رسالة من فتاة مجنونة-الفصل الرابع والعشرون

124 14 2
                                    

~الرسالة الثالثة عشر~
عزيزي القدر..
لم أنتظر منك انصافاً يوماً ولن انتظره الآن..
عزيزي القدر..
لن تنال مني ما أتمناه ولن تهزمني دون قتال..
عزيزي القدر..
لعبتنا ستنتهي يوم لن تجدي بصدري أي أنفاس..
لذا اكرهني كما تشاء فلست أفضل منك حال..
عزيزي القدر..
******
طل من الليل قالي ضويلي..
لقاني الليل وطفا قناديلي..
ولا تسأليني كيف استهديت..
كان قلبي لعندك.. دليلي..
فيروز
******
تمنت دائماً أن تحصل على شقيقة أكبر منها تهتم بأمرها.. تسألها إن كانت تحتاج أي شيء.. تشكو لها هجران حبيبها وتطلب النصيحة منها عندما يعود معتذراً..
تمنت حتى الحصول على النوع الآخر الذي يتشاجر باستمرار.. وينتهي الأمر بمصالحة بسيطة ويعودوا لفعل كل الأشياء الممتعة.. تمنت أن تنال أختاً عادية.. ولطالما فكرت إن هذا كان سبب حبها وارتباطها بالشقيقات الثلاث.. وبخالتها شكرية بالذات..
لا يمكنها إنكار أنها صدقت الأحاديث التي ابتدعها الجميع من حولها عندما تزوجها والدها..
زوجة أب هذا يعني أنك ستكونين سندريلا.. ستعذبك.. ستحرمك من التعليم.. ستجعلك تخدمينها.. ستكرهك..
في النهاية لم تكن سندريلا.. وشكرية لم تكن زوجة الأب الشريرة.. لم تعذبها.. لم تحرمها من الطعام.. وأبداً لم تعاملها كخادمة.. وبالتأكيد لم تكرهها..
كانت شكرية هي أمها التي حرمت منها.. كانت الشخص الذي ساندها وساعدها.. وكانت الشخص الذي جعلها المرأة القوية التي أصبحت عليها الآن.. وماذا فعلت لتشكرها؟..
جردتها بيتها وكسرت خاطرها.. بالمقابل هي لم تحملها ذنباً ولم تقاطعها.. وقد كان هذا أشد ألما من أي شيء..
ألا تفعل شيئاً.. ألا تصرخ وتغضب كان مؤلماً لها.. المرأة الحديدية كانت حزينة منها.. كانت خائبة الأمل.. كانت وكانت وكانت الكثير من الأشياء التي تثبت أنها ليست حديدية.. هي فقط كانت تدعي لتربيهم..
تدعي لتقف وتنهض وتواجه الحياة.. من داخلها كانت مليئة بالحب والحنان.. ولم تبخل على من حولها بأي منهما..
فهل هي نادمة على ما فعلته بها؟.. بالتأكيد نعم...
هل لو عاد بها الزمن لن تجبرها على الخروج من بيتها؟. بالتأكيد لا..
لو عاد بها الزمن مليارات المرات كانت ستختار أخذ بيتها.. بيع ذلك البيت المهترئ منحها أهم شيء بهذا الزمان المال.. وشكرية كانت تعيش بزمانها الخاص كحال ابنة شقيقتها وفتاتها الذهبية..
كلتاهما كانتا تعيشان بذلك الزمن الذي كانت تزينه القيم والمبادئ والروح الطاهرة الصافية.. وتلك الأشياء التي لم يعد لها وجود حتى بالأفلام.. فحتى الأفلام واكبت العصر وأصبحت مأساوية وقاتمة وقاسية بدون نهايات سعيدة.. حتى الأفلام نزلت على أرض الواقع..
شكرية وريم لم تفعلا وهي تؤمن الآن أنهما لن تفعلا أبداً.. تلك الفتاة التي كانت تتشبث بالبيت كأنه قطعة من قلبها.. كأنه أحد والديها فاجأتها.. بعد الكثير من نظرات اللوم ثم العتاب ثم اللا شيء.. لم تطردها مرة من بيتها ولم تحاول جعلها تبتعد.. كانت كحال خالتها مرحبة ومبتسمة.. وبكل تلك السنوات لم ترى بعينيها أبداً نظرة كره.. ومجدداً هي نادمة لكن ما كانت لتمنحها طلبها..
لذا بعد كل هذا لابد أن تتلقى عقاباً على شعورها الغريب الذي لم تجد له أي اسم لسنوات حتى علمت أنه الجحود..
وقد تسائلت طويلاً ماذا سيكون العقاب.. وتخيلت أنه تحطيم حلمها بتلك الشقيقة التي تمنتها والحصول على الجالسة أمامها...
هنا.. الجاحدة المتكبرة الحقود الحسود التي لا تشبع أبداً.. تلك الشقيقة التي اختارت رجلاً يعلم الجميع سوء سلوكه وطبعه.. وهي رضيت به متحدية الجميع.. وها هي الآن كالعادة تشكو وتنتحب مما يفعله بها
إنه يضربني..
إنه يخونني..
لقد سرق أموالي..
إنه السبب بعدم قدرتي على الحمل والانجاب.. إنه... إنه...
الكثير من "إنه" التي تتبعها صفة سيئة الجميع يعرفها عن حاتم منذ كان طفلاً.. وهي اكتشفتها فقط حديثاً بعد أن جردها كل أموالها وأصبحت تقتات على الفتات الذي يلقيه..
وبعد هذا الهاجس ابتسمت بسخرية وببالها تردد أنها لو كانت لطيفة مع نفسها لاعتبرت هذا عقاباً ملائماً.. لكن هذا ليس كافياً.. عقابها سيكون أسوأ بكثير..
:"لا أعلم كيف أكون بهذا الغباء!"
قالتها هنا وهي تتحرك ذهاباً وإياباً فاحتست هند بعض العصير قبل أن ترد: "وما الجديد؟"
التفتت تنظر لها بعصبية لكنها لم تكترث وأكملت: "واجهي الأمر.. لقد كنت دوماً غبية"
:"هل احكي لك ما حدث لتساعديني أم لتجلطيني؟!"
سألتها بعصبية معتادة منها ثم اقتربت تكمل بحدة: "أخبرك أن الوغد كذب علي بشأن فشل المشروع.. وأنت بدلاً من مواساتي والبحث عن حلٍ معي تخبريني بهذا!"
وضعت الكوب أمامها ثم شبكت أصابع كفيها معاً قبل أن ترد: "حسنا إليك النصيحة.. اطلبي الطلاق"
نظرت لها بانزعاج أكبر وهي تقول: "ليتك لم تجيبي!"
التفتت تتحرك حول المكتب ضاربة بكعب حذائها الأرض بعصبية بينما هنا تكمل: "لا يمكنني تركه دون استرجاع كل مالي"
:"إذاً ماذا تريدين مني أن أفعل؟"
سألتها هند باستغراب وهي تعقد ذراعيها وتستند على المكتب فالتفتت لها بينما تكمل: "طلبت نصيحة وها قد منحتك واحدة"
-:"أريد واحدة يمكنني تنفيذها"
ردت بخفوت يقطر غضباً قبل أن تعود لحركتها العشوائية بالمكتب مكملة: "لا يمكنني أن أتركه ليس قبل أن أسترد أموالي على الأقل.."
مطت شفتيها بانزعاج وتحركت عائدة لمكتبها بينما تقول: "إذاً لا يوجد ما أنصحكِ به.."
فكرت أن عليها التخلص منها فقد آلمت رأسها بحديثها الذي لا طائل منه ونظرت للساعة وقررت أنها ستغادر للفرع الثاني وتتذرع بأي شيء.. التفتت تنظر نحوها لتجدها تطالعها بنظرة خبيثة فاستغربت وسألتها: "ماذا؟!.."
ابتسمت وهي تقترب منها بينما ترد: "ألستِ على اتصال بهذا المحامي؟.."
حركت مقلتيها بملل ثم قالت: "لا أعتقد أن الأمر يعنيكِ يا هنا.."
وقفت أمامها وحركت كتفيها وهي ترد: "بالتأكيد لا يعنيني.. لكن أتسائل إن علمتِ بشأن الخطبة؟.."
