رسالة من فتاة مجنونة - الفصل الرابع والثلاثون

128 14 2
                                    

~الرسالة الثانية والعشرون~
تعشقين النجوم لأنكِ نجمة هوت من السماء والتقفتها يداي..
****
~الرسالة الثالثة والعشرون~
عزيزي لا تترك يدي..
ولا تتركني للحياة فإنني..
أخاف منها فارفق بقلبي المثقلِ..
*****
لم تكن تمتلك عادة الاستيقاظ والبقاء بالفراش.. لكن بذلك الصباح بقيت جالسة تطالع السقف.. تتساءل عن السبب الذي من المفترض أن تنهض لأجله من فراشها..وبعد التجول في ثنايا أفكارها والشجار مع عقلها تذكرت السبب..
العمل أو بمعنى أدق المال الذي تجنيه من العمل.. والذي من خلاله ستتحرر وتغادر هذا المكان للأبد..
فكرت أنها بيومٍ من الأيام ربما عليها أن تشكر والدها أو السيد عادل المهدي.. على منحها تلك الفرصة في العمل بفضل علاقاته.. فلولاه ما كانت دخلت تلك المدرسة المرموقة التي تعرفت بها على هيثم.. ومن بعدها عملت في شركته.. عليها حقاً أن تشكره لكن بيومِ آخر وبعيدٍ جداً.. يوم تنسى ما ألم بها نظير تلك الامتيازات البسيطة.
أنهت الاستعداد للخروج بعد أن وقفت أمام المرآة لساعات.. تحاول بها إخفاء كل الكدمات وأي أثر لصفعات المعتوه.. لكن حتى لو أخفتها سيبقى أثرها على نفسها.. وذلك الأثر سيدفعها لدخول الحمام كل ساعة لتتأكد أنه لا توجد أي علامات ظاهرة.. لتصبح مصدر أي أحاديث بالشركة.. فلا ينقصها أي سوء ويكفيها ما تعانيه.
حملت حقيبتها واتجهت للباب الذي ما أن أمسكت مقبضه ترددت لثواني من الخروج.. لاح ببالها مشاهد ضربها والتي طردتها بهز رأسها بعنف.. قبل أن تتنهد وتغادر الغرفة وتتحرك فوراً نحو الباب...
: "إسلام.."
توقفت بمكانها وابتلعت لعابها ثم التفتت ببطء تطالع والدها.. الذي اقترب منها وطالعها قليلا كما فعل بالأمس.. عندما عادت للبيت وجدت الجميع بغرفهم وهو فقط يجلس بالصالة ينتظرها.. لم يتحدث معها ولم يخبرها أي شيء.. فقط تنهد وتركها تعود لغرفتها.
وها هو يقف ولا يبدو عليه أي نية للسؤال أو الاستفسار.. ببساطة وضع والدها يده بجيب سرواله وأخرج مفتاح سيارتها.. ثم سلمها لها وهو يقول: "لقد أخذت مفتاح سيارتك وملأتها بالبنزين صباح اليوم لا تركبي المواصلات.. وإن شعرتِ بأي إرهاق أو تعب استأذني من العمل وعودي للبيت"
كان هناك رغبة ملحة أن تصرخ به أن هذا المكان ليس بيتها.. لكنها اقتصدت تعبها.. فجسدها بالفعل مرهق وبالكاد تملك أي طاقة للحديث.. بصعوبة أومأت وأخذت المفتاح ثم غادرت فورا.
*****
:"أنا لا أريدك أن تقلقي ساندي"
دخلت غرفة مكتبها وهي تستمع لحديث أمجد معها الذي أتمه بقوله: "خالك لا يملك أي أوراق تثبت حقه بشبرٍ واحد من الشركة"
ابتسمت وهي تجلس على المكتب.. لكن سرعان ما عادت تسأله بقلق: "ماذا عن تلك الأوراق التي..."
:"إنها أوراق غير مسجلة"
قالها أمجد ثم تنهد مكملا: "مجرد ورقة يخبر فيها والدك جدك أنه استلف منه بعض المال.. وستشهد والدتك على القسم بأنكم رددتم هذا المال.. كل أوراق الشركة مسجلة باسمها.. ثم ورثتكِ الإدارة وكتبت كل شيء باسمك.. لذا موقفنا أقوى بكثير من ادعائه"
تنهدت براحة وهي تهمس: "أرحت قلبي يا أمجد!"
-: "أعلم أن التفكير بالتأكيد أضناكِ.. لذا أردت إخبارك لأريحك كليا.. الجلسة ستكون سلسة وفي الغالب ستؤجل لمرة واحدة.. وبعدها أعدك سيختفي إزعاج خالك من حياتك للأبد"
مجددا تنهدت براحة ثم ردت بامتنان: "شكرا لك أمجد!"
-:"على ماذا إنه عملي.. اعتني بنفسك"
:"وأنت أيضاً"
قالتها ثم أغلقت الهاتف وهي تتنفس بعمق.. وتطالع صورة مالي وهي تقول: "ألم أعدكِ أن لا أحد سينال حقنا ما حييت"
التفتت تطالع هاتفها وهي مستغربة أن أكمل لم يرسل لها تحية الصباح كالعادة.. لكن ما كادت تمر ثوانٍ إلا ووجدت إشعار برسالة منه:
( صباح الخير يا شرسة.. ما رأيك بتناول الغداء معا اليوم وإخباري بمستجدات العمل؟ )
ابتسمت فور قراءتها للرسالة.. قبل أن تنظر نحو السماء الملبدة بالغيوم بأسف وحزن قبل أن تتنهد وتكتب له: ( الطقس سيئ اليوم.. وقد وعدت والدتي أن نتناول الغداء معاً )
أرسلت الرسالة ثم طرأت ببالها فكرة.. وقررت تنفيذها فورا قبل أن تتراجع عنها
( ما رأيك أن تأتي معي؟. أمي كانت ترغب برؤيتك منذ فترة )
انتظرت قليلا بعد إرسال النص.. وما أن وصلها الرد بالموافقة ابتسمت بسعادة وصفقت بيديها وهي تهتف: "مرحى!"
ومرت ثانية بعدها قبل أن تجد مساعدتها صافي تدخل المكتب وتسألها بقلق: "آنستي هل من مشكلة؟!"
