~الرسالة الثامنة عشر~
أمسك بالفرص الثانية واقتنصها..
فالحياة لا تجود بالكثير منها..
****
يا حبيبي الهوى غلاب..
عجل وتعى السنة ورا الباب..
شتوية وضجر وليل..
وأنا عم بنطر على الباب..
ولو فيّ يا عينيّ خبيك بعينيّ
رجعت الشتوية..
ظل افتكر فيّ..
فيروز – رجعت الشتوية
****
~قبل يومين من موعد السفر~
انتهت من عملها في المدرسة.. وقررت أن تغادر لتلتقي بأمجد كما اتفقا.. خرجت من الباب مشغولة البال بالتغلب على توترها مما سيحدث بذلك اللقاء.. أمجد البارحة عندما تحدث معها على الهاتف أخبرها ألا تقلق.. وأنه مجرد إجراء عادي للاتفاق.
كانت تتمنى لو أنها تمتلك القدرة على عدم الذهاب لذاك الاجتماع.. لكنها لم تفكر حتى بطرح الفكرة.. وعندما اقترحها أمجد رفضتها فوراً.. فلا يمكنها أن تظهر لذاك الرجل أي ضعف.
:"ريم"
توقفت والتفتت تنظر للهابطة من سيارتها الحديثة باستغراب.. أقصت ناظريها عن أي شيء وأبقت أنظارها معلقة بسوزان المقتربة منها بخيلاء وكعب حذائها الباهظ يضرب الأرض.. بلحظة التفتت تنظر للمدرسة وقد رأت على محياها تلك النظرة الهازئة المليئة بالازدراء التي تشيعها بها على الدوام.. عادت للنظر لها واحتلت الابتسامة الشامتة وجهها قبل أن تقول: "كيف حالك؟"
بهدوء شديد بقيت ثابتة دون أي رد فعل بينما ترد: "بخير الحمد لله يا سوزان"
-:"أتيت للاطمئنان على فتاتنا الذهبية..."
توقفت مدعية الصدمة وهي تضع يدها على فمها بينما تكمل: "آسفة.. نسيت أنك طُرِدت من المعهد ولم تعودي الفتاة الذهبية"
ابتسمت بسخرية ولم تفكر بالبحث عن ردٍ حتى.. كانت واثقة أنها لم تأتي إلى هنا لسببٍ نبيل.. رفعت حقيبتها على كتفها بينما ترد: "سعدت بلقائك سوزان.. اعذريني علي الذهاب الآن"
التفتت لترحل لكنها وقفت بطريقها وابتسمت بطريقتها المثيرة للقشعريرة ثم اقتربت منها أكثر وهي تقول: "هل تذكرين تلك الرسالة التي مزقتها في غرفة الفندق؟"
عاد ذلك الشعور القاتم يؤلم عظامها بينما ترى الغضب متجسداً على محياها وهي تكمل: "أنتِ لن تتمكني أبدا من كتابتها مجددا.. أتعلمين لم؟.. لأنك فاشلة!.."
كانت تعلم أن حزنها واضح على وجهها والابتسامة الهازئة التي احتلت وجهها أكدت لها أفكارها بينما تردف: "هو أصبح ناجحاً ومميزاً كما كان متوقعاً.. لكن أنتِ فشلتِ في أن تكوني أي شيء.. يستحيل أن تليق فاشلة مثلك برجل مثالي كمؤمن.. لذا لا تحاولي يا صديقتي القديمة"
أغمضت عينيها لتتمالك نفسها.. وتسيطر على ذاك الشعور القاسي بداخلها قبل أن تفتحهما لتجدها قد اختفت من أمامها.. وعندها لم تحاول الالتفات بحثا عنها ثم غادرت دون أي كلمة.