اتسعت عيناها وقد استولت بتلك اللحظة على كل انتباهها.. تخيلت أنها بالتأكيد تعني شيئاً غير الذي فهمته.. ولم تتمكن حتى من فتح فمها لتسألها لكن هنا كانت على قدر المتوقع منها فقد أكملت بشماتة: "لقد أخبرتني مساعدته أنه سيخطب قريباً.."
:"يا للهول لقد كانت تعني ما فهمته!.."
كانت تلك الجملة التي تتردد ببالها دون توقف وقد حاولت تخطي حالة ذهولها لتتمكن من الحديث لكنها لم تقدر وهنا لم توفر أي طاقة وأكملت: "واحذري من العروس التي ينوي خطبتها.."
اقتربت منها أكثر وهي تردف بصوتٍ شعرت كأنه سكينٌ ثلمة تُغرز بصدرها: "ينوي خطبة ريم ابنة سامية.."
***
ما أن وصلت للبيت تحركت بعصبية نحو غرفة الجلوس.. لتجد والدها يجلس وبجواره صاحبة الجحر القذر الذي خرجت منه هي وبناتها لكنها لم تكترث واقتربت منه تقول: "لم أوصيت بأن تصبح تحت إشرافي."
-:"لأنه..."
حدجتها بنظرة صاعقة فتراجعت فوراً قبل أن تواجه هي والدها فكرت كثيراً بما ستقوله له منذ الصباح لكن كل الكلمات التي رتبتها طارت من عقلها وخرجت كلماتٍ أخرى كطلقات الرصاص بينما تكمل: "أنت تعلم أني أتهرب بالعمل من الوجود معكم.. وأني لا أرغب بالتعامل مع أي منكم.. هذه حقيقة لا أخفيها عنكم.. إذاً لِم وضعتها معي رغم علمك بكل هذا؟"
:"لأني أردت هذا ولا يمكنك محاسبتي"
رد بها ببرود ثم عاد لتصفح هاتفه دون كلمة زائدة ففهمت أنه كالعادة لا يريد الحديث معها ولن يوضح أي شيء ولهذا تحركت وغادرت تاركة لحفصة وبناتها الابتسامات الشامتة..
كانت تعلم يقينا أن الأمر لا يتعلق بعمل لتلك الكسولة.. لكن الأمر يتعلق بإفساد عملها وزيادة إفساد حياتها لا أكثر وقد كانت تعلم من المسئولة عن اقتراحٍ كهذا..
أغلقت باب غرفتها بإحكام ثم تحركت تلقي بجسدها على الفراش.. طالعت السقف ومر الوقت ثقيل وممل.. الكثير من الأفكار تتطاحن برأسها..
صوت يدعوها للمواجهة وآخر يدعوها للاستسلام..
صوت يدعوها للانتقام وآخر يتسائل عن فائدة الانتقام..
صوت يتسائل عن سبب وجودها بتلك الحياة..
صوت يطلب منها مفارقة الحياة..
صوت يتسائل عمن أنجبتها وتركتها بين براثن الحياة..
أغمضت عينيها بشدة لتكتم كل الأصوات وتنال لحظة من السكينة لكنها لم تستطع وعندها سمعت صوت تنبيه الرسائل بهاتفها.. التفتت لحقيبتها وأخرجته بينما بقيت مستلقية وما أن أضائت الشاشة رأت أن الرسالة من هيثم..
:"هل أنتِ بخير؟.."
طالعت نص الرسالة لفترة قبل أن تلقي الهاتف جانباً وقد قررت تجاهل كل شيء ثم التفتت بعدها تطالع صورة جدتها وهدأت كل الأصوات فجأة.. رغم هذا ومع مرور الوقت هطلت الدموع من عينيها فأغمضتهما وهي تهمس باختناق: "ليتكِ كنتِ بجواري الآن.."
****
:"لم أخبركما بهذا لتصابا بالكآبة"
قالتها ساندي وهي تطالع والديها قبل أن تكمل: "أخبرتكما لأنكما بالتأكيد ستعرفان.. والأفضل أن تسمعا ما حدث مني.."
كانت تعلم أنهما سيتضايقا بمجرد إخبارهما بما حدث لكنها متأكدة أنهما سيعرفا بكل الأحوال فرغم تركهما إدارة كل شيء لها إلا أنهما لا زالا على تواصل مع كبار الموظفين في الشركة ليتدخلا عند الحاجة.. ولهذا فضلت أن تكون هي من تخبرهما..
نظرت لوالدتها التي أخفت ارتباكها الذي ظهر لثوانٍ معدودة بينما رد والدها بهدوئه المعتاد: "نحن لم نُصب بالكآبة عزيزتي.. ما جال ببالنا هو كيف نساعدك وحسب"
ابتسمت لهما وأمسكت بكفيهما معاً وهي تقول: "لا تفكرا بأي شيء يمكنني حل أموري.. لا أريد منكما سوى الاهتمام بصحتكما"
ابتسمت لها والدتها ثم ربتت على كفها وهي ترد: "نحن نثق بك يا عزيزتي"
نهضت ثم اقتربت وطبعت قبلة على وجنتها وبعدها تحركت وهي تقول: "سأبدل ثيابي ونتناول الغداء معاً"
***
أنهت عزف المقطوعة التي سمعتها من السيد عنان ثم لامست لوحة المفاتيح قبل أن تغلقها وتلتفت لفادية ثم تنهدت وهي تقول: "أشعر بالأسف عليها.."
قالتها ثم التفتت لفادية تكمل: "أعلم أنها من تستحق ذلك المقعد وأتمنى أن أساعدها لكن ليس بيدي شيء.."
ابتسمت لها فادية وهي ترد: "ألم يعدك السيد عنان بالمساعدة؟.."
ضحكت بخفوت وهي تنهض عن البيانو وتتحرك للطاولة المقابلة لمقعد فادية ثم رفعت كوب العصير قائلة: "المايسترو أخبرني نصاً أن مقعد العرض لريم.."
ابتسمت فادية وهي ترد: "إذاً ثقي به.."
تنهدت وتحركت نحو الشرفة بينما تقول: "لا أملك غير الثقة به.."
حل الصمت بعدها لفترة بينما كانت تتذكر تلك النظرة بعيون ريم.. لقد كانت هي من عشمتها بالحصول على مقعد عزف البيانو بتلك الحفلة وجعلتها تتدرب حتى تخدلت أصابعها.. مع هذا ريم لم تلمها ولم تشتكي.. كانت تتمنى لو أنها اليوم طالبت السيد عنان بمنحها المقعد لكنها تعرفها.. لن تفعلها أبداً..
تنهدت تنفث قلقها بعيداً وهي تردد جملة فادية.. ليس لشيء سوى لأنها لا تملك غير الثقة بالسيد عنان.. ولو أن جملته اليوم طمئنتها قليلاً فإن كان قد تخلى عن الفكرة ما أخبرها وأكد عليها أن مقعد بيانو عرض الخريف لها..
:"يمكنك الاتصال بها.."
التفتت لفادية التي أكملت: "تعلمين لتطمئني عليها.."
فكرت لثانية بتنفيذ طلبها فقد قلقت عليها بالفعل بالذات أنهما لم تلتقيا منذ فترة لكنها تراجعت عن الفكرة وردت: "لا داعي سأراها بعد غد في كل الأحوال.."
أومأت لها فادية وقالت: "على راحتك.."
ثم تحركت لخارج الغرفة وهي تكمل: "سأتأكد من غلق كل النوافذ لنغادر بعدها.."
تركتها تفعل ما قالته ثم التفتت تنظر للخارج.. تنفست بعمق وهي تفكر أنها ربما كانت بحاجة للحديث معها فقد شعرت اليوم أنها حزينة ومتضايقة وهي لم تعتدها على هذا الحال منذ سنوات..
ربما تحادثها في الغد وتسألها عما بها..
كانت تلك هي الفكرة التي أقنعت نفسها بها رغم علمها أنها لن تنفذها..
****
راقبت والدها لتتأكد من أنه نام ثم تحركت بهدوء لتخرج من الغرفة.. ما أن خرجت مسدت أنفها وعينيها بتعب وهي تفكر بالتخلي عن فكرة العمل على ما تحدثت به مع أكمل والذهاب للنوم..
:"تبدين مرهقة.."
التفتت لوالدتها التي كانت تجلس بالصالة الرئيسية ثم أكملت: "تعالي واجلسي معي.."
تحركت بالفعل وجلست على الأريكة بجوارها فسألتها: "كيف كان يومك؟!.."
مطت شفتاها بعدها وهي تكمل بسخرية: "عدا عن زيارة العم دهب بالطبع.."