جلست باستقامة بمقعدها وهندمت ثيابها وهي ترد بهدوء: "نعم أنا بخير تماما لا تقلقي"
أومأت لها وغادرت بعدها فعادت تبتسم بسعادة.. ثم أرسلت لمساعدتهم بالبيت أن تحضر بعض الحاجيات لها لإعداد الغداء.
*****
أنهى ارتداء ثيابه وقرر أنه سيغادر الغرفة.. يتناول فطوره ثم سيتوجه لشركة الحاج عبدالعزيز.. ففي الغالب اجتماعه معه بغرض العمل.. وفي الغالب سيطول وقت الاجتماع ..لذا عليه الذهاب بموعده تماما حتى لا يتأخر عن حضور عرض ريم.
تحرك يخرج من الغرفة وتوجه للمصعد.. لكن ما أن مر بجوار باب غرفتها وجد الباب مفتوح وسمع صوت منار تقول: "ريم اهدئي رجاءًا"
فتح الباب أكثر ودخل ليجد منار واقفة بتوتر.. وهي تطالع ريم التي تتحرك بعصبية لتجمع أغراضها.. لبضع ثوانٍ راقب حركاتها المليئة بالتوتر والعصبية.. ويدها المرتعشة وعدم ملاحظتها لوجوده.. وفهم فورا أنها غاضبة وخائفة لسبب ما.
:"أود السؤال عما يحدث هنا؟"
قالها فالتفتتا له وعندها أكمل بتحذير: "لكن أولاً سأحذركما من ترك الباب مفتوحاً بهذا الشكل تحت أي ظرف أفهمتما؟!"
تحركت ريم نحوه وهي تقول: "جيد أنك هنا!"
وقفت أمامه وبدأ عندها يدرك أن جسدها كله يرتجف وليس كفها وحسب.. وأنها كانت تبكي لسببٍ ما..
التقطت نفسا كان متأكدا أنه آلمها.. بفضل تلك الهمهمة المختنقة التي صدرت عنها ثم أكملت: "أرغب بالسفر والعودة للإسكندرية على أول طائرة"
ارتفع حاجباه قليلا وهو يرد: "عفواً!.. هل تمزحين معي؟"
هزت رأسها بنفي وقالت: "لا.. أنا لا أمزح.. وأريد أن أسافر"
تدارك صدمته من حديثها.. فلم تكن تلك التي تتحدث.. نفس الفتاة التي وصفت له تدريباتها المضنية التي لا تتوقف حتى عندما تعود لغرفتها.. فقد حصلت من المسرح على جهاز بيانو محمول لتتدرب عليه.. وقد وصفت له شعورها نحو كل لحن ستعزفه..وكم هي مسرورة أنها تعرفها جميعا.. ووصفت له مدى سعادتها بالإضافات الحماسية التي سيتم إدخالها على الألحان.. نظر عندها لمنار التي اقتربت وهي تقول: "ريم اسمعيني أ..."
:"اخرسي منار!"
صرخت عليها فجأة ثم التفتت تهتف بوجهها: "كنت تعلمين.. كنت تعلمين أنها مريضة وبالمشفى ولم تخبريني.. وأنا لن أستمع لكِ ولن أسامحكِ على فعلتكِ أبدا!"
عندها اندفع يمسك ذراعها عندما استشعر حرج الفتاة التي سرعان ما غادرت الغرفة.. وعندها أفلتت من يده وتحركت تتجه نحو الواجهة الزجاجية.. وقد بدت أنها تعاني بطريقة ما من كل شيء.. السير والحديث وحتى التنفس كان مرهقاً لريم بتلك اللحظة.
اقترب منها وقال: "هلاّ هدأتِ ريم لنتحدث؟"
:"لا لن أهدأ!"
ردت بها ثم التفتت تسأله: "هل تنوي مساعدتي أم أبحث عن طريقة أخرى لأسافر؟"
وقف بثبات بينما يقول بهدوء: "أنا بالتأكيد سأساعدك.. لكن ليس للسفر.."
تجمدت بمكانها وهو يكمل: "أنا لن أسمح لكِ بتضييع فرصتك"
بقيت تطالعه ثم أغمضت عينيها.. قبل أن تضحك وهي ترد: "يا لي من ساذجة!. ماذا كنت أنتظر منك غير هذا الرد؟!"
:"أنتِ ساذجة بالفعل لتفكيركِ بتلك الطريقة"
قالها ببرود فطالعته قبل أن يكمل: "لهذا السبب بالتحديد أستاذتك رفضت إخبارك بمرضها.. لأنك ساذجة ولا تجيدين تحديد أولويات حياتك"
اقتربت منه بتحدي وفجأة اختفى الضعف والخوف وظهر التحدي جلياً على ملامحها.. وهذه كانت خطوة جيدة.. وصلت لمقربة منه وقالت بهدوء: "نغم أهم عندي مما تدعوه بسخافة فرصتي.. ولن أضيع وقتي بشرح أهميتها عندي لك.. فأنت لا تشبهني لذا لن تفهمني"
هز رأسه ورد بموافقة: "أنا بالفعل لا أشبهك.. أنت ساذجة وأنا لست ساذج"
قطع المسافة الفاصلة بينهما وأكمل بصرامة: "لهذا لن أسمح لكِ بالخروج من هذا البلد.. إلا بعد انتهاء عزف آخر مقطوعة مطلوبة منك"
:"لا يجب أن تكون متفاخراً بكونك عديماً للمشاعر يا هذا!"
قالتها بقسوة ثم التفتت تطالع بقعة معينة.. وعندما التفت لها وجد إطار على هيئة كتاب يحمل صورتها مع والديها في جهته اليمنى.. وجهته اليسرى صورة لها مع خالتها.. لكنه فهم أنها تطالع صورة والدتها بالتحديد.. فقد عرف من جده تفاصيل ذلك اليوم.. بالإضافة لتشبثها بالدبلة الخاصة بوالدتها المعلقة حول عنقها.. وعندها استطاع تبرير ذلك الخوف الذي عاد لاحتلالها.. والذي دفعها للعودة لجمع أغراضها.. فاندفع يسحبها بخشونة لتعود لمكانها وهو يقول: "أخبرتك لن أسمح لكِ بالسفر"
ضاقت عيناها وتراجعت برأسها تطالعه بطريقة صدمته.. لم يتخيل أن من تطالعه بتلك النظرة المليئة بالتحذير والتعالي هي ريم.. بينما تسأله بصوت جامد: "هل تظن أنك قادر على إجباري لفعل أي شيء؟"
: "لا بالطبع لن يقدر.. لكن أنا أقدر!"