****
((عثرت اليوم على ورود أمي المفضلة موضوعة بجوار قبرها.. أعلم يقيناً أنك أنت من وضعتها أيها الأحمق.. لم تكن ستخسر شيئاً إن اتصلت بي وعزيتني بوفاتها يا مؤمن.. لم تكن ستخسر أي شيء على الإطلاق لو مررت علي وأخبرتني أنك لازلت مصراً على تحقيق أحلامك حتى لو على حسابي.. لم تكن ستخسر شيئاً حتى لو وبختني وأعلمتني كم أنت مستاء لأني فشلت بدخول كلية الصيدلة.. لم أكن لألومك أو أستاء منك فقد كنت سأفهم أني أعني لك القليل رغم أنك تعنيني كثيراً كنت حتى سأعد لك الحلى المفضلة لديك لتتناولها قبل أن ترحل مجدداً وللأبد.. لكنك قاسٍ كالعالم تماماً.. ولهذا سأتوقف عن لومك برسائلي.. لكني سأكون قاسية مثلك وسأعد الحلوى وأتناولها مع خالتي وأختيك وفادي.. أتمنى أن تكون بخير))
لاحت بباله تلك الكلمات بينما يضع الزهور أمام القبر.. كانت مكتوبة بإحدى الرسائل التي قرأها بالمذكرات.. تلفت ينظر حوله لأصص الزرع الموزعة بكل ركن.. أخبره الحارس أن حفيدة صاحب المقبرة تمنحه أموالاً كل شهر ليسقيها بانتظام..
:"لا يمكنها ترك مكانٍ كئيبٍ أبداً"
همسها بينما يبتسم ويجلس على الأرض ناظراً للشاهد مكملاً: "يجب أن تنتشر ألوانها المبهجة أينما حلت.."
بقي صامتاً لبعض الوقت قبل أن يهمس: "لو كنتِ هنا لدفعتها لتفهمي"
نظر للأرض بعدها بشرود متذكراً تلك الليلة التي أخبرها بها أنه راحل وتركها وحيدة على شاطيء البحر..
&&فــــــــلاش بــــــاك&&
وصل لشقتها ليجد الباب مفتوحاً وما أن دخل وجد والدتها تجلس على الأريكة تطالع صورة زوجها المعلقة على الجدار أمامها..
:"هل أخبرتها؟!.."
سألته دون التفات فتحرك نحوها ثم جلس على الأرض يطالع الجدار هو الآخر حيث صورة عمه الذي كان ألطف رجل بحياته..
:"لا يمكن لأمثالي أن يكونوا أغنياء أو ناجحين هذا ما قاله لي والدي"
:"والدك أحمق لا تصدقه.. يمكنك أن تكون ناجحاً وغنياً مادمت ستعمل جاهداً لتحقيق هذا"
ابتسم وهو يهمس: "يبدو أنها تشبه والدها بروحها المفعمة بالتفاؤل"
:"هي كذلك بالفعل.."
ردت بها والدتها ثم التفتت له وهي تكمل: "لو كان عبد الحميد حياً ما تركها أبداً تبكي لفراق منزلها.."
نظر لها فأردفت: "كان ليقاتل للرمق الأخير دون استسلام وأنا واثقة أنها لو وُضِعَت بنفس الموقف ستقاتل للرمق الأخير ولن تستسلم"
:"لماذا؟!.."
سألها وهو يهز رأسه باستغراب وهو يكمل: "أعني لم قد يخوض المرء معركة خاسرة؟!.. لم هي مصممة على الفوز بشيء لن يمنحها أي استفادة على العكس تخليها عن ذاك الشيء سيجنبها كثيراً من الحسرة والخيبة والهزائم؟!"
:"لأنهما لا يفقدان الأمل.."
ردت بها ودموعها تنهمر بينما تكمل: "لأن هذا ما منح لحياة والدها قيمة وجعله مبتسماً لنهايتها فقد كفاه أنه كان يحاول دوماً دون يأس.."
مد يده بجيبه وأخرج منديلاً ناوله لها وهو يقول: "هذه سذاجة.. فلا معنى للسعي إن لم يصل المرء لنتيجة"
:"من أخبرك أنه لم يصل لنتيجة؟!.."
همست بها فنظر لها ليجدها تحدق بصورة ريم مع والدها بصغرهما قبل أن تلتفت له وتكمل: "وعليك أن تكون شاكراً أنها تحمل هذه الصفة"
انعقد حاجباه وسألها: "لماذا؟!"
مسحت وجهها ثم ابتسمت وهي ترد: "لأن بفضل تلك الصفة هي لن تقطع الأمل بعودتك أبداً وستنتظرك!"
