصطحبتنا للسير ثم أخذتنا لتناول الغداء.. وتشاجرت مع فادي على من سيدفع الحساب.. في النهاية تقاسما الفاتورة"
كانت ابتسامته تتسع مع كل كلمة منها.. لكنه ارتبك قليلاً بينما تجلس بجواره واضعة الصينية.. وقد كانت تعلم السبب..
:"فادي صديق مؤمن؟"
كانت تعلم ما يرمي إليه مع هذا ادعت الجهل.. وقررت ألا تحرجه بينما ترد: "أجل هو"
صمتٌ حل لثوانٍ كانت هي تحضر بها أدويته الموضوعة على الطاولة المجاورة له.. والتي من المفترض تناولها قبل الطعام.
:"ألم يقل أياً منهما شيئاً عنه؟"
تجمدت لثوانٍ تملكها الغيظ خلالها.. ووجدت نفسها ترد بتلقائية: "إنه لا يتصل بأحد"
ثم نظرت له وهي تكمل: "أتعلم.. ريم تنوي الموافقة على الخطبة لذلك المحامي الذي ساعدك"
ظهر الحزن جلياً على ملامحه بينما يقول: "سيتحطم قلب أخيك إن تزوجته"
ضحكة هازئة خرجت من بين شفتيها رغماً عنها.. ومناقضة تماماً للألم الذي ملأ قلبها بينما تتساءل: "وهل يملك قلباً من الأساس؟!"
هزت رأسها والتفتت عنه تصب بعض الماء بالكوب.. لكن يد والدها أمسكت ذقنها وأجبرتها على النظر له بينما يرد: "يملك أخوك قلباً كبيراً لكنه يغلقه بإحكام.. ولا يسمح لأي أحد بولوجه دون استئذان.. فقط ابنة خالتك تسكنه دون شريك"
تملكها الغيظ وردت بعصبية: "لو كنت مكانها ما كنت لأسامحه.. لقد تخلى عنها ولم يفكر بالسؤال حتى بالهاتف.. لقد..."
:"أنتِ لستِ بمكانها يا عليا"
قالها بينما يستقيم بالفراش ويضع كفيه على كتفيها.. نظر لثوانٍ طويلة بعينيها قبل أن يكمل: "أنا أحب تلك الفتاة كثيراً.. لكنك لست مثلها ولن تكوني.. قد لا يعود مؤمن لأجلها أبداً.. لكنه بالتأكيد سيعود من أجلك فأنتِ أخته"
ربت على وجنتها بينما يبتسم مردفاً: "وأنا أخبركِ بهذا حتى إذا ما عاد بيومٍ تفتحي بابكِ له وترحبي به.. ففي النهاية من بعدي لن يهتم بكِ أحدٌ غيره"
اتسعت عيناها بصدمة.. وقبل أن تعترض رفع إصبعه محذراً.. فصمتت وابتسم هو بينما يقول: "مؤمن غادر بسببي.. وهو لن يسامحني أنا ووالدتك أبداً.. لكن أنتِ ودارين بعيدتان عن تعقيد علاقتنا"
لم تتحمل وفتحت فمها لتعترض.. لكنه عاد يسكتها بكلامه: "هو يحبك لكنه لن يخبركِ أبداً بهذا.. مهما حدث بيني وبينه ستبقين أخته.. وسيعتني بك بطريقته الخاصة"
انقبض كفها وبصعوبة تمكنت من الإيماء له بطاعة بينما تمنع دموعها بصعوبة..
: "صباح الخير"
قالتها دارين بينما تدخل الغرفة.. وتقفز للجلوس بجوار والدها الذي فتح ذراعه لتجلس بجواره بينما يرد: "صباح النور يا دودو.. أخبريني كيف كانت الفسحة؟"
ابتسمت دارين وهي تقول بسعادة بالغة: "أووووه أبي لابد أن تذهب معنا لنأكل من ذاك المحل يوماً ما"
وعندها ابتسمت وتركت كل ما تحدث به والدها جانباً وعادت لتجهيز الأدوية له.. فبكل الأحوال مؤمن لم يعد ولن يعود برأيها.. فما الذي سيجبره على العودة الآن بعد كل تلك السنوات.. ما الذي يجبره على العودة بعد أن تخلى عنهم بأسوأ لحظاتهم؟!