- العم دهب هو شخصية كرتونية تابعة لشركة ديزني وظهرت تحديداً في قصص الفأر ميكي وهي شخصية معروفة بالثراء والبخل والقسوة والحرص على جمع المال -
ضحكت لتشبيهها وهي تفكر بخالها بنظارته المعظمة وساعته ذات السلسلة المعلقة بجيب سترته وكل ما جال ببالها أنها لن تجد له تشبيهاً أفضل.. كان حقاً يشبه العم دهب حتى أنها تذكرت زوجته التي تطلقت منه ورحلت بابنها وابنتها من البلد بأسره وهي تلعنه وتلعن الساعة التي رأته بها بسبب بخله الشديد عليهم..
عادت تنظر لوالدتها وهي تتذكر يومها المليء بالأحداث لكن عقلها تركز على الحدث الأهم بيومها..
&&&
جلسا معاً بالمقهى القريب من شركتها.. وما أن استقرا بمقعدهما سألها: "هل ضايقك ذلك الأحمق؟"
: "دعك منه"
ردت بها وهي تضع الهاتف جانباً بعد أن فعلت الوضع الصامت ثم اتكأت على المنضدة وأكملت بثقة: "يمكنني الدفاع عن نفسي والهجوم إن أردت.. أنا لها كلياً.."
:"اعلم"
رد بها بصدق وبصعوبة تمكنت من اهمال تلك الطريقة التي تحدث بها وألبستها ثوب الثقة وهي تردد لنفسها أن أكمل يعلم كم هي قوية وحمائية ويستحيل أن تستسلم..
هزت رأسها وركزت أفكارها بنقطة معينة ثم سألته: "انس أمري الآن وأخبرني لم أنت مرتبك؟.."
هز كتفاه وكاد ينفي ادعائها.. لكنها رفعت إصبعها وهي تكمل: "لا تحاول التهرب.."
تنهد وهو يطرق ثم قال: "لا أشعر أني ملائم لإدارة الشركة و..."
-:"كاذب"
نظر لها فاتكئت بوجهها على كفها وهي تكمل: "لقد كنت تعمل مع والدك لسنوات بتلك الشركة أكمل.. قد أتقبلها لو كان عمك منحك إدارة شركة الشحن التي لم تكن تدخلها سوى لسرقة مفاتيح السيارات القديمة"
فرك ذقنه وهو يبتسم قبل أن يقول: "ألازلت تذكرين هذا؟!.."
ابتسمت هي الأخرى وقد لاحت الكثير من الذكريات ببالها بينما ترد: "بالطبع أذكر"
نظرت لعينيه بعدها وهي تكمل: "أنت لها كلياً مثلي.. صحيح أنك غبت عن العمل لفترة.. لكن هذا لا ينفي أنك قادر على إدارتها"
:"ما كان علي أن أغيب أليس كذلك؟"
سألها فارتبكت.. أطرقت قليلاً ثم وضعت أصابعها على فمها وهي ترد: "أجل لقد كان خطأ.."
عادت تنظر له بينما تكمل ببساطة: "لكن من منا لا يخطئ .. حادثة والديك كانت شيئاً صعباً.. أن تفقدهما معاً دون سابق إنذار لهو أمر قاتل.. وأنت اخترت أن تبتعد عن العمل وعن رؤية أي أحد.. كان هذا خاطئاً لكنه خطأ يمكن تصحيحه.."
ابتسم لها ورد: "كنت أعلم أن هذا ما ستقولينه.."
شعرت بالسعادة مع وصول معنى تلك الجملة لنفسها.. لقد اقتنع بالمواجهة وعدم الهروب وقد ملأها هذا بالحماس فقالت بسخرية: "أجل لهذا فضلت لقائي حتى أصفعك بكلماتي.. وأؤجل لكماتي لنهاية الأسبوع بصالة النادي"
ضحك مع جملتها الأخيرة ثم التفت للنادل يشير له بالاقتراب.. طلب لهما بعض المعجنات وفنجانين من القهوة قبل أن ينظر لها ويسألها: "كيف حال عملك؟"
تنهدت وهي تتذكر اجتماع الصباح والتقارير التي سهرت الليل تتطلع لها بفرحة لم تتمكن من إخفائها وهي ترد: "الحمد لله رائع.. أنت تعلم أزمة السياحة هذه الفترة.. لكن عن طريق رحلات اليخوت بالسواحل والغوص.. ورحلات البواخر النيلية في الجنوب تمكنت من تعويض الخسائر"
سرحت عيناه بضع ثوانٍ ثم قال: "أنا فكرت بشيء.."
نظر لها وهو يكمل: "تعلمين لدي صفقة هامة خلال الفترة القادمة.. فكرت بأن آخذ فوج الشركة الأجنبية برحلة للجنوب وأن نتم الصفقة هناك.. ما رأيك أن تنظم شركتك الرحلة.."
اتسعت عيناها بمفاجئة ثم ابتسمت وهي ترد بحماس: "أرأيت هذا ما أتحدث عنه"
&&&
:"إذاً ستعملان معاً؟.."
التفتت لوالدتها وهي ترد: "إنها مجرد رحلة سأنظمها للفوج القادم لأجل الصفقة.."
ابتسمت والدتها وعلمت أنها ستثني عليها لكنها تراجعت وسألتها باستغراب: "إذاً لم أنتِ منزعجة؟.."
ما أن سمعت سؤال والدتها تذكرت باقي حديثه وتنهدت بينما ترد: "لقد أخبرني أنه سيجلس مع عمه الليلة ليتوصلا لحل بشأن شركة الشحن.."
أومأت والدتها بتفهم ثم ضحكت بسخرية وهي تقول: "أنتِ وأكمل تملكان الكثير من القسائم المشتركة.. هو يملك عماً طماعاً كما تملكين أنتِ خالاً جشعاً.."
نظرت ساندي لعيني والدتها ولم تستطع اخفاء توترها فتنهدت وردت: "لا تقارني العم دهب بالشيطان نفسه أماه!.."
لاحت صورة الرجل بابتسامته السخيفة ووجهه المجعد وعيونه التي تمتليء بالخبث والخداع أمامه عينيها ثم همست دون أن تشعر: "رباه كم أكره هذا الرجل!.."
شعرت بتربيتة حانية على رأسه فالتفتت لوالدتها التي ابتسمت تطمئنها بينما تقول: "صديقك قادر على مواجهته لا تقلقي.."
ابتسمت لها بالمقابل فسحبتها لحضنها وهي تكمل: "كما أنه ليس وحيداً فهو يملكك ويملك هيثم وإسلام وريم.. بالحق كيف حال هاتان الفتاتان لم توقفتا عن الزيارة؟!.."
تنهدت بتعب وهي تتذكر آخر لقاء بينهم بينما ترد: "متخاصمتان وحالهما لا يسر أحد.."
****
راقبتها شكرية وهي تقلب الطعام بملل وعيناها سارحتان بالفراغ دون تناول أي شيء فتركتها لفترة على أمل أن تفيق في النهاية وحدها لكن كما المتوقع مر الوقت وبقيت على حالها لذا سألتها: "لم لا تأكلين؟!.."
التفتت تنظر لها ورأت ما تفكر به بوضوح لكنها أكملت تسألها: "ما الذي يشغل بالك؟.."
تنهدت وعادت تنظر لطبقها وهي ترد: "لا أعلم.. ربما بسبب ما حكاه لي فادي.. أتمنى أن تبتعد عنه تلك الفتاة فهي لن تسبب له سوى المتاعب.."
التفتت تنظر لها مجدداً وقد فهمت أنها لم تقتنع فأكملت: "أو ربما هو موضوع الحفلة ببساطة.. ربما لازلت متضايقة أني لم أحصل على المقعد.."
علمت أن هذا السبب أيضاً لم يقنعها فصمتت لفترة بينما تطرق وقد مرت الثواني عالمة أنها تعاني لتتفوه بما تريده وعندما قررت أن تتحدث هي حتى لا تحرجها أكثر نطقت وسألت: "هل أخبرت أمجد؟"
فكرت لثانية أن تزعجها وتسألها عما تعنيه لكن رنين صوت شقيقتها الراحلة ببالها وهي تقول بعصبية: "توقفي عن ازعاج الفتاة" هو ما منعها وجعلها ترد بهدوء: "لا.. لم أخبره"
سمعت تنهيدة الراحة الخافتة التي انطلقت من صدرها قبل أن تلتفت لها فأكملت دون تعبير: "لقد أخبرتني أنكِ تفكرين بالموافقة.. لم أسمعك تنطقين أنك موافقة وإلى حين سماعها لن أخبره أي شيء.."