&&&&
ضحك بخفوت ثم نظر لقبرها وتخيل وجهها وابتسامتها بنفس الطريقة بينما يهمس: "لقد كنتِ محقة.."
نهض من مكانه وهو يتنهد مكملاً: "لكن ما الجديد بهذا أنتِ دوماً محقة؟!"
******
سلمته الملفات وهي تقول: "بهذا تكون قد استلمت مني كل المشاريع"
قالتها إسلام وهي تضع الملف الأخير أمامه ثم فتحت هاتفها لتراسل ساندي وهي تكمل: "أتريد أي شيء آخر؟"
وقبل أن تسير مبتعدة وجدت يده تسحبها وما أن التفتت له ابتسم وهو يرد: "ما رأيك أن نذهب بنزهة اليوم؟"
ابتسمت له وقالت بأسف: "لدي الكثير من العمل ولا أريد التأخر عن البيت بغياب والدي"
مط شفتيه ثم اقترب وطبع قبلة على وجنتها بينما يرد: "ماذا عن الغد؟"
نظرت لرسالة ساندي ثم تنهدت وعادت تطالعه وهي تقول: "لا أظن أن هذا ممكناً أيضاً"
طالعها وهو يتنهد بضيق ثم همس: "يا لسوء حظي!"
ابتسمت له ثم اقتربت منه وهي تدعي تعديل ربطة عنقه بينما تقول: "أتعلم أني أعرف مما تريد التهرب بالخروج معي؟"
ضم كفيها معاً بقبضتيه وهو يجلس على المكتب قائلاً: "حقاً؟.. ومم أتهرب برأيك؟"
طالعته قليلاً قبل أن تتنهد وترد: "أنت لا يمكنك التخلي عمن يهمونك هيثم"
بقي يطالعها للحظات قبل أن يقول: "وهو أمرٌ سيء أليس كذلك؟"
ابتسمت ثم اقتربت تحتضنه وهي تهمس: "بل هو أمرٌ رائع"
ضمها وبقيا على هذا الحال لدقائق قبل أن يهمس بجوار أذنها: "شكراً سولي"
:"العفو.."
ردت بها ثم تراجعت تكمل: "الآن أنهي أمورك العالقة وبعدها نحدد موعداً للنزهة"
أومأ لها ثم قبل كفها فابتسمت وتحركت لتغادر.. مرت على نور بطريقها لتجدها غارقة بين الملفات تحاول البحث عن شيءٍ هام فضحكت تقول: "انتبهي على أنفك حتى لا يغوص بين الورق ولا تجديه!"
رفعت عيناها لها وهي ترد بانزعاج: "تعالي وساعديني بدلاً من...."
:"نور.."
انتفضت تقترب من السماعة لترد على النداء قائلة: "نعم سيد هيثم"
:"أحضري الملخص ومخططات البناء التي قُدِمت من الباشمهندس ياسر وأحضري التصاريح التي طلبتها منكِ وأخبري مدير الشئون القانونية أني أريد مقابلته اليوم بعد استراحة الغداء"
كانت تراقب نور وهي تدون كل ما يقوله وقبل أن ترد أغلق الخط من جهته فرفعت عيناها لها ثم تلفتت تتأكد من عدم وجود أحد وعندما تأكدت همست: "هذا خطئك فلو كنتِ زوجته ما تجرأ على إغلاق الخط بوجهي.."
وضعت كفها على جانب فمها وهي ترد بهمس: "لو كنت زوجته ما أصبحت أي فتاة تدير مكتبه من الأساس!"
ثم التفتت لتغادر وهي تستمع لصياح نور: "خائنة!"
*****
كانت سعيدة أن أمجد اختار مكاناً عاماً للجلوس به فقد يمنع هذا عمها عن تحين أي فرصة لافتعال المشاكل ومضايقتها.. فأنفاسها بالفعل سُحِبَت منها مع رؤيتها سوزان وبالكاد يمكنها ادعاء التوازن حتى ينتهي هذا اللقاء الممل والمتعب.
: "حسنا سيد سراج أريد توقيعك على هذه الأوراق"
قالها أمجد وهو يسلم الورق للمحامي الذي طالعه ثم منحه لعمها.. وبدوره أخذ كل الوقت بتفحصه.. كانت تعلم أنه يعذبها بالتأخر بقول أي شيء ورغم محاولتها ألا تفكر بالأمر إلا أن ذكرى واحدة كانت تلوح ببالها لتجعل توترها يزداد مع كل ثانية تمر..