******
ألمانيا - هامبورج
ما أن أطلعته سيرين على فحوى اتصال مؤمن ــ الذي أخبرها خلاله عن إجازته غير محددة المدة.. والتي لم يبدي لها أي أسباب ــ لم يفكر وتحرك نحو منزله.. هبط من السيارة وتحرك بعصبية نحو البيت الذي يسكن به.. ليجد صلاح يخرج منه.. وقفا يطالعان بعضهما لفترة لم ينطقا فيها بأي كلمة.
كان يفكر بقتله وبطريقة ما احتلته الثقة بأن الشعور متبادل.. لكن رغبته كانت أقوى بكثير.. فصلاح حاله أفضل ودوماً ينال ما يريد.. وأكبر دليل ما يحدث الآن.. فبعد كل ما فعله.. بعد كل ذلك الجهد الذي بذله مع حفيده ليبعده عن صلاح الهلالي وعائلته.. في النهاية تعب كل السنوات الماضية انتهى بزيارة واحدة من ابن الهلالي.. وها هو أمامه يبتسم بانتصار ليهد كل ما بناه.. وليأخذ منه أغلى ما يملك مجدداً.
:"ما الأمر يا طاهر؟"
سأله صلاح وهو يستند على عكازه ثم أكمل: "تنظر لي وكأنك تريد قتلي"
:"إنها الحقيقة"
قالها بينما يقف أمامه مباشرة وهو يكمل بخفوت: "أنا فعلاً أفكر بقتلك"
ابتسم صلاح بهدوء ثم اقترب منه دون خوف قبل أن يهمس: "هل تخالني سأنساها لك؟!"
رفع إصبعه بوجهه والغضب ينبض من كل حرف ينطق به بينما يكمل: "إنها خمس سنوات.. خمس سنوات دمرت بها حياة ابني.. وأخرجته جسداً هامداً وروحاً معذبة.. خمس سنواتٍ مرت عليّ كالجحيم.. دون أن أملك رفع الأذى عنه.. خمس سنوات حفظت كل لحظة مرت بي خلالها حتى لا تأخذني بك أي شفقة"
:"إنها نفس المدة التي عذب بها ابنك ابنتي الصغيرة"
رد بها طاهر قبل أن يبتسم براحة وسعادة.. فللحظات جعلته تلك الكلمات ينتشي ويمتلئ صدره بالرضا.. ففي النهاية لقد نفذ وعده.. لقد انتقم لموت ابنته.. هو لم يعاين الخسارة التي تكبدها الزنديق الذي دمر حياتها.. وسرق زهرة شبابها.. لكن بين حنايا الغضب الذي ينبض من كلمات وعيون صلاح.. استطاع أن يرى الألم.. ألم أب حزين ومكلوم على ابنه..
وقد رأى ذلك الألم بسهولة..
فقد عانى منه لسنوات دون أن يشعر به أحد.. وانتظر تلك اللحظة طويلاً.. ليغلق تلك الصفحة بترحمه على جوهرته الغالية التي رحلت مكسورة القلب والخاطر.
خواطره تلك أنسته الموقف وكل شيء محيط به وجعلته يتنفس براحة بينما يكمل: "لقد كانت أسعد خمس سنوات مرت بحياتي.. أتعلم لو أملك القدرة لأبقيته بالسجن خمسين سنة"
بقي صلاح يطالعه قبل أن يبتسم قائلاً: "وما الذي كسبته؟"
أفاق عندها وتذكر ما حدث.. تذكر حديث سيرين التي قادت به السيارة إلى هنا.. تذكر أنه على وشك فقد أمانة ابنته مجدداً.. وعندها شعر بكفه يرتجف وقد تصبب العرق من جبينه فجأة.. بينما يرى صلاح متراجعاً أمامه بابتسامة واسعة.. ثم يشير إلى المنزل بجواره وهو يكمل: "بعد كل ما فعلته.. أنا في النهاية فزت"
ثم تحرك صلاح متجاوزاً إياه.. وعندها أسرع بصعود الدرج المؤدي للبناية الفخمة المؤلفة من خمس أدوار واتجه للمصعد ليوصله للطابق الثاني.
