الفصل الثالث

1.8K 71 2
                                    

الفصل الثالث
ما أن هم عباس بطعن يزيد انتبه له أحد العمال، وصاح بفزع؛ لينبه يزيد قائلا بلهفة:
- أستاذ يزيد.. حاسب!
قفز يزيد ببراعة بعيدا عن المدعو عباس، واستدار إليه ليواجهه، ثم ركل يده التي كان يحمل بها السلاح، وأخذ يلكمه عدة لكمات؛ حتى سقط غارقا بدمائه، ثم تحدّث إليه -بغضب شديد وصوت هادر بنبرة تهكمية-:
- لما تحب تلعب يا شاطر.. ابقى العب مع حد قدّك!
نهض عباس متحاملا على نفسه، وجسده يئن من شدة الألم، وابتعد مسرعا وهو يركض خوفا من بطش يزيد؛ ولكنه توعده بأن ينتقم منه حين تحين له الفرصة مرة أخرى.
بعد قليل.. جاء أحد العمال بجديّة واهتمام، وهو يمسك بيده هاتفا محمولا ثم تحدث إلى يزيد قائلا:
- يا فندم انا لقيت التليفون دا مكان ما حضرتك كنت بتتخانق..
أخذ يزيد الهاتف، وخمّن أنه بالتأكيد هاتف رحمة؛ ابتسم نصف ابتسامة، وذهب مسرعا إلى منزلها؛ ليعيد لها الهاتف وقلبه يرقص فرحا لرؤيتها مرة أخرى، وكأن الأقدار دائما تود أن تعطيهم المزيد من الفرص.
أما رحمة.. فحين انتهت من التشاجر مع ذلك البغيض عباس؛ عادت إلى حيث توجد شقتها، دلفت على عجل إلى شقتها لتبدل ملابسها الممزقة بغيرها؛ أخذت تبحث بالخزانة عن شيء يصلح لأن ترتديه؛ وجدت فستانا -رغم أنه بهت لونه، ويبدو قديما-؛ لكنه أفضل شيء يصلح لأن ترتديه.
انتهت من ارتدائه، ثم هبطت الدرج مسرعة وهي تبتهل إلى الله داعية أن يغفر لها صاحب المحل الذي تعمل به تأخرها، وألا يخصم منها اليوم.
ركضت مسرعة وهي لا تزال تهبط الدرج، ثم ما كادت تخرج من باب المنزل إلا واصطدمت بيزيد الذي كان يهم بالدخول إلى المنزل، كانت تخرج مسرعة ما جعلها ترتد إلى الخلف، وتنظر إليه بغضب شديد، ثم هتفت به بعصبية وملامح عابسة:
- جرى إيه يا بني آدم انت؟! مش تفتّح ولا إيه؟! انت في إيه؟!
تفحّصها يزيد من رأسها حتى أخمص قدميها،
ثم لوى فمه باستهزاء، وتحدث إليها بهدوء شديد قائلا:
- انت اللي نازله بتجري مش شايفه قدامك.. عموما أنا كنت جاي عشان اديكي ده..
أمسك بكفّ يدها، ووضع به هاتفها، وتركها، وغادر بعد أن ألقى عليها نظرة وقد ارتمست على شفتيه ابتسامة ساحرة؛ لكنه استدار مرة أخرى، وهتف بها باستهزاء قائلا:
- ياريت تاخدي بالك من حاجتك، ولسانك دا لمّيه شويه بدل ما...!
رمقها بمكر، ثم غادر تاركا إياها تشتعل غضبا وقد أتسعت ابتسامته، وعاد ليكمل عمله بمراقبة العمال.
اما شقيقه إياد؛ أثناء ما كان إياد يقود سيارته عائدا من عمله متجها إلى القصر؛ كان يزفر بغضب من شدة الزحام الذي علق به منذ ما يقرب من النصف ساعة، وما أن بدأ الزحام ينفضّ قليلا حتى أسرع بسيارته؛ حتى يصل سريعا؛ ليتناول طعامه؛ فهو طوال اليوم لم يتناول أي طعام، وانهمك بعمله لدرجة أنه قد غفل عن تناول طعامه..
ما كاد ينطلق بسيارته بأقصى سرعة حتى فوجئ بفتاة تعبر الطريق، متجاهلة الإشارة الخضراء التي تعني أنه حان الوقت للسيارات بالسير؛ فضغط على الفرامل؛ ما جعل السيارة تصدر صوتا عاليا نظرا لاحتكاك إطاراتها بالأرض.
ترجّل من سيارته، وقد ازداد غضبه، وتحول وجهه للون الأحمر من شدة غضبه.
صفق باب السيارة بقوة ثم ذهب باتجاهها، وكأن كل شياطين الأرض تلاحقه.