ابتسمت لها وقالت: "شكراً خالتي.."
لم ترد وتجاهلتها بينما تلتفت وتنظر للعلبة التي أحضرتها معها من الخارج ثم عادت لتناول الطعام وهي تقول: "ولا تقلقي بشأن فادي سيتصرف بشكلٍ صحيح مع تلك الفتاة.."
أومأت لها وبدأت بتناول الطعام بينما بقيت هي تتطلع من حينٍ لآخر نحو العلبة وهي تشعر بالأسى والحزن على صاحب الهدية.. تخيلت أنه يعاني الآن الأمرين.. وليت تلك المعاناة بفائدة!..
*****
احتسى هيثم قليلاً من القهوة ثم نظر لها وارتاح بجلسته وهو يبتسم قائلاً: "كيف حالك عزيزتي؟"
وكالعادة كلما كانت تراه تلعن حظها..
تلعنه وتصرخ نفسها ألماً..
كلما كانت تراه كانت تحسد الفتاة التي ستحصل عليه في النهاية..
هيثم لم يكن مثالياً.. لكن عيوبه كان من الممكن التعايش معها..
عدا عن كونه تخلى منذ سنوات عن علاقاته المتعددة بالجنس الآخر.. الكثيرين يظنون أن السبب هو حادثة والدته.. لكن هي كانت واثقة أن هناك سبب أقوى.. سبب يرتبط بفتاة لا يعرفها أحد.. تلك الفتاة هي من غيرته..
توقفت عن التفكير بتلك الطريقة بصعوبة بعد سؤاله وابتسمت بينما ترد: "أنا بخير.."
اتسعت ابتسامته قبل أن يضع فنجان القهوة جانباً.. ثم اتكأ على ساقيه ليقترب منها أكثر وهو يقول: "أبي وأنا نود التأكد من أن لا شيء ينقصك راما.. ونريد التأكيد عليك بأننا سنساندك وندعمك دوماً"
والدة جدة هيثم كانت يونانية وقد ورثت جدته وحدها مواصفات شكلها.. ثم ورثت الخالة أليسار عن والدتها تلك المواصفات ثم ورثه هيثم.. كان هذا هو الرد عند سؤالها عن الاختلاف الشكلي بين هيثم وتامر..
تامر يشبه والده.. هيثم يشبه والدته...
تامر قاسي كوالده ومتعجرف كوالده...
هيثم طيب كوالدته.. متواضع كوالدته.. حنون كوالدته.. يملك رصانة والده وقدرته على التحكم بنفسه ومن حوله.. يمتلك اجتهاده وسعيه.. يمتلك أجمل ما بكل من والده ووالدته.. مع العيوب التي يمكن التصالح معها..
بينما تامر امتلك طموحاً مائعاً.. طموحا بلا رغبة سعي.. طموحاً ساماً ومؤذياً لمن حوله.. تامر عدو نفسه الأمارة بالسوء.. ولأنه يحب نفسه استبدل كونها السبب بما ألم به بكل شخص سولت له أنه سلبه حياته المرفهة السعيدة..
:"راما"
عادت للتركيز معه وهي تبتسم بارتباك محاولة الرد بأي شيء.. لكن سرعان ما عادت رأسها تدور بنفس الفلك..
ندم.. ندم.. ندم..
لِم لًم تستمع لهم؟.. لِم كان يجب أن تواجه ذاك المصير؟.. لِم الألم يتبعها؟.. لم فقدت والديها؟..
كل تلك الأفكار منعتها عن التركيز بأي شيء.. تاهت الكلمات كما تاهت هي منذ سنوات بين الأوهام والأحلام والحقيقة القاسية.. كل شيء قاسي وبارد عندما تصل لحقيقة أنك هُزِمت.. ولا تملك شيئاً لتفعله حيال تلك الهزيمة.. كل شيء بلا قيمة أو معنى مادمت مهزوماً.. العالم يكره الخاسرين ودوماً يحملهم الذنب حتى ولو كانوا هُزِموا غدراً.. هم خاسرين في النهاية..
أطرقت ما أن ترددت تلك الجملة وصوت بداخلها يسخر منها.. يخبرها أنها تضخم الأمور.. أنه مجرد زواج فاشل.. وأن تلك الكلمات يستحقها الأشخاص المجردين من الفرص على عكسها.. لكن كان هناك ذلك الصوت المنتحب المليء بالندم.. أنها تمتلك فرصاً لكن لا تمتلك أي طاقة لاقتناصها.. لقد سلبها تامر كل شيء.. طاقتها كلها كانت لأجله.. لأجل إنجاح علاقتهما لكن دون جدوى.. ومع معرفتها أن كل هذا كان بلا فائدة شعرت أنها تتحطم حرفياً..
كانت تغوص بتلك الأفكار السوداء حتى شعرت بلمسة خفيفة وحانية على كفها.. بددت كل تلك المشاعر القاسية فجأة.. ورفعت عينيها لتجد هيثم ينظر لها ويبتسم.. ينظر لها ويتحدث لكنها لم تكن تستمع.. كانت ترى صورته ومن حوله بكل الجوانب ترى نوراً ساطعاً بلون أبيض يعميها عن الرؤية.. ويصم عن أذنيها كل الأصوات.. كانت تشعر بالسلام والهدوء.. ولم تكن ترغب بمغادرة ذلك الشعور..
أغمضت عينيها لثوانٍ ثم فتحتهما مع فمها لتجيبه بأي كلمة علها توقظها من تلك الحالة.. لكنهما سمعا صوتاً يصدر من غرفة المكتب التي يجلس بها أكمل مع عمه..
***
:"لا أفهم ما الذي تعنيه؟!"
قالها أكمل وهو يحاول البقاء هادئاً مع هذا صوته خرج أعلى من المتوقع بينما يتحدث لعمه الذي كان يحتسي القهوة بهدوء ويتلذذ بمذاقها ثم قال: "مذاق هذه القهوة ساحر.."
ارتفع حاجباه وهو يطالعه بعدم تصديق.. ثم كز على أسنانه محاولاً أن يهدأ..
-:"كما أخبرتك يا حبيب عمك"
طالع عمه الذي كان ينظر له بهدوء وابتسامة أقل ما يقال عنها أنها ابتسامة سمجة بينما يكمل: "والدك تخلى عن نصيبه بشركة الشحن قبل أن يموت بفترة"
ضغط على شفتيه محاولاُ تمالك نفسه ثم قال: "لكني لم أسمع بهذا الأمر قبلاً.. لِم لم يخبرني والدي به؟"
مط عمه شفتيه قبل أن يرد ببرود: "لا أعلم.. لكن ربما هو فكر أنه سيسترد نصيبه سريعاً فقد كان هذا هو الاتفاق بيننا.. إن رد لي أموالي بنسبة معينة سأتخلى عن نصيبه وأعيده له.."
بعد أن أنهى جملته عاد لاحتساء القهوة بهدوء وسكينة كأنه لم يقل أي شيء بينما هو أخفض نظره يطالع الأرض..
كذب.. كان هذا كذباً.. وقد كان يعلم أنه كذب.. وأي شخص يعرف والده إن سمع ما قاله عمه سيقول أنه كذب..
والده كان الأكبر وقد عمل طيلة حياته بشركة الشحن تلك مع والده الذي أسسها.. وقد أفنى حياته حرفياً في تطويرها وإعلاء اسمها في السوق كما أنهم لم يمروا بأي ضائقة مالية تجعل والده يندفع لبيع نصيبه من الشركة.. كل الأحداث التي مروا بها والأزمات التي تبعت تردي الأوضاع الاقتصادية تمكن والده من تخطيها ببراعة.. لقد كان دوماً حريصاً على عدم التخلي عن تلك الشركة.. كان مستعداً لبيع بيوتهم وملابسه إن أمكن حتى تبقى الشركة التي أودعها جده أمانة لديه..
لذا مهما أقسم عمه ومهما كان ما سيقدمه قوياً ليثبت ادعائه لن يصدق أن والده تخلى عن تلك الشركة..