طرق الباب المجاور للمصعد ليفتح بعدها بقليل حفيده الذي كان يتحدث عبر الهاتف مع شخصٍ ما.. تحرك خلفه نحو غرفته يحاول التركيز بحديثه لكنه تناسى كل شيء ما أن دخل الغرفة ليجده بالفعل قد أعد حقائبه للسفر تماماً كما أخبر سيرين.. فتملكه الغيظ ونظر له ما أن أغلق الخط وسأله: "أين تخال نفسك ذاهباً؟!"
لم يلتفت له وبقي يتحرك جامعا أشيائه بينما يرد: "لدي بعض الأمور العالقة سأصفيها وأعود"
:"لن أسمح لك!"
قالها بطريقة قاطعة ليلتفت له مؤمن ببطء قبل أن يرد بسخرية: "عفواً؟!"
ثم ظهرت نظراته الباردة ووجهه الصلب وهو يكمل: "من أخبرك أني أنتظر سماحك؟"
فتح فمه ليقول شيئاً لكنه رفع يده بوجهه ثم قال بحزم: "أنا لا أنتظر رأيك.. لدي أمور تتعلق بحياتي الشخصية سأحلها وأعود"
كان يعلم أن هذا ما سيتلقاه منه منذ عاد إليه وعاش بكنفه.. لا أحد تمكن من إرغام مؤمن على أي شيء.. حتى هو بصعوبة تمكن من إقناعه بنسيان أمر عائلة صلاح كلياً وعدم السؤال.. حتى بهذا لم يكن دائم الاستماع له.. فقد كان يعلم بذهابه لمدينته كلما سنحت الفرصة.. صحيح أنه لم يلتقي أحد لكن ذهابه وحده كان يشكل له أزمة.. ولا يمكنه أن يسمح له الآن بالعودة.. عليه إيقافه وبأي ثمن.
:"بني.. لا يمكنك أن تعود وتترك عملك"
قالها بلطف بينما يقترب منه وهو يكمل: "البارحة فقط تم تكريمك كأفضل عضو بمجلس الإدارة.. واليوم تريد أن تأخذ إجازة مفتوحة.. كيف ستبرر هذا؟"
رفع مؤمن كتفاه بينما يرد: "لن أبرر شيئا لأي أحد جدي.. وإن سُئلتَ أنت وأردت مبرراً.. فيمكنك إخبارهم أني لم أحصل على أي إجازة منذ سنوات وأنت قررت مكافأتي"
التفت بعدها ليرتب زجاجات العطر في إحدى الحقائب بعناية بينما يكمل: "أما العمل سأديره عبر شبكة الإنترنت.. وقد أخطرت سيرين بإرسال العمل أولاً بأول وسأعود إن تطلب الأمر"
تنهد طاهر وقبل أن يفكر بأي خطوة سقطت عيناه على وحدة الأدراج المجاورة لفراش مؤمن.. حيث صورته الوحيدة مع والدته.. كان لا يزال طفلاً وهي منحنية تحتضنه بقوة.. كما يحيط هو بعنقها وكلاهما مبتسمان.. وكالعادة امتلأت عيناه بالدموع التي منعها بينما يقول: "دعك من العمل"
تحرك ليقف أمامه مباشرة ً ليجبره على النظر له.. وعندها أكمل بغضبٍ خافت لم يستطع إخفائه: "أنا غير موافق.. أنت تعلم أني غير راضٍ عن أي شيء سيجمعك بتلك العائلة"
ارتفع حاجباه بدهشة لثانية.. فظن أنه يتساءل عن كيفية علمه بسبب عودته وأكمل: "لقد أخبرني جدك البارحة عن سبب حضوره"
-: "وأنا لا أهتم"
اتسعت عيناه بينما مؤمن يكمل: "أنا لا أهتم بما قاله لك.. وغير مضطر لإرضاء أيٍ منكما"
رفع طاهر رأسه ليواجهه بعيونه المتسعة وبباله لا يصدق ما قاله لكنه أردف بهدوء: "اسمع جدي.. لقد قدمت الكثير لكم ولم أنتظر شكراً على عملي.. لكن أنا طلبت مساحتي الخاصة التي لا يسمح لأحد بتعديها.. وأنت لست استثناءً عن أي أحد وقد وافقت على طلبي ووعدتني ألا يتدخل أحد بحياتي.. لذا لا يحق لك الآن التدخل بقراراتي الشخصية"
عندها لم يتمالك نفسه واندفع يقترب منه هاتفا: "هل سترتبط بفتاة من عائلة الأفعى التي قتلت والدتك؟!"