&&فـــلاش بـــــــــاك&&
كانت تعد الغداء منتظرة عودة خالتها عندما قرع جرس الباب فتحركت تركض نحوه وهي تقول: "خالتي أعددت غدائك المفضل و...."
توقفت عن الكلام وهي ترى عمها أمامها تجمدت بمكانها لثانية قبل أن تجد عمتها تظهر من خلفه وتهتف بحدة: "افتحي الباب ودعينا ندخل يا عديمة الذوق.."
تحركت بالفعل تفسح لهم المجال وهي تهمس: "تفضلوا بال..."
لم تكد تتم جملتها حتى إلا ووجدتهما يدخلان بعد أن دفعا الباب برعونة وتحركوا ليجلسوا على طاولة السفرة فأغلقت الباب والتفتت لهما ثم تنفست بعمق قبل أن تسأل: "هل أعد لكم الشاي؟"
:"هااه لتصنعيه بالملح كما فعلتِ من قبل يا فاشلة!"
ردت بها عمتها بسخرية قبل أن يطالعها عمها ببرود قائلاً: "تعالي لا نريد شرب شيء"
تحركت بالفعل وجلست أمامهما فسألتها عمتها: "لم لستِ بالجامعة؟"
:"ليس لدي محاضراتٌ اليوم"
ابتسمت عمتها باستهزاء وهي ترد: "وهل هناك محاضرات بذلك المعهد.. لا فائدة من الدراسة به على أي حال"
:"هذا يكفي يا ظريفة.."
قالها عمها بصرامة قبل أن يلتفت لها قائلاً: "اسمعي يا فتاة أنتِ تعلمين بالتأكيد أني غير راضٍ على بقائك هنا مع خالتك"
:"لكني مرتاحة ببقائي هنا و...."
:"أنا لا أطلب رأيك!"
هتف بها فانتفضت تبتلع لعابها بخوف بينما هو تنهد قبل أن يكمل: "لدي عريس ملائم لك.. ابن شريكي جابر.. رجل مهذب ومقتدر وموافق على الزواج بك رغم ظروفك"
كان جسدها قد تجمد مع ذكره الزواج لكن كلمته الأخيرة أزالت عنها القليل من تبلدها فرفعت عيناها وسألته: "ماذا تعني بظروفي؟!"
:"يعني أنك يتيمة وتعيشين مع خالتك دون رجل.."
اتسعت عيناها وهي تطالع عمتها التي أكملت بسخرية: "وحتى الشهادة لن تحصلي عليها فذلك المعهد لا يعتبر شيئاً مرموقاً يستحق منك العناء"
عندها فار الدم بعروقها ونهضت تقول: "عرضك مرفوض يا عمي.."
نهض هو الآخر بينما يرد: "أنا لا آخذ رأيك أنا..."
:"لا حق لك علي وأنا لن أطيعك بأي شيء تقوله"
قاطعته بحدة وغضب ثم أشارت للباب هاتفة: "وإن كنتما هنا لمعايرتي بيتمي فأنا لست بحاجة لسؤالكما أو شفقتكما"
نهضت عمتها وهي تهتف: "أرأيت يا سراج أخبرتك أنها فتاة متمردة لا تستحق منا أي شفقة أو تعاطف.."
التفتت له وأكملت: "لا تستحق حتى الأموال التي نمنحها لها كل عام"
:"هذه الأموال هي حقي أنا.."
التفتت عمتها لها فأكملت هاتفة: "إنه نصيب والدي من الأرض التي تبتلعون معظم إيرادها ولا تتركوا لي سوى الفتات منذ وفاة أبي"
ضحكت عمتها وحركت ذراعاها باستهزاء بينما تقول: "احمدي الله أننا نرسل لك الفتات يا حبيبة والدتك.. ماذا كنت ستفعلين إن لم نكن نتعطف عليك ونرسله؟!"
:"افعلوها واحرموني من حقي وقسماً بجلال الله عندها سأدعي عليكم وأشتكيكم بالمحاكم ووقتها سترين ما يمكن لتربية النساء فعله.."