:"الأمر نفسه بالنسبة لك يا أكمل يا بني"
عاد للتركيز معه بينما يكمل: "إن أردت استرداد نصيب والدك بالشركة.. عليك فقط رد المبلغ الذي دفعته بفوائده وبعدها سأعيده لك"
:"لا أظن هذا"
رد بها أكمل ثم اقترب من المكتب الذي كان يجلس عمه أمامه وتحديداً المقعد المقابل له وانحنى فوقه وهو يكمل: "تلك القصة لا تقنعني.. وأنا سأبحث خلفها إلى أن أصل لحقيقة الأمر"
ابتسم عمه بذات الطريقة السمجة قبل أن يحتسي المتبقي من القهوة وينهض وهو يرد: "حظا موفقا بالوصول للحقيقة إذاً.. لكن اعلم أنه كلما طال الوقت ارتفعت الأرباح التي سأطلبها على المبلغ.."
ثم تحرك بعدها ليغادر الغرفة وقد فكر عندها بحمل المقعد وإلقائه على رأسه لكن ما أن فُتِحَ الباب وجد راما تقف أمامه فامتنع عن أفكاره المتهورة ونظر لهيثم الواقف خلفها والانزعاج بادٍ بوضوح على وجهه
تحرك عمه بعد وربت على كتفي راما وهو يقول: "إن احتجت أي شيء أخبريني يا عزيزتي"
ثم طبع قبلة على وجنتها وتحرك مبتعداً.. لكنه توقف بجوار هيثم الذي قرأ حركة شفاهه بوضوح: "يا لطيبة قلبك.."
التفت له فوجده ينظر نحوه بابتسامة ساخرة لم يكترث لها ورد بهدوء: "سلامي لوالدك السيد ياسين"
ثم تحرك ليغادر بهدوء تاركاً إياه يتميز غيظاً..
:"أكمل هل ما قاله صحيح؟.."
التفت ينظر لراما التي اقتربت منه بوجهها الشاحب ثم تنهد وابتسم يرد: "راما هلا أحضرتِ لي بعض الماء؟.."
فهمت المقصد من جملته وأومأت ثم تحركت لتغادر وتتركه وحيداً يطالع الأرض محاولاً تركيز أفكاره على ما سيفعله تالياً..
سمع صوت الباب ينغلق فتنفس بعمق وقال: "هيا قلها.."
ثم رفع عيناه لهيثم وهو يكمل: "قل أنك أخبرتني بهذا وحذرتني منذ وفاة والداي من تلاعبه.."
نظر له هيثم قليلاً وقد رأى اللوم بعينيه لثانية قبل أن يتنهد ويرد: "أنا أكره تلك الأحاديث أكمل وأنت أدرى الناس بهذا.."
اتكأ على المكتب وقد طارت كل الأفكار من عقله ثم التفت ينظر لصورة والديه وهو يهمس: "ماذا سأفعل الآن؟!.."
:"ستقاتل لأجل حقك.."
التفت لهيثم الذي اقترب منه أكثر.. نظر له بغضب ثم أشار له بإصبعه وهو يكمل بخفوت: "لن تكون رجلاً إن لم تقاتل لاسترداد ما سُلِب منك.."
ومع تلك الكلمات وتذكره لحديثه مع ساندي بالصباح والذي كان بنفس المعنى وجد نفسه يوميء بتفكير وهو يتوعد عمه..
****
ساعة متأخرة من الليل
وأخيراً أنهى العمل.. كان يردد هذا طيلة الطريق للبيت رغم كونه ممتن اليوم للعمل الكثير لأنه أخره قدر الإمكان عن العودة للبيت.. لكن في النهاية كان عليه العودة فهو بحاجة ماسة للنوم..
صعد الدرج وهو ينظر للأعلى بخوف من أن يجدها تنتظره مجدداً.. فقد قرر الاستماع لتحذيرات ريم لأنها محقة.. وجوده مع تلك الفتاة لن يجلب له سوى المتاعب.. وصل لباب منزله وهو يحمد الله أنها لم تحضر وأمل أن تكون قد ملت من رفضه لها وألا يراها أبداً مجدداً..
:"فادي"
التفت ينظر خلفه وانعقد حاجبيه باستغراب وهو يرى الصغير المقترب منه ثم رد: "ماذا تفعل هنا يا إيلام"
تنهد الصغير وهو يقول: "كنت أنتظرك منذ الصباح.. أمي أرسلتني لأبقى معك لعدة أيام"
انعقد حاجباه باستغراب ثم سأله: "منذ متى وأنت تنتظرني؟"
التفت الفتى ينظر للنافذة المطلة على الشارع ثم رد: "أنا هنا منذ كانت الشمس موجودة وبمنتصف السماء"
كان يعني وقت الظهيرة أي قبل ما يقارب الاثني عشر ساعة..
قبض كفه بغضب ثم التفت للدرج الذي كان يجلس عليه ليجد حقيبة صغيرة توقع أنها لحاجياته.. فتحرك يحملها ثم التفت وأمسك كفه وهو يقول برفق: "لقد انتظرتني كثيراً يا بطل"
-:"أعلم أن صاحب العمل الوغد يؤخرك لهذا كنت ألعب على هاتفي.. لكن شحنه نفذ قبل بعض الوقت فبقيت جالساً بانتظارك"
كانوا قد دخلوا وفادي ينظر له باستغراب قبل أن يقول: "هذا كلام جميل.. لكن من أين عرفت أن صاحب العمل وغد؟"
أشار نحوه وهو يرد: "منك.. أنت أخبرتني بهذا من قبل"
مط شفتيه وهو يومئ بتفهم ثم أشار للحمام وهو يقول: "اذهب واغتسل الآن"
أسرع الفتى نحو الحمام بالطبع وما أن فعل ظهر الغضب على ملامحه وتحرك لغرفته.. وضع الحقيبة على الفراش بهدوء ثم اتكأ على الخزانة مخرجاً هاتفه واتصل برقم والدته فوراً.. مرت دقائق طويلة يتصل بها ويعيد الاتصال إلى أن ردت وهي تقول بملل: "ما الأمر يا فادي؟. أنا وسط الحفل..."
:"حفل!"
هتف بها قبل أن يكمل بحدة: "هل تركت ابنك الصغير ينتظرني نصف يوم ساعات على الدرج.. دون طعام أو شراب لأنك بحفل؟!"
سمع التنهيدة المرتبكة التي صدرت عنها قبل أن ترد بصوت مضطرب: "إنه سفر هام وكان علي الذهاب.. وأنت تعلم لا وقت عندي لاهتم به خلال العمل و..."
-:"أي عمل.. هل تظنيني أبلهاً؟!"
صرخ بها دون حساب وهو لا يصدق أن الفتى ذو الثمانية أعوام جلس طيلة تلك الفترة لوحده وتخيل لو كان أحد الأشخاص المخمورين المغيبين قد رآه يجلس وحيداً ما كان سيفعله به..
-:"لا تصرخ علي يا ولد.. هل نسيت أني والدتك؟!"
كان على وشك الانفجار حرفيا لاعناً إياها ولاعناً كل تصرفاتها معها ولهذا أغلق الخط وهو يوبخ نفسه على الرصيد الذي أهدره للا شيء.. فتلك هي عادات والدته التي لن تتغير!..
:"فادي"
التفت ينظر لإيلام الذي وقف أمام باب الغرفة وسأله: "هل أنت غاضب من وجودي؟"
اتسعت عيناه ثم اقترب منه وانحنى بجواره بينما يرد: "ماذا تقول يا بطل.. أنا لا أتضايق من وجودك أبداً.. أنت تعلم كم أحبك"
ابتسم الصغير فتنهد براحة وقرر أن يشرح له - حتى وإن شك بأن يستوعب حديثه - ليتأكد أن ينفي كونه متضايقاً من وجوده: "أنا غاضب من والدتك.. فقد كان عليها إخباري بوجودك حتى لا أتركك تنتظرني كل هذا الوقت"
فكر الصغير قليلاً ثم قال بتردد: "لقد أخبرتني أن اتصل بك.. لكني فضلت ألا أفعل حتى لا أسبب لك المتاعب"
ابتسم وهو يحمد الله أن الفتى لم يكتسب منها ومن زوجها أي شيء.. فهو ورغم صغر سنه إلا أنه متفهم وهاديء ولا يسبب أي متاعب على عكس المتوقع.. ربت على كتفه ورد: "أنت لا تسبب لي أي متاعب.. كنت سآخذك للجلوس معي حتى ينتهي العمل"
أومأ له فتنهد بينما يستقيم قائلاً: "أنت ادخل الغرفة وبدل ثيابك بينما أعد لنا بعض الطعام.."