لم يظهر عليه أي تأثر عدا انقباض عضلة فكه.. ففهم وقتها أنه حرك شيئاً بداخله.. وتمنى أن يكون ذكر والدته وما أصابها أغضبه.. لكن كل أمنياته تحطمت ما أن رد: "أنا غير مرغم على إخبارك هذا.. لكن ريم ليست نادية يا جدي"
تهدل كتفاه بانهزام بينما اقترب مؤمن منه أكثر وأكمل: "أنا وريم تربينا معا.. وأنا من اهتممت بها.. وهي كذلك اهتمت بي بوقتٍ لم يكن أحد يهتم بشأني من الأساس.. لذا إن كنت حريصاً على وجودي قربك لا تفكر بالحديث عنها بتلك الطريقة مجدداً"
تنفس طاهر بصعوبة وهو لا يصدق أن كل ما أزعجه بحديثه كان ذكر تلك الفتاة.. ومع هذا الهاجس فهم أنه لا فائدة من الحديث معه لذا رفع ذقنه وقال بقسوة: "سأبقى غير راضٍ!"
:"وسأبقى غير مهتم"
رد بها بينما يلتفت لينهي الحديث.. عاد لترتيب حقيبته ثم أغلقها والتفت ليحملها خارجاً بعد مغادرة جده.. لكن ما أن وصل للصالة الرئيسية وجد سيرين تقف هناك.. ومن نظرتها المليئة باللوم فهم أنها سمعت كل ما دار بينهما.
:"أنت قاسٍ!"
قالتها سيرين فهز رأسه بلا مبالاة بينما يتذكر جملة ريم له قبل أن يسافر.. من وقتها بقيت تلك الجملة بصوتها الباكي يتردد بباله بلا توقف.. كان يراها كلما أغمض عينيه ترددها حتى أصبح موقناً أنها محقة.. وللغرابة لم يؤلمه الاعتراف بتلك الحقيقة هو فقط تألم لأجلها هي.. لذا ترديد أي شخصٍ غيرها تلك الكلمة لا يؤثر به.. لذا رد بهدوء: "أنا أعلم"
ثم التفت عائداً لغرفته لإكمال تحضير أغراضه بينما يكمل: "أغلقي الباب خلفك بينما تغادرين!"
*****
:"صباح الخير آنسة ساندي"
جلست على المقعد بأريحية وطالعت مساعدتها صافي بهدوء وهي ترد: "صباح النور.. ما جدول أعمال اليوم؟"
وضعت ملفاً أمامها قائلة: "لدينا اجتماع مع مديري مكاتب تأجير اليخوت في السواحل.. ثم اجتماع مع المسؤول عن البواخر النيلية.. ثم اجتماع مع المرشدين الذين عُيِنوا بواسطة حضرتك لأجل الفوج الروسي"
فتحت الملف وهي تفكر أنها لا تملك الكثير من الوقت.. وعليها البدء بتحضير الأفكار التي ستضعها قيد التنفيذ.. والأمور التي ستسعى لتطويرها.. لذا التفتت لصافي وردت: "ابدئي التجهيزات واطلبي من الساعي تحضير النسكافيه الخاص بي"
أومأت لها ثم غادرت.. فالتفتت هي تنظر لاطار الصور الموضوع بجوارها على المكتب قبل أن تبدأ بأي شيء.. ابتسمت لصورتها مع شقيقتها الصغيرة الراحلة التي لم تفارق مكانها أبداً.. منذ وضعها والدها قبل سنوات عندما كان هو من يرأس الشركة.. تنفست بعمق ثم قالت: "صباح الخير مالي"
همست بعدها تطلب الرحمة لروحها ثم باشرت بكتابة أفكارها للاجتماع.