كانت قد فقدت عقلها كلياً من حديثها ولم تعد تتحكم بغضبها لذا وبعد هتافها بتلك الجملة التفتت تتحرك في اتجاه للباب لتطردهم فوراً لكن يداً أوقفتها وسحبتها للخلف وما أن التفتت هوى كفٌ غليظ على وجهها.. كانت مصدومة وغير قادرة على الكلام بينما تراقب عمها الذي وقف يطالعها بغضب ثم أمسك كتفها يهزها بعنف وهو يقول: "كيف تتجرأين على رفع صوتك علي أيتها القذرة عديمة التربية؟!"
بدأت بالبكاء بالفعل بينما عمتها تقول: "ماذا ننتظر من تربية امرأة سليطة اللسان والأخرى...."
:"توقفي أيتها المخبولة أمي وخالتي أشرف منكما.."
عاد لصفعها مجدداً فازداد بكائها بينما عمتها تقول: "لنأخذها معنا الآن قبل أن تعود خالتها.. لن تتمكن من أخذها منا إن أخذناها للبلدة"
ملأها الرعب وهي تتخيل أن يأخذاها رغماً عنها بالفعل فنظرت لهما وهي تفكر أن لا شيء سيمنعهما عن أخذها.. لكن أتت النجدة بصوت جرس الباب فلم تتوانى عن دفع عمها وما أن أفلتت من قبضته ركضت نحو الباب وفتحته لتقابلها عيون خالتها وعندها انهارت بالبكاء وهي تتشبث بها قائلة: "خالتي ساعديني.. يريدان أخذي معهما رغماً عني.. يريدان تزويجي.. وقد ضربني عمي و..."
لم تنتظر خالتها أكثر فقد ركضت نحو المطبخ وعادت بسكين فتراجعت عمتها برعب خلف عمها الذي لم يكن أفضل منها حالاً وهي تهتف: "ماذا تفعلين يا مجنونة؟!"
اقتربت منهما وهي ترد: "سأقطع لسانك وسأقطع يد شقيقك المحروس الذي تطاولتما بهما على ابنتي!"
:"لم نطل أي شيء عليها.. كما أنها ليست ابنتكِ هل نسيتِ أنكِ عقيمة.."
قالتها عمتها برعب وقبل أن يقول عمها أي شيء ضحكت خالتها باستهزاء ثم ردت: "جملتك الأخيرة تثبت أن لسانك طويل وعديمة إحساس وهذا يتطلب قطع عضوٍ آخر بجوار لسانك"
ثم ركضت نحوهما وهي ترفع يدها في الهواء فتراجعا وهما يصرخان برعب وأسرعا بمغادرة الشقة والركض على الدرج لكن خالتها تبعتهما وهي تهتف: "قسماً بجلال الله لو عدتما سأخرجكما على نقالات.. أسمعتِ يا ظريفة يا طريفة؟!"
تحركت بعدها عائدة لداخل الشقة وما أن أغلقت الباب نظرت لها ولبكائها كانت تشعر ببعض الراحة لمغادرتهم لكنها كانت خائفة وما أن اقتربت خالتها تمسح دموعها لم تتحمل وألقت نفسها بحضنها وهي تهمس: "لا تجعليهم يأخذونني رجاءاً!"
:"لن أفعل يا فتاة.."
ثم ربتت على ظهرها ثم أكملت: "والآن توقفي عن البكاء والحزن على أناسٍ لا تستحق.. لقد نالا جزائهما"
&&&&
كانت تلك الجملة ترافق حديث خالتها بكل مرة كانت تخبرها عن مستجدات القضية التي لم تقبل بها أي صلح أو تنازل.. لقد أقسمت بتلك الليلة مع تذكرها لإهاناتهم لها ولوالدتها وخالتها أنها ستنال حقها كاملاً دون أي نقصان.. لكن الحزن كان يجتاحها بكل مرة تذهب بها للمحكمة وتلتقي بعمتها التي لم تكن تدخر أي جهد بسبها والادعاء عليها بالباطل.. والأسباب بحزنها كانت كثيرة..
ربما كونها افتراءات وأكاذيب..
ربما كونهم عائلتها ولم تتخيل أن يصل جحدهم تجاهها لهذا الحد..