مظهره الغاضب قد أثار الرجفة بقلبها لكنها تماسكت، ورسمت قناع اللامبالاة على وجهها، وحدثت نفسها قائلة بثبات ظاهري:
- انا لازم ابان جامده قدامه مش لازم اخليه يحس اني خايفه منه.
اقترب منها بطلته الفارعة، ووجهه البرونزي، وخصلات شعره الأسود الناعم الذي انزلقت خصلة منه على وجهه لتزيد من جاذبيته المهلكة.
تحدث إليها بصوت غاضب كصوت الرعد، وهو يتأملها بنظرات وقحة بطولها الذي لا يبلغ نصف طوله، وشعرها الأسود الذي تجمعه على هيئة ذيل حصان، وشفتيها التي في ذروة غضبه لم يستطع رفع عينيه عنها.
وقف يتأملها، ويتفحّصها، وقد ضيّق عينيه، وهو يتفحصها –فقد كانت ذات طول متوسط ذات بشرة قمحية اللون، وشعر أسود مجعد-.
هتف بها بصوت غاضب كالرعد، ونبراته تحمل تهديدا صريحا قائلا:
- انتِ إيه؟! غبيه؟! مش شايفه الإشارة لونها إيه؟! ولا انتِ عميه؟!
ثم أردف قائلا بنبرة تهكميّة:
- انتِ كان ممكن تموتي! انتِ واحده مستهتره ومندفعه.. اللي في راسك دا ايه؟!
وقفت أمامه تنظر إليه بغضب شديد، ثم هتفت به وهي تشير بيدها أمام وجهه قائلة:
- انت اللي بني آدم غريب.. مفكر انك عشان عندك عربيه دا يديك الحق تدوس على الناس عادي كده، انا بحذرك اهو! ألزم حدودك معايا!
رمقها إياد بنظرة تهكميه، ودفعها لتبتعد عن سيارته، ثم استقل سيارته، وقادها بسرعة كبيرة، وتركها تنظر في أثره بتيه وشرود..
***
استيقظت كعادتها بهمة ونشاط وخفة، ودلفت إلى المرحاض؛ أخذت حماما ينعشها، ويساعدها على قضاء يومها الدراسي بأعصاب هادئة؛ ولكن ما يعكر صفو حياتها ذلك الكائن اللزج، والذي اضطرت مجبرة على العيش معه؛ فكان أسوأ كوابيسها.
ارتدت فستانا يصل لبعد ركبتها بقليل ذا كم قصير، ويتمتع بألوان مبهجة للغاية؛ فكان مزيجا من الألوان: الأبيض والأحمر والأزرق، ورفعت شعرها؛ فجمعته، فتناثرت خصلاتها بجنون رافضة الانصياع لأي قيود مثل صاحبتها المشاكسة لدرجة الجنون، التقطت كتبها ودفاترها، وخرجت مسرعة، إلّا أن أوقفها أكثر صوت تكرهه بالحياة.. عندما هدر من خلفها بسخرية كعادة زين:
- هي الهانم مش ملاحظه ان الزفت الفستان دا مكشوف حبتين تلاته عشره كده!
تأفّفت بضجر قبل أن تلتفت، وهي تحتضن أغراضها بين يديها، ورفعت رأسها بهدوء ممزوج بغضب نيراني، وأردفت قائلة:
- مش شايفه! وشيء ميخصكش! واحسنلك متتدخّلش في لبسي وحياتي!
التفت لتغادر؛ ولكن قبضته السخيفة مثله تماما أوقفتها عندما أحكمت على معصمها الرقيق، وهمس بفحيح من بين أسنانه:
- لا.. اتكلم واتحكم! مش الهانم عايشه معانا وتربية ابويا؟! يعني في وشنا.. ولا عاوزه الناس تقول معرفوش يربوها؟!
نفضت معصمها من بين قبضته بعد أن لمعت عيناها بالدموع، واختنقت نبراتها؛ ولكنه لم يهتم لدموعها، واختناق نبرتها بحلقها:
- متخفش! محدش هيقدر يتكلم عليكم.. عمو رباني احسن منك انت شخصيا، وعرفني الأصول احسن منك بردو!
تركته، وغادرت وهي تلعن حظها العاثر الذي أوقعها بمملكة ذلك المختل عقليا -كما أطلقت عليه-؛ فوقف مشدوها ينظر بإثرها قبل أن يفيق بعد لحظات من صدمته؛ فكوّر قبضة يده بغضب، وركض وراءها؛ حتى التقط معصمها للمرة الثانية، وثناه خلف ظهرها؛ فارتطمت بصدره القوي ناظرا داخل عينيها بقوة وغضب؛ وهمس من بين أسنانه بغضب:
- لسانك لو ملميتيهوش هقطعهولك.. فاهمه ولا لأ؟! احسنلك تلاشيني يا نغم.. فاااهمه ولا افهمك بطريقتي؟!