****
وضع الصحون على الطاولة بذات اللحظة التي خرجت بها ريهام من الحمام.. كانت قد استيقظت بعده بقليل.. ولسببٍ ما عندما رآها ستغادر فوراً طلب منها أن تغتسل وتتناول الفطور معه.. اتجهت إليه بينما تجفف وجهها وما أن شعر بها بقربه قال: "اجلسي لنأكل"
توقع أن تغادر دون الرد حتى بسبب رفضه لها البارحة بعد أن تستفيق.. لكنها لم تفعل وتحركت لتجلس على أحد المقاعد بهدوء.. بينما هو لم يتعجب من تصرفها فقد سلم بكونها فتاة مجنونة وتحرك ليجلس أمامها بهدوء..
بدأ بعمل شطيرة بيضٍ لنفسه.. وبعد ابتلاع أول قضمة سألها: "كيف عرفت طريق بيتي؟"
-:"من مكان عملك"
رفع عينيه لها فوجدها تتلذذ بقضم الخبز بالمربى قبل ان تكمل ببساطة: "ذهبت إلى هناك وسألت عنك وأخبروني بمكانك"
:"وتقولينها بمنتهى السهولة؟!"
رد بها بحدة ساخرة بينما يترك الشطيرة من يده ويرتاح بمقعده.. كان يطالعها بلوم جعلها تتوقف عن مضغ الطعام وعيونها تطالعه بحذر.. ولسببٍ ما مرة أخرى لم يستطع أن يقسو عليها.. وتنهد ثم اتكأ على الطاولة ليقول بحدة: "لا تكرريها رجاءاً!"
كان بالفعل منزعجاً ولم يحاول إخفاء حنقه حتى عندما أخفضت عينيها بحرج.. فبحركتها تلك ستسبب له الكثير من المتاعب.. تنفس بعدها بعمق مكملا: "لا أعلم كيف قضيت ليلتك هنا.. ألا تخشين سؤال عائلتك؟!"
ابتسمت بسخرية وهي ترد: "لا تقلق لا أحد سيسأل عني"
كان هناك قصة طويلة بالتأكيد خلف تلك النبرة الهازئة.. بل خلف تلك الفتاة المستهترة بوجهها الحزين.. لكن سماعها يتطلب بالاً رائقاً ووقتاً طويلاً.. وهو لا يملك أياً منهما فلديه يوم عملٍ حافل.. لذا عاد لإكمال تناول فطوره وهو يقول: "حسناً كلي الآن سريعاً.. فعلينا الخروج دون أن يلحظ أحد سكان الحارة"
عادت لتناول الطعام بالفعل.. وتركته يفكر بالخطة الجهنمية التي سيرسمها ليخرجا دون أن يراهما أحد.. وفي النهاية لم يجدها.. فببعض التفكير الرصين فهم أنه من المستحيل ألا يراهما أحد.. لذا لجأ للحل الوحيد المتاح.. الدعاء!..
ضم كفاه معاً بدعاءٍ صامت وأغمض عينيه بينما يهمس: "يا إلهي إن كان لابد أن يتم فضحي.. اجعل من سيراني شخصاً طيب القلب أو أخرساً"
-:"ما الذي تفعله.. هل فقدت عقلك؟!"
كز على أسنانه وضغط جفنيه أكثر محاولاً تجاهلها.. وتجاهل كونها هي من ورطته بذلك الموقف السخيف لكنه لم يقدر.. وبذات الوقت ما كان يملك أي شيء ليفعله بها.. فكلما ينظر لها تثير بداخله الكثير من الشفقة مانعة إياه من التحدث معها بقسوة.. لذا لجأ للحل الوحيد المتاح..
الدعاء مجدداً!..
وعندها همس دون تفكير: "يا رب.. أنت المنتقم يا رب!"
***
كان الوقت باكراً لتزورها لكنها لم تتحمل.. أرادت رؤيتها والاطمئنان عليها.. وقد هالها ما رأت.. فقدت الكلمات بل إن لسانها عجز عن الحركة داخل فمها الذي جف فجأة.. مع رؤيتها لوجه راما الجميل مشوهاً وعيناها إحداهما متورمة بسبب لكمة.. والأخرى متورمة من فرط البكاء وقلة النوم..
حاولت منع نفسها من البكاء وقد نجحت وبصعوبة ابتسمت لها ما أن رأتها.. لكن مع جلوسهما بالصالون الرئيسي للمنزل ورؤيتها لصورة والدتها لمياء.. صديقة عمرها التي لازالت تبكيها كلما تذكرتها لم تتحمل.. ولهذا اختارت أن تحتضنها حتى لا تري الفتاة المنهارة المحطمة دموعها فتحزنها أكثر.