اختفت النظرة واختفت هي شخصياً من أمامه ما أن سمعت ذلك الصوت.. كان يمكنه رؤية اللهفة والخوف فقط يملآن وجهها قبل أن تندفع نحو الهاتف الذي كانت منار تمد يدها به بعد أن فتحت المكبر.
:"نغم كيف تفعلين هذا بي و..."
رافق صوتها المختنق حشرجة أنفاسها بطرحها ذلك السؤال.. الذي ردت عليه نغم فوراً بصرامة: "اخرسي يا فتاة.. هل ترغبين بمحاسبتي؟!"
صمت حل بالمكان فعلا قبل أن تكمل نغم بمنتهى الهدوء: "الآن اسمعيني جيداً يا فتاة.. فأنا أكره تكرار أوامري.. وأنتِ وتلك الغبية التي تقف أمامك أدرى الناس بهذا"
أقسم أنه رأى ظهر الفتاتين ينتصب بانتباه بينما تستمعان لحديث المرأة عبر الهاتف.. والتي أردفت بتحذير مشددة على كل كلمة: "اللحظة التي ستفكرين بالعودة بها دون تنفيذ كل المطلوب منكِ على أكمل وجه.. والالتزام ببنود عقدك التي كتبتها بنفسي.. ستكون ذاتها اللحظة التي اعتبرك بها متِ"
شهقت منار بينما بقيت ريم جامدة مع إكمال نغم: "أجل بالضبط كما سمعت كلتيكما.. أنتما تلميذتاي ولن أسمح لكما بالتقاعس أبداً.. بالذات أنتِ يا ريم.. فتكرار نفس الموقف منكِ غير مقبول.. عليكِ أن تعي أني مررتها لك بصغرك.. لكنك لم تعودي تلك الفتاة الصغيرة لأمرر أخطائك الفادحة.. عليكِ الالتزام بعهودك وكلماتك تحت أي ظرف"
بدأت ريم بالبكاء بينما تومئ بصمت.. قبل أن يتم إغلاق الخط من الجهة الأخرى.. بتلك اللحظة فهم السبب الذي جعل ريم تبدع باستخدام موهبتها.. في الغالب نغم بصرامتها لم تسمح لها بالتهاون.. أو التكاسل طيلة الأعوام الماضية..
سلمت الهاتف لمنار التي قالت: "سأنتظرك في استقبال الفندق"
أومأت لها فتحركت وعندها تحرك هو الآخر يتبعها.
:"مؤمن"
التفت ينظر لها فتنفست بهدوء وقد شعر براحة فهذا يعني أنها هدأت قليلا.
:"أنا آسفة.. لم أقصد أن أهينك"
قالتها بأسف حقيقي فرد دون تفكير: "أعلم كما أنكِ لم تكذبي.. أنا لا أهتم بالمشاعر عامة.. لكني أقدر مشاعركِ ومن تعيريهم تلك المشاعر.. فأنتِ تهمينني"
بقيت جامدة بمكانها تطالعه وحسب قبل أن تومئ بصمت.. فتحرك يغادر وهو يكمل: "أسرعي بالنزول.. فأنا سأوصلكِ أنتِ ومنار!"
أغلق الباب بعدها ثم تحرك نحو المصعد حيث تقف منار مطأطئة الرأس.
:"لا تغضبي منها!"
قالها بهدوء آملا ألا يكون تعدى مساحة صداقتهما.. لكنه كان يعلم أن ريم صدقا لا تعني أي كلمة ألقتها بغضبها.. وفي الغالب ستحتفظ بكل تركيزها للتمارين والعرض.. لذا ستنسى الاعتذار لمنار..
:"أنا لا ألومها.. معها كل الحق!"
ردت بها ثم تنهدت وهي تكمل: "كان علي إخبارها فلها الحق - أكثر مني حتى – بمعرفة حالة نغم"
وصل المصعد عندها دخلا وضغطا الزر المؤدي للطابق السفلي.. فكر قليلا قبل أن يسألها: "ما هو مرضها؟"
-: "لوكيميا ( سرطان الدم )"
أخرج هاتفه عندها بينما يسألها مجددا: "هل تعرفين المشفى التي تتلقى بها جلساتها؟"
*****
: "إذا كيف حال والدكِ؟"
سألها جدها بينما تعد له الشاي فتنهدت وهي ترد: "أتى الطبيب لزيارته البارحة"
تحركت تضع الكوب أمامه ثم جلست بهدوء أمامه وهي تكمل: "أخبرني إذا ساءت حالته مجدداً سنضطر لنقله للمشفى"
أطرقت لثواني وهي تتذكر ما كان يهذي به والدها طيلة تعبه ثم قالت: "جدي هلاّ أقنعته؟"
رفعت عينيها له وهي تكمل: "ما أن يعود أخي هلاّ أقنعته بزيارة أبي؟"
تنهد جدها ورد: "أخوكِ كذب عندما قال أنه لا يسامح.. هو بالفعل يسامح ويغفر.."
أطرق جدها قليلا ثم هز رأسه بنفي وهو يكمل: "لكنه أبداً لن يسامح والدك يا ابنتي.. وإن طلبت منه زيارته سأخسره.."
شعرت أنها ستنفجر بالبكاء.. لكنه مد كفه يربت على كفها وهو يقول: "ونصيحة مني عليا لا تطلبي منه زيارته مجدداً.."
نظر لها قليلا ثم أكمل بتحذير: "إن كنتِ حريصة على عدم خسارته.. إياكِ أن تعيدي طلبكِ عليه"
أومأت له بصمت فابتسم وتراجع بمقعده وهو يسأل: "إذا أين الغبية شقيقتكِ؟"
تنهدت تتمالك أعصابها ثم ردت: "نائمة.. فقد غادرت بالصباح الباكر لمكانٍ ما ثم عادت وقد كانت غاضبة لسببٍ ما"
*****
كان يمكنها سماع صوت حديثهم لأن غرفتها قريبة من المطبخ.. إن كان هناك شيء تحسد أخيها الكئيب عليه فهو استطاعته الابتعاد عن تلك العائلة المخبولة..
فكرت قليلاً قبل أن تتنهد وهي تهمس لنفسها: "في الحقيقة أنا أحسده على كل شيء يمتلكه"
صمتت وهي تطالع الهاتف.. ورسائلها التي وصلت الأحمق سلامة الذي لم يرد عليها.. ولم يلاقيها على الموعد بعد أن انتظرته لساعات.