ثم تحرك بعدها ناحية المطبخ وهو يفكر بما سيعده للعشاء.. قضى بعض الوقت ولم يجد سوى شطائر الجبن والمربى هي المتاحة.. لكن قلبه آلمه وهو يتخيل أن الفتى لم يأكل ربما أي شيء منذ الصباح لهذا قرر النزول وشراء الطعام لهما.. تحرك ناحية الغرفة ليعلمه بنزوله لكنه وجده قد نام بثيابه.. اقترب ينظر له وهو يفكر أنه يشبهه كثيراً وتذكر جملة والده..
:"أحياناً أحمد الله أني لن أترك لك طفلاً أصغر تكون مسئولاً عنه وأحياناً أخرى أشعر بالأسى لأني سأتركك وحيداً.."
عندها ابتسم وحرك جسده ليجعل وضع نومه مريحاً ثم رفع الغطاء على جسده وجلس بجواره وهو يهمس: "أمنية والدي المستحيلة تحققت.."
ربت على جسده الصغير ثم تنهد بينما يكمل: "أخٌ صغير لا أحمل مسئوليته.. كان ذلك الرجل عجيباً بأفكاره.."
بقي يطالعه وهو يشعر بالأسى عليه.. لم يكن الشبه بالشكل وحسب.. التفت ينظر لباب الشقة وهو يتذكر كم المرات التي عاد بها للبيت وهو صغير ليجده فارغاً ويجلس على الدرج بانتظار عودة والده.. فوالدته كانت تكره البقاء بالبيت وتكره الالتزام والارتباط وتكره كل شيء يمنع عنها الاستمتاع بحياتها.. ودوماً كان يتسائل عن السبب الذي تزوجت لأجله مادامت تكره الالتزام ثم كبر وفهم أسباب زواجها المتكرر..
وليته لم يفهم!..
****
في اليوم التالي
فتح عيناه وهو يشعر بألمٍ بعنقه وظهره.. أخذ بعض الوقت ليفهم أنه نام بسيارته ليلة أمس..
تلفت حوله بعدم تصديق ثم تذكر خروجه من قصر أكمل وتحركه بسيارته ليقف أمام البحر قليلاً.. كان يأمل أن يتحدث قليلاً مع إسلام قبل عودته للبيت ليبدأ بتلقي الأسئلة من والدته والأوامر من والده والازعاج من شقيقه..
في النهاية خذلته إسلام فهي لم ترد على رسائله وهو بعد نوبة غضب أسند رأسه على ظهر المقعد لينال قسطاً من الراحة قبل أن يعود للبيت وانتهى به المطاف نائماً دون أن يعي..
التفت للمقعد المجاور ليلتقط الهاتف الذي كان قد ألقاه وهو يسب بعنف البارحة مع عدم ردها عليه..
رسائل من والدته.. الكثير منها.. ورسائل من نور مساعدته ونماذج بعض المشاريع التي سيتم تسليمها هذا الشهر وبعض الإشعارات من التطبيقات المختلفة.. كل هذا دون أي رسالة منها وعندها ألقى الهاتف وهو يسب مجدداً ثم أشعل المحرك فكر قليلاً ثم قرر أنه سيذهب لشقته الخاصة فإن عاد للبيت بتلك الحالة سينفجر مع أي سؤال.. فالأفضل أن يذهب للعمل أولاً ثم يعود للبيت بالمساء..
****
كانت تقف أمام البحر تطالع السماء الملبدة بالغيوم وتشعر بسعادة بالغة.. لقد عاد فصلها المفضل..
سمعت صوت مواء قطتها وشعرت بها تلامس ساقها لكنها لم تكترث.. كانت مستمتعة وحسب بالمنظر.. لكن أتى صوت من خلفها جمدها.. صوت يناديها بهدوئه.. وقد ثارت مع همسته الباردة القشعريرة بجسدها..
صوته كان دوماً مليئاً بالصقيع كحال كل شيء به.. بارد.. بل قارس البرودة.. قاسي حد الألم.
التفتت تنظر خلفها لتجد بيتاً واسعاً وكبيراً لا يمكنها تبين شكله.. فقد كان غارقاً بالظلال السوداء.. وأمامه بوابة ضخمة شاهقة فتحت فجأة.. وسمعت صوته يناديها مجدداً تزامناً مع صوت خطوات تقترب منها.. ثم ظهرت عيناه الداكنتان من الظلال.. وسمعت همسه قريباً جداً منها حتى شعرت بحرارة أنفاسه تلفحها: "أخبرتك.. سأبني بيت أحلامك يا ساذجة.."
استيقظت عندها مفزوعة من نومها.. وفوراً اقتربت منها رمرم تتمسح بها بجسدها لتمنحها بعض الدفء والطمأنينة.. بقيت لثوانٍ تحاول التقاط أنفاسها قبل أن تهمس: "إنه حلم.. مجرد حلم!"
عادت تستلقي بالفراش ثم التفتت تنظر عبر نافذتها وهي تكمل: "لقد رحل ولن يعود رمرم.. علي أن أتقبل الأمر.."
أغمضت عينيها وبقيت على هذا الحال حتى هدأت أنفاسها ثم سمعت صوت وصول رسالة من هاتفها فتحركت بجسدها مستقيمة بالفراش بينما تخرج الهاتف من تحت وسادتها.. فتحته لتجد صورة مرسلة من فادي وما أن فتحتها ابتسمت.. كانت صورة لايلام أخوه الصغير وقد التقطها له دون أن يشعر بينما يتناول الطعام..
****
:"صباح الخير لكما.. لقد اشتقت لايلام كثيراً لنلتقي إن كنت شاغراً وأحضره معك.."
ابتسم وهو يقرأ الرسالة بصمت ثم رفع عيناه لايلام وحاول السيطرة على حنقه وحزنه.. فالفتى ما أن رأى الطعام أسرع بالتهامه دليلٌ على جوعه الشديد..
هز رأسه لينفض تلك الأفكار وقال: "ريم ترسل تحية الصباح لك.."
اتسعت ابتسامة الفتى وانتظر ليبتلع ما بفمه ثم رد: "هل يمكن أن نراها اليوم؟.."
فكر فادي بما لديه من أعمالٍ اليوم ثم تنهد قائلاً: "سأفكر في الأمر ما أن أصل للعمل فلدي غرفتين لأعمل عليهما اليوم.."
نظر له الفتى بارتباك قبل أن يرد: "يمكنني انتظارك هنا إلى أن تعود لن أفتح لأحد ولن أغادر المنزل أعدك.."
كان يفكر بهذا بالفعل فآخر ما سيرغبه طفلٌ مثله أن يجلس بورشة للنجارة وسط شارعٍ مليء بالورش.. رأسه الصغير ستتألم من كثرة الخبط وعلو أصوات العمال.. لكن الأسوأ أن يتركه هنا وحيداً.. صحيح أنه يثق به لكنه يبقى طفلاً ويخشى أن يعبث بأي شيء دون أن يعي ويتسبب بالأذية لنفسه ولهذا كان متخذاً قراره..
ابتسم له وهو يقول: "لا بل ستأتي معي فأنت ستساعدني اليوم بالعمل لننهيه سريعاً ونلتقي بريم.."
فكر قليلاً ثم أكمل بخفوت مشوق: "كما أني سآخذك لمكانٍ رائع.."
اتسعت عينا الفتى بحماس وهو يرد: "حقاً.. أين؟!.."
:"ستعرف بوقتها.. والآن أكمل طعامك.."
شرع باتمام تناول طعامه بشراهة بينما عاد هو ينظر للهاتف.. كان هناك عدة رسائل من ريم تسأله عن مكان لقائهما ورد عليها ثم خرج من المحادثة ينظر للمكالمات الفائتة وصندوق الرسائل وكما المتوقع لم يجد أي شيء من والدته.. لم تسأل عن ابنها الصغير كما لم تكن تسأل عنه منذ وُلِد إلا بما يخدم مصلحتها.. وحالياً لا هو ولا ايلام يملكان أي شيء لتسأل عنهما.. فقد نالت منه ارث والده والصغير لا يملك ارثاً لتستولي عليه..
لذا لم قد تسأل السيدة عاشقة الملذات والحفلات؟!..
****
:"أمي هلا استمعتِ لي رجاءاً؟!.."