ربما لأنها يتيمة ويتمها كان السبب بمقاساتِها كل تلك الآلام..
وربما كل هذا وحسب يؤلمها ويحبطها.
تنفست بعمق وتلفتت تتأمل المكان من حولها حيث كان المطعم عبارة عن مقصورات منفصلة مضاء بأشعة الشمس أغمضت عيناها تحاول الإنصات بهدوء لصوت البحر القريب علّها تستعيد اتزانها لكن أصوات الناس من حولها غطت على كل شيء فاستسلمت للواقع وعادت للنظر لعمها بذات اللحظة التي رفع بها عيناه قائلاً: "كنت أتساءل دوماً أي نوعٍ من الفتيات قد تدعي على عائلتها بالمحاكم؟"
شعرت بالدماء تنسحب من كامل جسدها لتجتاحها برودة شديدة.. بينما يقترب من الطاولة ليكمل بهدوء: "ثم تذكرت أنك تربية نساء.. لذا من الطبيعي أن تكوني عديمة تربية"
:"لا أرى عديم تربية سوى من استحل أموال ابنة أخيه اليتيمة!"
التفتوا لمدخل الغرفة التي يجلسون بها لتجد مؤمن يتحرك ويجلس بينها وبين عمها الذي بدا مصدوماً من وجوده بينما مؤمن استند بمرفقه على الطاولة ووضع رأسه على قبضته وهو يقول: "وأنا أتساءل لِم لا توقع بصمت وحسب؟"
تدارك عمها الصدمة سريعاً وحرك مقبض عصاه أمام عيناه بينما يرد باستهزاء: "ها قد عدت يا حفيد الهلالي.. اذكر أني لم أرك بعزاء السيدة التي ربتك"
:"لا أظنه أمر يخصك يا ابن الصالحي"
التفت عمها يعاود النظر لها وهو يقول: "لا أعلم ما الذي تفعلينه لتجعلي الرجال يدافعون عنك بتلك الطريقة يا ابنة س..."
ولم يكد يتم جملته إلا ووجدت مقعده يضرب بعنف من الأسفل ثم يد مؤمن امتدت تمسك ياقة قميصه وتسحبه نحوه بعنف يناقض تماماً الهدوء الذي تحدث به بعدها: "أقدر كرهك لوالدتها التي كنت ترتعب منها.. لكن لا داعي أن تنسى نفسك.."
:"مؤمن!"
لم يلتفت لندائها بينما عمها حاول انتزاع قميصه منه دون جدوى فقال بحدة: "كيف تعامل رجلا بعمر أبيك بهذه الطريقة يا عديم التربية!"
:"عليك أن تكتسب احترامي يا هذا وأنت لم تفعل.. لذا..."
:"مؤمن رجاءاً!"
التفت لها عندها فأكملت: "رجاءاً لا داعي للفضائح"
ابتسم ابتسامة هادئة غريبة قبل أن يلتفت له ويسحب الورق ليضعه تحت يده ثم ناوله القلم قائلاً: "وقع!"
وضع عمها توقيعه على كل الأوراق دون أي كلمة وما أن انتهى أفلته مؤمن وسحب الورق ثم ألقاه لأمجد وهو يقول: "تأكد من أن كل شيء صحيح"
تنهد أمجد ولم تكن لتلومه لو صرخ عليه بحنق.. لكن أمجد كالعادة تصرف بعملية وتأكد من التواقيع.. ثم نظر لمحامي عمها وهو يقول: "بهذا نكون انتهينا.. وقد وصلني اليوم المتبقي من تعويض موكلتي عن الأعوام الماضية.. وسننتظر وصول دفع نصيبها في الموعد المتفق عليه من كل عام"
أومأ الرجل بهدوء ففهمت أن الأمر انتهى.. ونهضت فوراً دون أي كلمة لتغادر المكان
****
نهض مؤمن يطالع ظهرها المنصرف ثم التفت ينظر لعمها...