ألقت الهاتف بعصبية على الفراش.. وهي تحاول افتكاك السبب الذي قد يدفعه لتجاهلها طيلة الفترة الماضية.. طالما كل شيء يسير على ما يرام لكنها لم تقدر.. وبين أفكارها المؤلمة سمعت صوت إشعار رسالة فأسرعت تفتحها لتجدها منه:
(عذراً يا آنسة فاطيمة.. لكني مشغول بالعمل مع والدتك)
همست بشتيمة بذيئة قبل أن ترسل له: ( دعنا من مبرراتك وأخبرني.. كيف تسير خطتنا؟ )
*****
قرأ رسالتها التي وصفت له مدى حنقها وغضبها.
: "إذا يا سلامة كيف حال المبيعات؟"
التفت ينظر للسيدة الجالسة على مكتب الإدارة.. القابع بغرفة منزوية عن بقية المحل وهو يرد بحفاوة: "بخير حال يا سيدتي.. العمل كان مزدهراً بفضل الأعياد.. وحالياً وعلى عكس من حولنا لا زلنا نبيع"
ابتسمت وتنهدت وهي تريح ظهرها على المقعد بينما ترد: "هذا بفضل الدعايا الخاصة بشركة التسويق"
-:"ولا تنسي عملي أنا والفتيان يا سيدتي"
التفتت له فأكمل بمبالغة: "أنا لا أتركهم يرتاحون.. طيلة الوقت ينادون على البضاعة في الشارع ليجتذبوا الزبائن"
:"هذا ما أنتظره منك يا سلامة!"
قالتها وهي تتكئ على المكتب ثم أكملت: "اجلس لنراجع معاً الحسابات"
جلس بالفعل ثم قال: "قبل يومين كنت أسير بجوار منطقتكم.. ورأيت سيدة تشبهكِ بعض الشيء ومعها فتاة جميلة"
ردت بهدوء: "لابد أنها أختي ومعها ابنتي الصغرى دارين"
-:"علمت أنها ابنتك"
التفتت له فأكمل: "فهي بهية الحسن مثلك يا سيدتي"
ارتفع حاجبيها قبل أن تبتسم بزهو وترد: "شكرا يا سلامة"
-:"لا أقول سوى الحقيقة"
قالها بتملق جعلها تخجل كالعادة قبل أن تلتهي عنه بمراجعة بعض الأوراق وعندها ابتسم وكتب رسالة وبعثها لفطيمة..
( تسير أفضل مما تتخيلين )
وبالطبع لم يتمكن من إضافة "يا بلهاء" بنهايتها فقد احتفظ بها لنفسه..
****
سمع طرقاً على الباب فتخيل أنها إسلام.. كان قد طلب من نور أن تطلب منها إحضار ملفات هو حتى لا يذكر ما طلب إحضاره.. كان الغرض أن تأتي إليه ليتحدثوا بشأن ما حدث البارحة..
:"تفضل"
قالها ليُصدَم بدخول جوان التي اقتربت منه ووضعت أمامه الملفات التي طلبها وهي تقول: "تفضل سيدي"
:"أين باشمهندسة إسلام؟"
سأل وقد بدأ الحنق يتملكه وهو يتذكر حديثه مع والدته في مساء الليلة..
&&فــــــلاش بـــــاك&&
~في الليلة السابقة~
وصل للبيت وشعر براحة من السكون الذي يملؤ المكان فلم يكن بمزاج يسمح بالحديث.. هو بالفعل منذ ذلك اليوم الذي احتد به والده عليه وهو بالكاد يتحدث لأي شخص.. وصل لغرفته وقرر أن يأخذ حماماً ثم ينام فوراً لكنه تفاجأ بالباب يُفتَح ووالدته تدخل الغرفة قائلة: "مساء الخير"
:"مساء النور.."
رد بها دون التفات فقد خلع حذائه ثم نظر لها وسألها: "هل تريدين شيئاً؟"
تحركت وجلست بجواره ثم ابتسمت وهي ترد: "أريد الاطمئنان عليك بما أنك لم تحادثني منذ أيام"
ابتسم لها ورد: "أنا بخير لا تقلقي"
اقتربت وربتت على كتفه فتمنى ألا تتحدث معه بشأن والده ويبدو أنها بطريقة ما قرأت أفكاره لأنها فجأة رفعت حاجبيها وبدا عليها التفكير لبرهة قبل أن تقول: "شقيقك زارنا اليوم.. هو وراما ينويان إنجاب طفل"
:"يااااي مرحى للحمقى"
رد بها ثم نهض دون أن يلتفت لانزعاجها لكن ما كان ليخفي استيائه وانزعاجه.. بكلا الحالتين لا أحد يستمع له لذا الأفضل ألا يحتفظ بكلمة الحق ولا يقولها..
:"يوماً ما ستتصالحان أنا واثقة"
قالتها بينما تقترب منه فهز رأسه وهو يمط شفتيه ثم رد: "ثقتك جميلة يا أمي هنيئاً لك بذلك التفاؤل.."
خلع السترة والقميص الأبيض ثم حمل الثياب التي سيرتديها للنوم وتحرك ليغادر لكنها بقيت واقفة بوجهه ثم اقتربت منه وهي تقول: "ألا تنوي الزواج يا بني.. يمكنني أن أبحث عن عروس و..."
تنهد وابتعد عنها وهو يقاطعها برده: "لا أمي"
لحقت به وهي تسأل: "لماذا لا ترغب بالزواج؟"
التفت لها فابتسمت وأكملت بحالمية: "ألا تتمنى إنشاء أسرة وإنجاب فتاة جميلة بعيون زرقاء مثلك؟"
لم يستطع الإبقاء على ملامحه الجامدة فقد وصفت والدته أمنياته بسؤال بسيط.. منزل وأسرة وأطفال.. وقد دفع هذا شبح ابتسامة على وجهه قبل أن يزل لسانه ويقول: "أنا أريد الزواج فعلاً"
اتسعت ابتسامة والدته وهي ترد: "إذا اتركني..."
:"لا أمي.."
قالها فظهر الانزعاج على وجهها وفهم عندها أنه سقط بالفخ وبتلك الحالة لا الحديث بمواربة سيقنعها ولا الرفض سيرضيها لذا تنهد وهو يرد: "لدي العروس بالفعل.."