:"عزيزتي راما.."
قالتها أليسار وهي تربت على ظهرها بحنو ثم تنهدت تكمل: "كلمة آسفة تبدو سخيفة وقاسية لأخبرك بها يا عزيزتي"
أبعدتها قليلا ونظرت لوجهها المليء بالكدمات.. ليؤلمها قلبها أكثر قبل ان تتنهد قائلة: "أخبريني ماذا حدث؟"
بدأت راما بالبكاء بينما ترد: "لقد وعدني عندما أعادني المرة الأخيرة أنه سيتوقف عن شرب الخمر.. وأنه لن يرفع يده علي أبداً"
توقفت تمسح دموعها وتتنفس بعمق عدة مرات لتتمالك نفسها قبل أن تكمل: "وقد خدعني بالفعل لفترة طويلة.. وأنا بغبائي المعتاد ظننته ينفذ وعده.. لكن بتلك الليلة عاد مخموراً ورائحة عطر نسائي تفوح منه.. فلم أتحمل وبدأت بالصراخ عليه وأنا أطلب منه أن يطلقني وكان رده هذا"
قالت كلماتها الأخيرة بصوتٍ مبحوح بينما تحيط كفيها بوجنتيها بحسرة.. فلم تملك أليسار ما قد تهدئ به الأمور.. وجه الفتاة سيأخذ وقتاً ليتحسن.. ابنها أخطأ ولو كانت راما ابنتها بحق كاتت ستطلقها منه وتقلب العالم على رأسه..
:"لقد أصبح يعاملني دون اكتراث منذ وفاة والداي"
نظرت لراما التي ارتاحت بجلستها بينما تطرق وقد ازدادت دموعها بينما تهمس بتعب: "لم يعد لي فائدة بالنسبة له.. فقد حصل على إدارة الشركة التي كانت تجمع والدينا وأكمل وثق به ولم يعقب.. كما أني لم يعد لدي شخص ليحميني.. أبي رحل وهو كان العائق الوحيد الذي يمنعه من إهانتي"
-: "لا تقولي هذا يا عزيزتي"
التفتت تنظر لها بعيونها المليئة بالألم.. عيونها التي كانت تقص ما عانته من ابنها.. فالأمر لم يكن الإهانة والقسوة وحسب.. لقد خان ثقتها وخيب كل آمالها البسيطة.
سهاماً من اللوم والقهر كانت تخرج من عينا راما لتخبرها بوضوح أن صاحبتها تقول الحقيقة وتصرخ دون كلام: "لن أصدق أي كلمة تخرج من فمك يا أليسار"
مع هذا حاولت استجماع شجاعتها لتخبرها أنها مستعدة للوقوف بوجه ابنها لكن الأمر كان صعباً.. إن وقفت بوجه تامر ستقطع الحبل الأخير الذي يربط ياسين به.. لقد أتت اليوم وهي تفكر برأب الصدع وإعادة الأمور لنصابها.. لكنها شكت بقدرتها على إحداث أي فارق.. وإن كان هناك فرصة لإصلاح الأمور لن تكون الآن بالتأكيد.. وقد فهمت راما على الارجح كل ما يدور ببالها.. فقد ابتسمت ونهضت تتحرك نحو إطار الصور الموجود على الطاولة الكبيرة أمامها.. كانت الصورة تجمع أفراد عائلتها بيوم زفافها مع غياب تامر الذي حاولت والدتها مراراً تحذيرها منه.. أكمل ووالدتها حاولا بكل الطرق إيصال حقيقة الرجل الذي تنوي الارتباط به وهي لم تستمع.
لكن تلك لم تكن بؤرة أفكارها.. نظرت للواقف بجوارها في الصورة والذي طالت قامته عنها ليتعداها بينما يحيط بكتفيها.. ثم التفتت لأليسار وهي ترد: "لكني لازلت أملك أكمل"
عادت تنظر للصورة وسقطت دموعها مجدداً بينما تبتسم وتكمل: "لم أتخيل أني سأقولها يوماً.. لكنه لن يتركني ولن يتخلى عني"
***
: "أنظر كم تلائم مكتبك!"