تأففت والدتها بضيق لكنها لم تلتفت لها.. بقيت تطالع محتوى الخزانة لتبحث عما سترتديه ولكن هذا لم يردعها فتحركت لتقف أمامها وهي تكمل: "أمي.."
:"ماذا تريدين يا عليا؟.."
سألتها بعصبية حاولت أن تتجاهلها وهي ترد: "أريدك أن تبعدي عني أنا ودارين أذى ابنتك.."
عادت للتأفف وقبل أن تنظر مجدداً للخزانة تحركت لتقف أمامها مكملة: "أنتِ تعلمين أني لا ظاقة لي بمواجهتها وهي تستقوي علي.."
:"ماذا أفعل لكما برأيك هااه؟!.."
قالتها ثم تجاوزتها تتطلع للخزانة وهي تكمل: "لا وقت لدي لشجارات الأطفال تلك.. يكفي أنكما تتركان كل العمل على عاتقي.."
بقيت تطالع الفراغ لفترة قبل أن تلتفت لها وهي ترد: "تعلمين أني لا أمانع العمل معكِ.. لكن من سيهتم بأبي ودارين إن بقيت خارج البيت طيلة النهار أمي.."
:"لا أهتم كان عليكما الاتفاق بهذا الشأن واحدة تعينني والأخرى تهتم بوالدها.."
تنهدت ورفعت كفيها وخبطت بهما على ساقيها وهي تستنتج أنها لن تعينها بهذا الشيء ومع ذاك الهاجس تحركت تغادر الغرفة واتجهت للمطبخ لتبدأ بإعداد الفطور.. كانت تخبط الأطباق على الطاولة من فرط الغضب وهي تحاول التفكير بحلٍ لتلك المعضلة ولم يوقظها سوى شعورها بتربيتة على ظهرها التفتت على إثرها لتجد دارين تبتسم لها ثم فجأة احتضنتها وهي تهمس: "أنا معكِ يا عليا ولن أترككِ.."
وعندها ابتسمت واحتضنتها هي الأخرى غافلة عن فطيمة التي كانت تستمع لكل ما حدث وتتوعدها بصمت..
****
:"أستاذة ريم"
التفتت لندى طالبتها المفضلة التي ابتسمت بخجل وهي تسأل: "أي مقطوعة سنعزف اليوم؟"
ابتسمت لها ونظرت للصف من خلفها الذين بدوا كالعادة غير مهتمين رغم أنهم أفضل العازفين بالمدرسة.. ومن المفترض أن هذه حصة تطوعية للاستعداد لإحدى المسابقات.. لكن كالعادة الطلاب يبقون طلاباً.. اتسعت ابتسامتها قبل أن تصفق بالهواء قائلة: "ليجلس كل واحدٍ أمام آلته"
امتثلوا لها وتحركت هي بين مقاعدهم وهي تكمل: "اليوم نبدأ تدريبنا على المعزوفة التي سنؤديها في المسابقة"
-:"ما اسمها أستاذة ريم؟.."
سمعت صوت السؤال من أحد طلابها ثم جلست أمام البيانو وعيناها غامتا بذكرى بعيدة قبل أن ترد: "الأميرة الهاوية من السماء"
بدأت بالعزف بعدها دون النظر للنوتة التي بحثت عنها طويلاً حتى وجدتها.. كانت تحفظ اللحن منذ المرة الأولى التي سمعته بها...
&&&&
:"هل أعجبك الفيلم"
التفتت له بينما تهمس: "إنه مبهر"
عادت تنظر لشاشة الحاسب بينما تضم الغطاء لنفسها وهي تكمل: "هل سمعت الموسيقى.. لقد شعرتها تلمس قلبي.. يا إلهي لم أتخيل أن أحب الكرتون هكذا"
-:"هذا ليس كرتون.. إنه فيلم أنمي"
التفتت له فارتاح بظهره بينما يكمل: "لكني سعيد أنه أعجبك.. ربما تغيرين رأيك عنه ذات يوم وتحبيه"
:"ريم.. مؤمن.. تعاليا لتناول العشاء"
سمعا صوت نداء والدتها وتحركا فوراً بينما يردان بنفس اللحظة: "قادمان"
&&&&
رفعت عينيها تنظر عبر النافذة وصوت والدتها لازال صداه يعلو برأسها.. لقد كانا في الثانية عشر وقتها.. ومنذ ذاك الحين أصبح هذا فيلمهما المفضل..
تحرك شخص ما أمام إحدى النوافذ جعلها تلتفت.. لكن سرعان ما عادت للحن مجدداً قبل أن تنهيه وتلتفت لطلابها.. كانوا ينظرون لها بذهول قبل أن يبتسموا ويصفقوا جميعاً لها..
-:"أستاذة.."
التفتت لندى التي أشارت لوجهها مكملة: "هل تبكين؟"
تحسست وجنتها عندها وعلمت أن هناك دمعتين هطلتا بالفعل.. قبل أن تتجاهل الأمر وتنهض وهي تربت على رأسها بطمأنة ثم قالت: "جميعاً.. يبدو أن اللحن أعجبكم"
:"أجل"
كان هذا هتافاً جماعياً ضحكت على إثره قبل أن تكمل: "إذاً لنبدأ التدريب"
**
دخل المكتب دون استئذان ليصطدم بجوان الجالسة على المكتب تعبث بهاتفها.. والتي ما أن رأته نهضت وهي تبتسم بطريقة يحفظها جيداً..
لا يصدق أن والده قد ينخدع بفتاة كتلك.. ويصفها بالساذجة والطفولية.. فتاة كتلك قد توصف بالخبث وربما الطمع ولا شيء آخر.
تلفت حوله يتأكد من خلو المكتب ثم سألها: "أين الآنسة إسلام؟.."
-:"ذهبت لتجتمع بالمهندس ياسر.."
بصعوبة تمكن من إخفاء أي انفعال عن وجهه والتفت ليغادر.. لكنه توقف ما أن أكملت: "لقد طلبت منها الحضور معها وهي رفضت.."
التفت لها باستغراب فأكملت بطريقة جعلتها ببراعة تبدو مستاءة وحزينة لكنها لم تنطلي عليه: "لقد أخبرتني أن هذا ليس من اختصاصي..."
-:"وقد صدقت.."
لقد صدمها كان يرى هذا بوضوح من انشداهها البادي على ملامحها بينما يكمل: "الآنسة إسلام مهندسة تصاميم.. والسيد ياسر مهندس مدني.. وقد كلفتهما بمشروع ليتولياه.. والتخطيط لهذا المشروع لا يتطلب أي عمل مكتبي.. والذي يتصادف أنه السبب الوحيد لوجودك هنا"
تراجعت بتوتر وقد كان يعلم أنها تفكر الآن بوسيلة لتعتذر ولكنه لم يمهلها وأردف ببرود محذر: "المهندسة إسلام هي وسيلتك الوحيدة للبقاء بهذا المكان.. فإن كنت حريصة على البقاء هنا تأكدي بألا تغضبيها أو تزعجيها ونفذي ما تطلبه منك"
أومأت له دون رد وهي تحاول إخفاء إمارات الحنق مع شحوب ملامحها عنه.. لكنه لم يكترث وخرج من المكتب.. التفت ينظر ناحية الغرفة الخاصة باجتماع المهندسين ليتفقوا على ملامح المشاريع وتاق للتحرك نحوها والدخول لاعتراض الجلسة.. لكنه في النهاية تراجع وعاد لمكتبه وانغمس بالعمل لساعة بعدها.. قبل أن يسمع طرقاً عرف صاحبته
:"تفضل"
قالها فدخلت إسلام بعدها أغلقت الباب وتحركت نحوه.. وما أن وصلت إليه سألته: "هل من خطب.. لِم سألت عني؟"
فكر أنه لن يبدي اي انزعاج وسيكتفي بتذكر ما كان يريد إخبارها به وحسب.. لكنه قبل أن يفكر نظر لها بحدة قائلا: "من بين كل المهندسين بالشركة لم تجدي سوى ذاك الأحمق ياسر!"
مطت شفتيها وحركت رأسها وهي تهمس: "ها قد بدأنا"
ضرب المكتب بعصبية ثم تحرك ليقف أمامها.. وقبل أن يبدأ شجاراً أسرعت هي تقول: "أنت تعلم أن الأمر لا يتعلق بكونه من أفضل المهندسين المدنيين في الشركة.. بل هو كذلك الشخص الوحيد الذي يعمل معي دون إبداء ضغينة.. كما أننا متفاهمان.."