اتسعت عيناها وفجأة امتلأ وجهها بالبهجة لكن قبل أن تبدأ أسئلتها تحرك محاولاً الهرب منها وهو يكمل: "سأخبرك بها في الوقت المناسب"
لكن مجدداً هيهات أن يهرب.. تلك الجملة التي زلّ لسانه بها لن تمر مرور الكرام فبالرغم من سرعته النسبية إلا أنها سبقته ووقفت أمامه وهي تسأل: "ولِم ليس الآن؟.. دعنا نتحرك ونطلب يدها.."
:"أمي.."
اعترضها بحنق لكنها لم تتراجع واقتربت منه وهي تكمل: "أنا أود أن أفرح بك وبأبنائك هل تستخسر بي تلك الفرحة؟!"
:"لا بالطبع أمي"
رد بها وهو على وشك التوسل أن تتركه الآن لكنها سألته مدعية الحزن: "إذاً لماذا ترفض أن نخطبها؟"
صمت عندها ولم يجد ما يرد به فتنفست بحنق وهي تكمل: "حسناً أخبرني من هي على الأقل؟"
لا يمكنه الإخفاء فهي لن تستسلم لو لم يمنحها أي إجابة.. وبالتأكيد لن يكذب.. أولاً لأنه يستحيل أن يكذب عليها دون أن تكشفه.. ثانياً والأهم حتى لو انطلت عليها الكذبة وعلمت فيما بعد أنه لم يخبرها الحقيقة ستبدأ بطرح المزيد والمزيد من الأسئلة وبعدها ستقاطعه لفترة لهذا تنفس ببطء ثم اعترف بهدوء..
:"إسلام"
ظهرت الصدمة جلية على محياها وهي تهمس مرددة إجابته: "إسلام؟!"
أومأ لها بصمت فالتفتت وتحركت مبتعدة عنه بينما تضع أصابعها على فمها وهنا بدأ يشعر بوجود خطبٍ ما فقد كانت الصدمة أشد مما توقع.. التفتت له بعدها وقالت: "لكن يا بني إنها بمثل عمرك!"
رفع كتفاه وهو يرد: "وما العيب بهذا؟"
تأففت بضيق ثم قالت وقد بدأ الانزعاج يظهر بوضوح بحديثها وانفعالاتها: "حسناً دعك من هذا.. إنها لا تلائمك ووالدك لن يوافق عليها"
ضحك بسخرية وهو يرد: "من قال أني سأطلب رأيه.."
اقترب منها بعدها وسألها باستغراب: "ثم ما الذي يجعلها لا تلائمني؟"
لم يكن وحده من لا يجيد الكذب عليها.. كانت تلك الصفة متبادلة بينهما.. عزيزته أليسار لا يمكنها الكذب أو إخفاء أي شيء عنه لذا سرعان ما تنهدت وردت: "اسمع يا بني.. هذه العائلة غريبة وتخفي سراً"
انعقد حاجبيها واستفهم قائلاً: "عن ماذا تتحدثين؟.. أنا لا أفهمكِ حقاً"
ابتلعت لعابها ثم ردت: "أتذكر وقت ولادتها كان هناك مشاكل بين والدها ووالدتها.. وقد اختفت أمها لفترة قبل أن يعلنوا أنها توفيت.. لم يكن هناك عزاء ولم يشاهد أي شخص دفنها ولا أحد للآن يعلم موقع قبرها حتى"
كان حديثها غريباً لكن حدسه أخبره أن تلك الكلمات ترتبط بمصير إسلام بطريقة أو بأخرى ولم يفهم السبب بذلك الحدس بينما هزت والدته رأسها وأكملت: "جدتك رحمها الله كانت صديقة جدتها.. وقد أخبرتني أن شيئا ما قد حدث"
:"ما هو هذا الشيء؟.."
سألها فحركت كتفيها وزمت شفتيها بنفي وعندها تنفس بعمق قبل أن يكمل بهدوء: "حسناً اسمعي أمي.. أنا أحبها ولن أتزوج غيرها.. لا يهمني كل ما قلته"
تنهدت بانزعاج ثم ردت باستسلام: "حسناً يا بني كما تشاء.. لكن لمعلوماتك إقناع والدك سيكون صعباً"
:"لماذا؟"
سألها وهو يتحرك نحو الحمام دون اكتراث للسبب أياً كان لكنه توقف ما أن ردت: "لأنه يريدك أن تتزوج بجوان"
التفت ينظر لها فأكملت: "هو أساساً من طلب مني سؤالك.. حتى إذا ما وافقت نحادثهم ونتفق معهم"
:"إياكِ أمي!.."
قالها وهو يتراجع نحوها ثم أكمل: "إياكِ أن تستمعي له بهذا الشأن.. أنا لن أتزوج إلا إسلام وأعلميه أني مُصِر ولن أخنع لرغباته هذه المرة"
ثم التفت تاركاً إياها دون كلمة زائدة..
&&&&
:"أتت متأخرة اليوم.."
عاد بتركيزه للمزعجة الواقفة أمامه والتي أكملت بلؤم: "وفضلت الذهاب للباشمهندس ياسر حتى تنهي عملها المتراكم لذا أحضرت أنا الملفات التي تحتاجها"
ابتسم لها فابتسمت بذات اللحظة التي اقترب هو من المكتب قائلاً: "أنا أذكر أن معنى اسم جوان هو زهرة الربيع.."
ادعى التفكير لثانية وهو يكمل: "أذكره لأني كنت أنوي الاختيار بينه وبين بعض الأسماء الأخرى لأجل ابنتي المستقبلية.."
عاد يطالعها ثم أخفى ابتسامته فوراً وأردف ببرود: "وقد ساهمتِ للتو بتقليص عدد تلك الأسماء.."
اتسعت عيناها تزامناً مع تراجع الابتسامة على وجهها فتراجع بمقعده وهو يمسك بأحد الملفات ويطالعه قائلاً: "عودي لمكتبك والزمي حدودك آنسة جوان وإلا ستأتين بأحد الأيام لتجدي مكتبكِ قد أخذه شخص يستحقه"
وبالطبع تحركت بعدها دون رد وعندها ابتسم بتشفي..
****
~ بعد مرور ساعات ~
كان والد ساندي يضحك بانطلاق ثم سعل وهو يقول: "أنت وأصدقائك مشكلة متحركة!"
هز رأسه بينما يرد: "أنا طيب يا عمي صدقني هم من يسحبوني معهم لافتعال المشاكل"
ضحك الرجل بشدة بينما يقول: "صدقتك!.."