(( لن أشكو منك اليوم كما وعدتك أنا لن أشكو من هجرانك لي مجدداً لكني سأشكو لك ما حدث لي اليوم بما أني لن أتمكن أبداً من قوله لأي أحد غيرك.. لقد أتى عمي اليوم وطلب مني أن أعود معه للبلدة لأتزوج من ابن شريكه أو لن يمنحني أي أموال.. وعندما رفضت واحتديت عليه هو وعمتي لأنهما أهانا والدتي صفعني وغادر.. خالتي عادت وأنقذتني منهم كما أرعبتهم ليغادروا دون رجعة.. لكني حزينة.. أمي لم ترفع يدها علي إلا مرة واحدة بعمرها كله.. وأبي لم يفعلها أبداً.. لم يضربني لأني أطالب بحقي.. هل كوني يتيمة يمنحه الحق بهذا.. لم قد يخوض بشرفي ويسمعني تلك الكلمات فقط لأن من ربتني امرأة؟!))
تذكر تلك الكلمات المدونة بإحدى الأوراق التي قرأها ثم انحنى نحوه فتراجع بتلقائية: "هل تريد الاحتفاظ بكفك التي مددتها عليها.. ولسانك الذي تطاولت به عليها؟"
:"هل تهددني يا حفيد الهلالي؟"
قالها سراج محاولاً استجماع شجاعته لكنه لم يمهله واقترب منه أكثر وهو يرد: "جيد أنك تعرف ما بإمكاني فعله.. والآن أجب سؤالي"
لم يكن يملك بداً سوى أن يوميء برأسه موافقاً دون أي كلمة فأكمل بتحذير: "إذاً نفذ الاتفاق بصمت.. لا تتصل بها ولا تحاول إهانتها أو مضايقتها هل فهمتني"
أومأ سراج بهدوء فاستقام وتحرك مغادرًا المطعم ليجدها تقف مع أمجد خارجه وما أن لحق بهم سمع أمجد يقول: "هل أنتِ بخير يا ريم؟"
:"هي بخير يا قصير القامة.. ويمكنك الذهاب الآن فعملك انتهى"
رد بها دون التفات ناحيته فقد كان يطالع وجه ريم الشاحب وتنفسها الحاد..
-:"أنا سأذهب عندما أرغب بالذهاب.. فأنا لا أعمل عندك سيد متعجرف"
كانت هذه الجملة من أمجد التي أرغمته على النظر له والرد ببرود: "هل تتحداني يا قصير القامة؟!"
:"مؤمن!"
التفت ينظر لها ليجدها تلتقط أنفاسها بصعوبة قبل أن تلتفت لأمجد قائلة: "أعتذر لك أمجد"
طالع أمجد باستهزاء قبل أن يرد: "لم تعتذرين لذلك ال...؟"
:"مؤمن أرجوك!"
قالتها بعصبية قبل أن تكمل: "أنا متعبة وأريد العودة للبيت.. هل تنوي إيصالي أم ستبحث عن شخص آخر للتشاجر معه؟"
فضل الصمت نظراً لحالتها.. كانت عيونها ممتلئة بالدموع وأنفاسها ثقيلة وقد كان يفضل إعادتها للبيت بالفعل.. بينما هي التفتت لأمجد قائلة: "شكراً لك أمجد أتعبتك معي"
:"لا تشغلي بالك عزيزتي"
كاد يتحرك نحوه ويلكمه بمنتصف وجهه عقابا له على كلمة عزيزتي تلك.. كان واثقاً أنه تعمد قولها لإغاظته.. لكن ريم أمسكت بذراعه بينما ابتسم السخيف بهدوء يقول: "اذهبي الآن وارتاحي ونتحدث فيما بعد"
أومأت له فاكتفى بهذا رداً قبل أن يسحبها ويغادر بها.. ولحسن الحظ لم تكن سيارته مصفوفة بمكانٍ بعيد.. فلم يضطرا للسير كثيراً..
ما أن استقرا داخل السيارة أدار المحرك وبدأ الحركة بها وهو يفكر بما يجب أن يقوله بعد أن ألقى التوتر الذي يصيبه من قصير القامة سريعاً.. لم يكن يملك كلمات لذا اكتفى بقول: "ذلك الصندوق سيبقى أثمن ما امتلكت يوماً يا ريم.. وسأحفظه إلى موتي"
-:"أطال الله بعمرك يا مؤمن"
التفت ينظر لها فوجد رأسها ملقاة للخلف بينما تطالع البحر من نافذتها فابتسم وهو يلتفت وينظر أمامه قائلاً: "لكنه لم يغير رأيي كما تخيلت"
لم ينتظر منها رداً فقد فهم أنها متعبة ولا تقدر على الكلام وقد حمد الله على ذلك.. فهو بالفعل لا يملك ما يرد به إن ألقت اللوم عليه أو عاتبته.. تلك الكلمات التي قرأها ستلجمه عن مجادلتها لفترة فكلما سيراها سيتذكر تلك الكلمات وصندوق الأسرار خاصتها..