تخشب فكه من فرط الضغط عليه وهو يحاول ترجيح عقله.. وتذكير نفسه بنبرتها العملية التي تتحدث بها.. مضيفاً عليها معرفته التامة بكره زملائها لها لأنها مميزة بتصاميم مبانيها.. ومضيفاً عليها علمه بأنها لا تكن لياسر ولا لأي شخص غيره أي مشاعر..
عندما كانا بالثانوية والجامعة ومع ارتباطهما.. عبث الشيطان برأسه لمرات عديدة ليجعله يراها فتاة تبحث عن المرح وحسب رغم علمه أنها ليست كذلك.. ودوماً كان يطالعها من بعيد وهي تتعامل مع زملائها الشبان بجدية.. وتذكر تلك المرة التي تفاجأ بها أن أحد زملائها يحاول التقرب منها.. وهي دمرت كل أحلامه بصفعات كلماتها الباردة الحادة.. ومع كل موقف كان يتأكد من نظرته لها...
إسلام مجرد فتاة بل طفلة تائهة تبحث عن الاهتمام والحب والحنان.. تتمنى أن يقتلعها شخص من شيء ما أو مكان ما ويزرع بقلبها السعادة ويمحو عنها الهم.. هي متعطشة للأمان وحسب.. وقد كان يحاول بشتى الوسائل إثبات أنه سيمنحها كل هذا لو واتته الفرصة.. لكنها كانت ترفضه دون سبب.. تتقبل عاطفته لكن لا تتقبل عروضه بالمساعدة وللآن يتساءل عن السبب رغم علمه أنه لن يعجبه..
عاد يطالع عيناها بلون العسل الأبيض الصافي وهو يتنهد قائلا: أنا أعلم هذا"
هدأ قليلا ثم همس: "أعلم هذا"
نظرت له قليلا ثم سألته: "لم أتيت لمكتبي إذاً؟"
تذكر عندها غضبه منها بسبب عدم ردها.. ثم تذكر جوان.. وأحاديث جوان.. ومزاج إسلام المتعكر منذ معرفتها بوجود دوان معها بالشركة.. وعندها تناسى تجاهلها واقترب منها أكثر بينما يقول: "إسلام تلك الفتاة هل هي تضايقك؟"
لم يصدر عنها أي حركة فأمسك بكتفها وهو يكمل: "أخبريني فقط وسأبعدها عنك"
-:"لقد أخبرتني بهذا البارحة فلِم تكرر الطلب؟"
سألته بهدوء ففكر بإخبارها أن تلك الغبية اشتكتها لوالده.. لكنه كان يعلم شيئاً وهو أن إسلام ليست غبية.. وبالتأكيد تعرف أن جوان تضمر لها شراً.. وبالتأكيد ستأخذ حذرها.. وإخباره لها عما فعلته تلك الفتاة ربما يربكها وحسب.. ولهذا فضل الصمت قبل أن يرد بهدوء: "أنا فقط أردت التأكيد علي الأمر فهي لا تعجبني"
ابتسمت بسخرية وقد غامت عيناها فجأة وهي تقول: "لكنك تعجبها كثيراً"
فكر قليلاً ثم اقترب منها وهو يهمس: "أنا أعجب الكثيرات.. لكن لا تعجبني إلا قطعة الكراميل التي تؤرقني وتعذبني"
ابتسمت واحمرت وجنتيها قبل أن تضع يدها أمام فمه لتمنعه من تقبيلها ثم قالت: "لا يمكننا العبث الآن.. لا تنسى اتفاقنا.."
غمز لها قبل أن يقبل وجنتها واقترب بعدها من أذنها وهو يهمس: "أين ستهربين مني؟!.."
:"في النهاية سأعرف كل شيء.."
كانت تلك تتمة جملته لكنه فضل الاحتفاظ بها لنفسه ثم ابتعد عنها وهو يكمل بتحذير: "إن تجاهلتِ رسائلي أو اتصالاتي مجدداً ستندمين.."
ارتبكت وتخبطت نظراتها ثم فتحت فمها لترد لكنه أردف: "لا تكذبي أنتِ لا تجيدين الكذب أساساً.."
تنهدت بعدها ثم اقتربت تضع كفيها على صدره وهي تزم شفتيها قائلة: "أنا آسفة.."
نظر لها قليلاً وفكر بتقبيل شفتيها اللطيفتان المزمومتان ثم تذكر منعها له منذ قليل وتذكر أن لديه عمل ولهذا وبصعوبة تراجع عن أفكاره وتراجع عن مجالها بينما يرد: "جيد.. والآن اذهبي وباشري عملك.."
تحركت بالفعل تتجاوزه لتغادر لكنه أوقفها بينما يكمل: "وتوقفي عن الاجتماع بذلك الأحمق وحدكما.."
التفت ينظر لها فوجدها تطالعه بصمت كأنها تفكر بعواقب معاندته التي قدرت بأنها ستكون وخيمة لأنها ببساطة أومأت وغادرت الغرفة تاركة إياه يبتسم بأثرها قبل أن يتنهد ويلتفت ليتابع عمله بمزاجٍ أفضل!..
****
كانت تغادر المدرسة بينما تحادث ساندي على الهاتف قائلة: "لقد أنهيت اليوم الدراسي للتو.. آسفة لم أتمكن من الرد فقد كان لدي يوم طويل"
-:"من يسمعك يظنك تفعلين شيئا هاما"
قالتها بطريقة مازحة لكن صراخ الأولاد أثناء الفسحة وشجارات الفتيات كانت لا تزال تتردد ببالها لهذا لم تتحمل وردت: "ساندي أقسم سأغلق الهاتف بوجهك"
ضحكات صدرت عنها قبل أن تقول: "حسنا يا ذات الدم الحامي.. ما رأيك أن نلتقي غداّ؟"
مطت شفتيها وهمست بتبرم: "هذا يتوقف على نوعية المكان الذي سنذهب إليه.. فأنا لا أملك الكثير من المال"
-:"مفلسة"
-:"باردة"
قالتاها لبعضهما بحنق قبل أن تنفجر كلاً منهما بالضحك ثم قالت ساندي: "حسنا ما رأيك أن آتي لبيتكم غداً.. لقد اشتقت للأستاذة على أي حال وبعدها نقرر أين سنذهب.."
ابتسمت بسعادة وردت: "هذا أفضل وما رأيك أن أعد غداءاً شهياً مع حلوى وفيلم.."
-:"اممم.. دعينا لا نستبق الأحداث.. اسمعي سآتي في الغد ونقرر.."
قالتها فأسرعت ترد: "حسناً لا بأس أراكِ غداً.."
أنهت الحديث معها بعدها وقررت إعادة الهاتف لحقيبتها الصغيرة.. لكن إحدى عملاتها المعدنية سقطت فانحنت تجلبها.. وعندها سقطت أخرى تدحرجت من خلفها.. فالتفتت تراها بينما تتحرك ثم تستقر أخيراً بجوار قدم أحدهم.. كانت تشعر بهذا.. لكنها كذبته كما تفعل دائماً كلما تملكها ذاك الشعور حتى لا تصاب بخيبة أمل.. فهي لا تجده أبداً واقفاً كما تتمنى..
:"لكن ليس تلك المرة.."
صدر هذا الصوت من داخلها.. صوت الأمل والتفاؤل الذي طالما سخر منه.. كان هذا الصوت وللسخرية هو ما يربطها به.. للأبد سيبقى هذا الصوت ما يربطها به..
ابتلعت لعابها وهي تنهض محدقة به.. غير مصدقة لكن ما كانت لتكذب قلبها..
إنه هو.. لقد عاد ابن الهلالي.. عزيز عينيها!..
لم يعد واهناً.. واختفت نظاراته الطبية.. لكنه كان هو..
:"لقد عزفتها بكفاءة"
استطاعت التنفس أخيراً ما أن سمعت صوته.. قبل أن يقترب هو منها ويقف أمامها قائلا: "تلك المقطوعة عزفتها بشكلٍ رائع"
لقد كان هناك فعلا..
بقيت تطالعه قبل أن تهمس: "أنت هنا حقاً مستر شفيق.."
ضحك بخفة قبل أن يمد يده بالعملة وهو يقول: "أنا هنا يا سبونج بوب.."
****

رسالة من فتاة مجنونة حيث تعيش القصص. اكتشف الآن