مسح عيناه بمنديل ثم نظر له وهو يكمل: "أتعلم يا أكمل يا بني أنا بحياتي كلها لم أحصل على أصدقاء"
ارتفع حاجباه بدهشة وهو يسأله بأسى: "حقاً؟!"
أومأ له بإيجاب ثم رد: "أنا لا أخبرك بهذا لتستاء أنا نفسي لست حزيناً لأني لم أنل أي صديق.."
التفت ينظر للصورة المعلقة على الحائط وهو يكمل: "لقد حصلت على أروع شريكة وأوفى صديقة.."
بقي يطالع الصورة للحظات بحب وسعادة دفعتا الابتسامة لوجهه قبل أن يلتفت بعدها ليطالعه ثم أردف: "وقد استطعت جعلها تفعل شيئاً مستحيلاً.."
:"دفعتها للزواج والتخلي عن العزوبية طبعاً"
قالها فهز رأسه بنفي وهو يرد: "هذا كان شيئاً صعباً لكنه ليس مستحيلاً.."
اقترب منه وأخفض صوته بينما يكمل: "لقد جعلتها تحب كرة القدم"
شهق وهو يقول مدعياً الدهشة: "تمزح!"
رفع رأسه بزهو وهو يرد: "انتظر لتعرف أني جعلتها تغير انتماءات عائلتها الكروية وتشجع فريقي المفضل"
شهق مجدداً ثم أشار له بإصبعه قائلاً: "أنت بطل يا سيد محمود"
أومأ له وهو يرد بغرور: "أعلم يا بني أعلم"
ضحك بذات اللحظة التي دخلت بها ساندي وما أن رأت سعادتهما ابتسمت ثم اقتربت منهم وهي تقول: "هل شبعتما من الكلام فقط ولن تتذوقا ما أعددت؟"
:"لا بالطبع.."
ردا بها بنفس الوقت بينما ابتسم والدها وهو يكمل: "أنا متشوق لتذوق مصادر تلك الروائح الذكية"
كانت بالفعل رائحة الطعام الذكي تملؤ الشقة يصاحبها دفء غريب..
يذكر أن جدته بصغرهم في أوقات البرد الشديد كانت تشعل الفرن وبعدها يملؤ الدفء المكان..
لكن هذا الدفء مختلف.. راقب والد ساندي وهو يخبر ابنته بتفاصيل الجلسة بينهما التي لم تحضرها وأدرك أن ذلك الدفء هو دفء العائلة.. عائلة جميلة تملؤ صدر من يراقبهم بالسعادة.. عائلة ألمّ بها الكثير من المصائب.. عندما دعته ساندي للمنزل تخيل أن المكان سيكون صامتاً وهادئاً وكئيباً وقد كان سيتفهم.. فهذا المنزل تسكنه عائلة فقدت ابنتها الصغيرة المدللة.. الوالد مقعد ولا أمل بشفائه.. والوالدة مريضة معظم الوقت.. تخيل أنه سيجد منزل تفوح رائحة الدواء من كل ركنٍ فيه والبشر بداخله بالكاد يبتسمون..
لكنه صُدِم ثم تفهم ما حدث.. لقد تغلبوا على أحزانهم بتماسكهم.. ابتساماتهم التي يواسون بها بعضهم البعض وأحاديثهم العائلية اللطيفة.. اهتمامهم ببعضهم وخوف كل فردٍ منهم على الآخر..
كانت تلك الأشياء هي ما تجعل الدفء يملؤ المكان..
وقد أحب هذا الدفء وتمنى أن يعيش بقربه للأبد..
:"لم تخبرني يا أكمل.."
التفت لوالد ساندي الذي سأله باهتمام: "أي فريقٍ تشجع؟"
هز رأسه بنفي وهو يرد: "أنا أفضل الدوري الانجليزي والليجا يا عمي"
*الليجا: هو الاسم الشائع للدوري الأسباني*
:"أكمل يشجع ريال مدريد مثلنا يا أبي"
*ريال مدريد هو نادي اسباني ويعد من أشهر الأندية الأوروبية ويعتبر النادي الأكثر تتويجاً بالبطولات القارية على مستوى العالم*
قالتها ساندي بحماس فرد والدها بحماسٍ أكبر: "هذا ما أتحدث عنه.. مشجع ملكي.."
غمز له بعدها وأكمل: "لابد أن تشجع الزمالك لتصبح مثلنا.. مشجعين ملكيين بالداخل والخارج"
*الزمالك هو نادي مصري من أعرق وأشهر الأندية في الوطن العربي وهو النادي الأكثر تتويجاً بالبطولات في القرن العشرين داخل قارة أفريقيا*
*مشجعي نادي ريال مدريد يلقبونه بالنادي الملكي لأنه النادي الذي تشجعه الأسرة الحاكمة الإسبانية وكذلك أتت تسمية نادي الزمالك بالنادي الملكي لأن آخر ملك حكم مصر كان يشجعه ومنحه وسام الملكية*
أعجبه الحديث حقاً ولم يرده أن ينتهي لهذا نهض وهو يقول: "في الواقع جدي لوالدي كان مشجعاً كبيراً للزمالك حتى أنه تعرف على جدي لأمي لأنه هو الآخر كان مشجعاً كبيراً لنفس النادي وبسبب تلك الصداقة تعرف أبي على أمي وتزوجا"
اقترب منه وسأله باهتمام: "هل كان يحضر المباريات بالاستاد؟"
أومأ له بإيجاب ورد: "لم يكن يفوت أي مباراة.. كانا كلاهما من كبار المشجعين"
:"لابد أني أعرفه.."
التفت لابنته مكملاً: "سان لابد أني أعرفه ونسيته"
نظر لساندي التي قالت: "أبي يعرف كل مشجعي الزمالك الكبار ورؤساء الروابط على مستوى الجمهورية"
:"لم لا تحضر المباراة القادمة معنا؟"
سأله والدها فاتسعت ابتسامته وهو يرد: "سيسعدني هذا كثيراً.. أتعلمان يمكنني تأمين تذاكر بأفضل المقاعد"
:"لن تحصل على مقاعد أفضل من التي يحضرها أبي"
قاطعته ساندي بثقة بينما رفع والدها رأسه بزهو وهو يرد: "اتركيه ليرى بنفسه سان"
:"لمَ تأخرتم؟"
سألت والدتها وهي تدخل غرفة الجلوس فردت ساندي: "أكمل سيأتي معنا لحضور المباراة التي بنهاية الأسبوع"
تفاجأ عندما رأى السيدة تقول بحفاوة: "أوووه حقاً؟!.."