قالها هيثم من خلفه فابتسم بسخرية ثم التفت بينما يرد: "أنت الوحيد الذي يرى هذا"
: "ليس صحيحاً"
رد بها بينما يقترب منه.. وما أن وقف بجواره أكمل: "لو كان أبي يرى غير هذا ما كان ليمنحك منصب إدارة شركة الاستيراد والتصدير.. أنت تعلم كم يحب هذه الشركة.. وبمعرفتي به هو نادم على منحها للأحمق تامر.. كما أن أبي لا مجال عنده للمجاملات"
:"أنت محق"
رد بها أكمل بعد برهة من الصمت.. قبل أن يتحرك ويجلس على مقعده بينما يردف: "وقد أصبحت تشبه والدك كثيراً"
ابتلع هيثم لعابه ثم هز رأسه بعنف قبل أن يرد: "دعك من كل هذا واسمعني.. استعن بمحامي الشركة لحل الأزمة بينك وبين عمك"
انعقد حاجبي أكمل وارتاح بمقعده وهو يقول: "سأحل الأمر معه بودية و..."
:"لا أكمل!"
عارضه هيثم بحدة قبل أن يقترب منه ويكمل بعملية: "اسمع نصيحتي وطالب بحقك بالقانون"
فتح فمه ليعترض لكن هيثم لم يمهله وأردف: "لو كان ينوي منحك حقك ما انتظر كل هذا الوقت"
تنفس أكمل بعمق وهو يفكر بحديثه ثم قال: "سأتحدث معه مرة أخرى.. وإن رفض سألجأ للمحكمة"
تراجع هيثم ووقف باستقامة ثم قرر عدم الضغط عليه أكثر.. فقد سعد بموافقته على العودة للعمل وآخر ما يرغب به الآن أن يتراجع عن تلك الخطوة الإيجابية لذا رد: "لا بأس.. سأذهب الآن حتى لا أعطلك عن عملك"
وتحرك بعدها بينما يخرج هاتفه ليتفقد المتبقي من جدول أعماله لليوم.
-:"هيثم"
التفت له فابتسم أكمل بينما يقول بامتنان: "شكراً لك"
نظر له لثانية ليتذكر كلا منهما جميع اللحظات السعيدة والحزينة التي مرا بها معا.. وعندها ظهر شبح ابتسامة على ثغر هيثم قبل أن يهز رأسه ويعاود إكمال طريقه وهو يرد: "لا شيء لتشكرني عليك.. سآتي لبيتكم مساءاً للاطمئنان على راما"
ثم غادر المكتب تاركاً إياه يطالع الفراغ.. وحالة راما تزيح كل أفكاره وتتربع على قمتها.. مخلفة ألماً بصدره لا يتوقف.. لم يكن ينوي تركها لكنها أصرت أن يذهب للشركة.. بعد أن أخبرها فحوى الاتصال الذي دار مع عمه ياسين ليلة أمس.. كان الرجل عملياً وحاسماً كما كان دوماً.
:"أكمل أريدك أن تكون بمكتب رئاسة شركة الاستيراد والتصدير بالغد فأنا سأوكلك بأعمالها"
كان يعرف أن هذا ليس تعويضاً أبداً عمّ أصاب شقيقته على يد ابنه الفاسد.. السيد ياسين كان صديق عمر والده.. وقد حزن عليه أكثر من عمه الذي جمعه بوالده الدم والنسب.. وقد كان يعلم أنه الآن يشعر بالحرج منه.. لكنه ليس من الرجال الذين يتحدثون.. هو يختار دوماً الفعل.. وقد فعل.
تلفت حوله ثم ارتاح بمقعده وهو يتنهد هامسا: "لكن هل ما فعله كافيا؟"
التفت ينظر عبر النافذة ثم أغمض عينيه بينما يكمل: "وماذا عليّ أنا أن أفعل الآن؟!"
أنت تقرأ
رسالة من فتاة مجنونة
Lãng mạnالعالم بيننا..والزمان لم يكن أبدًا حليفنا.. فلا عتاب ولا رجاء سيمنع قدرنا.. لذا لا تراجعي ولا تمنعيني.. وبهذه العيون لا تغويني.. لا مفر لفراقنا.. ولا تنتظريني فالأمل ضئيل للقائنا.. رواية رسالة من فتاة مجنونة هينزل منها كل يوم فصل بعد صلاة التر...