****
في اليوم التالي
ودعت إحدى زبائنها قبل أن تدخل مساعدتها وهي تقول: "آنسة سوزان"
:"ماذا تريدين يا هذه لقد أخبرتك لا أريد استقبال المزيد من الحالات؟"
ردت بها بعصبية وهي تجمع أغراضها لتغادر..
:"شقيقة حضرتك بالخارج تطلب رؤيتك.."
رفعت عيناها لها وهي تتأفف بانزعاج ثم أشارت لها أن تدخلها فأسرعت الفتاة تلوذ بالفرار من أمامها قبل أن تدخل فتاة كانت لتصبح نسخة مصغرة عنها لولا أنها استعانت ببضع عمليات لتخفي كل العيوب الغير مرحب بها.. لكن ليس هذا فقط ما يفرق بينهما.. لم يكن الشكل أبداً ما يجعلها مختلفة عن سندس.. تلك الابتسامة البلهاء التي تزين وجهها على الدوام لم تكن أبداً لتحتل محياها.. وتلك الطريقة اللطيفة الناعمة ما كانت أبداً تستعملها إلا بالوقت التي تحتاج فيها للتعامل بهذه الطريقة الناعمة..
كانت سندس غبية وهي على عكسها ذكية ومتقدة الذهن وتحصل على كل ما تتمناه لأنها ببساطة دوماً تختار الطرف الرابح..
:"كيف حالكِ سوزان؟!"
ضحكت باستهزاء وهي تجلس على مقعدها واضعة ساقاً فوق الأخرى وهي تطالع المكان من حولها بينما ترد: "أفضل حالاً منكِ بالتأكيد"
تلفتت سندس حولها قبل أن تعاود النظر لها وهي تقول بصدق: "ليزدكِ الله من نعيمه"
لم تمنحها أي رد فاقتربت الفتاة بابتسامة تكمل: "أبي سيعد لي حفلة مطلع الشهر القادم بمناسبة تخرجي وعيد مولدي وأتمنى أن تحضريه"
ابتسمت بسخرية وهي ترد: "والدكِ فقد عقله بالتأكيد.."
اتكأت على المكتب بينما تكمل: "الأفضل له أن يعد ميتماً لا حفلاً.. فلا شيء مميز بتخرجك من معهد للتقنيات.. هذا يجعلكِ فتاة مهملة أو غبية وأنا أرشح الثانية"
ظهر البؤس والحزن على وجه الفتاة التي أطرقت لثانية وغطى شعرها وجهها قبل أن تبتسم وتمد يدها بحقيبتها ثم أخرجت الدعوة ووضعتها أمامها وهي تقول: "أمي أخبرتني أنها ستأتي.. وسيسعدني أن تحضري معها.."
كانت مصدومة أن والدتها وافقت على حضور ذلك الحفل لكنها لم تبدي أي شيء بينما التفتت سندس لتغادر لكنها توقفت وأكملت: "أبي سيسعد كثيراً إن حضرتِ سوزان"
ثم غادرت بعدها المكان تاركة إياها تحدق بالكارت بشرود قبل أن تمسكه وتمزقه بعنف ثم ألقته أرضاً ونهضت لتغادر هي الأخرى..
****
أنت تقرأ
رسالة من فتاة مجنونة
Romansالعالم بيننا..والزمان لم يكن أبدًا حليفنا.. فلا عتاب ولا رجاء سيمنع قدرنا.. لذا لا تراجعي ولا تمنعيني.. وبهذه العيون لا تغويني.. لا مفر لفراقنا.. ولا تنتظريني فالأمل ضئيل للقائنا.. رواية رسالة من فتاة مجنونة هينزل منها كل يوم فصل بعد صلاة التر...