أومأ لها فأكملت: "ستعجبك تلك النزهة فبعد المباراة نذهب لتناول العشاء ثم نتنزه ونتناول البطاطا الحلوة على البحر"
كان متشوقاً حقاً لخوض كل هذا معهم ومجدداً صمت وهو يراقب أحاديثهم المليئة بالمزاح والضحكات..
*****
:"ظننتك ستعودين للبيت باكراً اليوم.."
تجاهلت حديثها كلياً بينما تكمل عملها.. لقد طلبت من نور منحها كل أعمال زملائها المتأخرة اليوم بما أنها لا تتحدث مع أي شخص منهم سوى بحدود المعقول والمطلوب.. لذا فقد طلبت من نور وهي لم تقصر بأي مجهود ومنحتها عملاً بالكاد ستنهيه في الثامنة والنصف مساءاً.. ورغم أنها لن تنال أي فائدة مادية وربما تحصل على بعض الشكر والإشادة فقط إلا أنها كانت مستعدة لتحمل كل العمل المضني في العالم إن كان سيجنبها العودة للبيت باكراً..
الساعة كانت اقتربت على الخامسة وقد غادر الجميع تقريباً عدا جوان.. لم تستطع فهم السبب ولم تحاول أن تفهمه.. كان آخر همها دوافع تلك الغبية التي تصب بهدفٍ واحد وهو إزعاجها وحسب..
:"بما أنكِ متعبة ظننت أنكِ..."
:"أنا لدي عمل.."
قالتها ثم نظرت لها بعينيها وهي تكمل ببرود: "وأنا لا أهتم بظنونكِ الفارغة فإن كنتِ تنوين البقاء أسمعيني سكوتكِ"
عادت للعمل بعدها على طاولة الرسم.. سمعت صوت حركاتها العصبية قبل أن تخرج صافعة الباب بعنف لكنها لم تكترث ولم تهتم على الإطلاق.. بقيت على حالها إلى أن سمعت صوت فتح وغلق الباب فالتفتت لتجد هيثم يقترب منها ثم ابتسم قائلاً: "مرحباً يا حلوى الكراميل"
نهضت من مكانها وتحركت نحوه ثم ودون أي كلمة ألقت نفسها بين ذراعيه ليحتضنها.. مر وقتاً وهي على هذا الحال حتى أبعدها ونظر لها يتفحصها ثم سأل: "هل آذاكِ أي أحدٍ منهم بعد عودتكِ؟"
هزت رأسها بنفي ثم أمسك ذقنها وهو يقول: "أنا آسف لأني صرخت بكِ البارحة"
اهتزت شفتيها وكانت على وشك البكاء.. هيثم يعتذر لأنه صرخ عليها فقط بينما هناك شخصٌ كلما مرّ بأي ضيق أو استيقظ يشعر بتعكر المزاج شوه وجهها بصفعاته..
اهتزت شفتيها وكانت على وشك البكاء بالفعل لكنها منعت نفسها بصعوبة بينما أحاط ظهرها بذراعه مكملاً: "أتعلمين كنت متأكداً أنكِ لم تتناولي الغداء لذا طلبت لنا المشاوي"
ضحكت عندها ثم لم تكد تمر ثانية وانفجرت بالبكاء دون أن تقدر على منع نفسها فعاد لاحتضانها مجدداً وهو يربت على ظهرها ويهمس: "لا تخافي سولي.. كل شيء سيكون على ما يرام!"
وبالفعل بعد ثواني اختفت كل مشاعرها السلبية الخانقة وهدأ كل شيء بداخلها وعادت السكينة لتحملها على التوقف عن البكاء ونسيان ما أصابها.. أو تناسيه بمعنى أصح..
****
كانت جالسة بغرفة تبديل الملابس خاصتها أمام المرآة وهي تغمض عينيها محاولة استجماع ما تبقى من تركيزها.. منذ الصباح ومن بعد إيصالهم من قبل مؤمن قامت بإلهاء نفسها بالتركيز على تعليمات أنطوان والتمرينات الرئيسية.. لكن من بعد أن دخلت الغرفة وأنهت ارتداء ثوبها ووضعت مساحيق التجميل.. شعرت فجأة بفراغ رهيب.. شعرت أنها غير قادرة على سماع أي صوت.. صورة نغم فقط كانت تلوح ببالها.. ابتسامتها وهيبتها.. رأسها المرفوع بعلياء.. تسريحتها التي لا تتغير ووجهها الجميل الهاديء..
كل تلك الأشياء بقيت تدور ببالها لتتملكها برودة وخوف.. جسدها كله ارتجف لذا جلست بهدوء وحاولت أن تستعيد اتزانها.. لكن الذنب الذي تحمله لم يسمح لها أبداً.. كان اللوم يملؤها فهي ليست من تفضل نفسها بتلك الطريقة.. طبيعتها ومبادئها لم تكن تسمحان لها بالبقاء هنا ونغم بحالتها تلك..
رن الهاتف عندها ففتحت عيناها ونظرت ناحيته والتقطته فور رؤيتها اسم نغم..
:"كيف حالكِ يا فتاة؟!.."
ابتلعت لعابها بصعوبة ثم تنفست بعمق محاولة الرد لكنها قاطعت الصمت وأكملت: "لا داعي أن تردي الآن واسمعيني يا ريم.."
صمتت بالفعل وهي تسمع تنهيدتها العالية قبل أن تردف: "أنا لا أجيد الكلام لكني تركت لكِ رسالة أشرح لكِ مدى سعادتي وامتناني لحصولي على تلميذة مثلك.. لأشرح لكِ كم أنا فخورة بكِ وأعتبرك مشروع حياتي.."
لم تستطع تمالك نفسها وبدأت بالبكاء فوراً بينما تسمعها تقول: "أنا مريضة منذ سنوات واعتدت كل فترة أن يظهر لي ورم وأقوم بعملية لاستئصاله ثم أعود لتدريبك وتأديبك وكأن شيئاً لم يكن.. لن أكذب عليكِ هذه المرة العملية صعبة بالذات مع سرطان الدم الذي أعاني منه.. لكن يا عزيزتي أنا راضية وقوية ويمكنني تجاوز كل هذا.. والعملية ستكون في الأساس بعد خمسة أيام عندها تكونين قد عدتِ بالسلامة وتبقين بجواري قدر ما تحبين من الوقت.."
صمتت بعدها ثم تنفست مرة أخرى بعمق وهي تكمل: "لكن لا حق لكِ بالتخلي عن حلمكِ ريم.. حلمنا معاً.. هذا الحلم ملكي قبل أن يكون ملكاً لكِ يا ريم.. وأظن أن أقل حقوقي عليكِ أن تحققي لي هذا الحلم"
:"هذا أقل ما تستحقينه يا أستاذة"
قالتها بهدوء مخالف تماماً للصرامة التي ردت بها نغم: "الآن توقفي عن البكاء.. وضعي جسدك داخل الفستان اللعين وتحركي للمسرح!"
:"لقد ارتديته بالفعل"
قالتها بابتسامة فأسرعت نغم وردت: "جيد الآن اذهبي واعزفي لي شيئاً يستحق أن استمع له.. لا تنسي أني أتابع العرض وأي خطأ صغير سأعاقبكِ عليه ما أن تعودي"
ضحكت وهي تقول: "حاضر"
أغلقت الخط بعدها ثم نهضت تطالع نفسها بالمرآة مسحت الدموع عن وجنتيها وهي تحمد الله على اختيارها لمستحضرات تجميل مضادة للماء.. تنفست بعدها بعمق ثم رفعت رأسها وتحركت تخرج من المكان.. قطعت الممر المؤدي للمسرح ولم تتفاجأ عندما رأت الواقفة أمام البوابة..
:"لا يمكنني وصف مدى فخري بكِ يا صديقتي.."
وقفت أمامها وتنفست بعمق مطالعة عينيها بثبات وهي تكمل: "ظننتكِ ما أن تسمعي خبر مرض أستاذتك ستتجهين للمطار فوراً"
مطت شفتيها قبل أن ترد: "أتعلمين أنا أملك رداً لكِ سوزان.."
أشارت لمكان وقوفها وأكملت: "ابقي هنا إن كنتِ ترغبين بسماعه"
ثم تحركت تتجاوزها واتجهت للمسرح منتظرة إشارة دخولها
****
تنفس براحة ما أن جلس.. كان بالفعل قد تأخر وأصابه القلق من أن يكون الحفل قد بدأ قبل أن يصل..
جلس بمكانه في المقاعد الأمامية للمسرح وبعد لحظات فُتِحَ الستار لتظهر الأوركسترا كاملة ومنار تجلس بالمقدمة وقد ابتسمت له ما أن رأته.. كانت هاندا مصممة العرض قد اقتبست نفس طريقة التقديم التي استخدمها أستاذ ريم بالعرض الذي نظمه في مسرح المعهد لذا بعد لحظات دخل المايسترو الإيطالي المسئول عن قيادة الأوركسترا وبعد تصفيق حار أخذ مكانه فوق الخشبة العالية أمام النوتة.. ثم مرت لحظة واختفى بعدها العالم بأسره.. اختفى كل شيء مع دخول صاحبة السمو بثوبها الأسود الأنيق الضيق الذي يلتف على جسدها بأكمله.. فقط يظهر عنقها المزين بحلي ذهبي اسطواني يلتف حول عنقها ونهايتيها تجتمعان فوق موقع التقاء ترقوتيها على هيئة رأس تنين وذيله.. شعرها كان ملفوفاً بتسريحة أنيقة خلف رأسها بينما غرتيها تتهدلان على جانبي رأسها.. تبرجها لا يظهر منه سوى كحل عينيها وأحمر شفاهها الأحمر الدامي..
هيئتها أشعرته أنه بمكانٍ آخر.. أشعره أنه يحلم.. وقد عانى ليتمكن من إقناع نفسه أنها الحقيقة.. هي حقيقية..
وبتلك اللحظة الساحرة الفاصلة بين الواقع والخيال حادث نفسه بأن اللون الأسود لا يجعل فتاته تبدو كئيبة كما يرى به معظم النساء.. بل يجعلها مبهرة وخلابة كنجمة وسط سماء سوداء.. هي بالفعل نجمة سقطت من السماء التي تعشقها.. ويا لسعادته وحظه فمن بين كل البشر هو من التقفها..
:"سيداتي آنساتي سادتي.. يشرفنا حضوركم الليلة.."
كان واثقاً أن لسان حال الجميع هو أن الشرف لهم بحضورهم الليلة لرؤية صاحبة الصوت الهاديء المتزن الخلاب.. وسيتملكهم أعظم شرف لسماع ألحانها الخلابة بعد لحظات..
:"بمثل هذه الليلة وقبل عامٍ بالتحديد انتهى عمل سينمائي ملحمي.. عمل أيقوني مميز غيّر نظرة العالم للأعمال الخيالية.. هذا العمل هو صراع العروش وقد سعدنا بنيل الحظ بتأدية إحدى مقطوعات ذلك العمل المميز.."
صمتت تزامناً مع ظهور بعض الصور الهولوجرامية خلفها والتي كانت تمثل أهم لحظات بالمسلسل ثم أردفت: "كان من الصعب اختيار مقطوعة معينة فجميعها مميزة.. لكن في النهاية استقررنا على مقطوعة.. تلك المقطوعة تمثل تحول الشخص المخلص المتفاني المعطاء.. الشخص الذي يسعى للسلام ولرؤية النور.. إلى شخصٍ لا يرى سوى الظلام.. شخصٍ لا يرى أي أمل.. ولا يملك سوى الألم رفيقاً.."
ابتسمت وهي تكمل: "كل هذا كان بمقطوعة قصيرة لا تتعدى العشر دقائق وكأن الملحن العبقري أراد أن يعلمنا بأن ذلك التحول يحدث بوقتٍ بسيط.. يحدث بسبب كلمة مكونة من بضع حروف.. أو جملة مكونة من بضع كلمات.. لكن في الغالب يحدث ذلك التحول بعد كثيرٍ من الاستفزازات والظلم.. لذا يجب على كل شخصٍ متعالي يظلم من حوله بكلماته ومواقفه أن يحذر.. ففي النهاية تلك هي الطريقة التي يولد بها الأشرار"
وبمجرد انتهاء كلماتها أظلم المسرح ثم ظهر اسم المقطوعة بمنتصفه بتقنية الهولوجرام..
(في قلب الظلام!)
****

رسالة من فتاة مجنونة حيث تعيش القصص. اكتشف الآن