ثم أجبرها؛ لتذهب لغرفتها، وتبدل ذلك الفستان غير المحتشم لآخر غيره أكثر احتشاما، وأصر على أن ينتظر أمام غرفتها؛ حتى يتأكد من أنها قامت بتبديله.
خرجت نغم من غرفتها؛ لتجده يقف مستندا إلى حاجز الدرَج؛ ينتظرها، وقف ينظر إليها بتهكم وهي ترتدي فستانا ذا لون وردي مطرز ببعض وردات صغيرة ذا أكمام تغطي نصف ذراعها.
توجه لحيث تقف، وأطبق على معصمها بقوة، واصطحبها لسيارته، وقبل أن تعترض.. دفعها لداخل سيارته.
وانطلق بها لحيث يوجد المعهد الذي تدرس به، ثم حين وصل إليه أوقف السيارة، ثم ترجل منها، وأطبق على معصمها بقوة آلمتها، وهمس لها بخفوت بجانب أذنها:
- يا ريت ما تتحدينيش بعد كده! وإلا انتِ عارفه النتيجه هتكون إيه! ها..؟! اعدي اخدك اخر اليوم..
ثم ترك معصمها، ورحل إلى عمله تاركا خلفه مَن تقف تدب الأرض بغضب طفولي وحنق ظاهر، وهي تتوعد بداخلها أن ترد له الصاع صاعين..
----------
حين وصلت رحمة للمحل الذي تعمل به؛ وقفت تلتقط أنفاسها، لقد أخذت الطريق الفاصل بين منزلها والمحل وهي شبه راكضة حتى وصلت للمحل، وما أن أصبحت بداخل المحل صاح بها صاحب المحل -ويدعى "ماهر" كان في الأربعين من عمره، قد خط الشيب شعره، ذا طول متوسط، لم تكن رحمة تستريح له؛ لأنه كان دائما ما يرمقها بنظرات مريبة ودائما كان يحاول أن يقوم بلمسها، ويدعى أنه بغير قصد-؛ فاحتد عليها بالحديث قائلا بغضب شديد:
- نومسيتك كحلي يا هانم! ما لسه بدري... انتِ مخصوم منك النهارده.. تقدري ترجعي على بيتك، ولما تلتزمي بمواعيدك ابقي تعالي!
اغتاظت منه رحمة بشدة، واستدارت على عقبيها؛ لتعود إلى المنزل تاركة إياه يقف يرمقها بنظرات ماكرة، ويتأملها بنظرات وقحه..
غادرت رحمة عائدة إلى منزلها، وتوجّهت إلى بيت جارتها؛ فتفاجأت جارتها بعودتها السريعة، ودعتها للجلوس، ثم قدمت لها كوبا من عصير البرتقال الطازج؛ ارتشفته رحمة وهي تشكر جارتها هبة التي كانت.. وستبقى عونا لها.
جلست هبه –وكانت سيدة بالخمسين من عمرها،  بشوشة الوجه، متوسطة الطول، سمراء العينين، وبشرتها قمحية-، ربّتت على كتف رحمة بود، وتحدثت إليها قائلة باهتمام شديد:
- ايه رجعك بدري كده يا حبيبتي؟! هو صاحب الشغل ضايقك؟!
حادثتها رحمة وهي تتذكر نظراته القذرة، وتكز على أسنانها بغضب:
- ده بني آدم حقير يا طنط هبه، أنا ما صدقت قالي ارجعي بيتك طالما ما بتحترميش المواعيد، وروحت راجعه.. انا أصلا مش برتاح له.. بفكر ادور على شغل تاني.
أردفت هبة بودّ وهي تربّت على كتفها بحب:
- خلاص يا حبيبتي دوري على شغل تاني.. بس خلي بالك لا الزفت عباس دا يقعد كل شويه ينطلك.. هو من يوم ما شافك وهيتجنن ويتجوزك.
أردفت رحمة وقد احتلت شفتيها ابتسامة رقيقة؛ لتذكرها بيزيد وهو يوسع المدعو "عباس" ضربا؛ حتى سقط من شدة الضربات التي تلقاها، وضحكت بشدة على غبائها الذي جعلها بدلا من أن تشكره احتدّت عليه بالحديث.
نهضت بعد أن قبّلت جارتها العزيزة، وأخذت طفلها، وذهبت إلى شقتها؛ لتبدل له ملابسه، ثم تتناول بعض الطعام، وتذهب لترتاح قليلا.
***
بمعهد نغم؛ كانت قد انتهت من يومها الدراسي، وتناست تماما أن زين أخبرها أنه سيأتي لاصطحابها.
وقفت تتحدث مع إحدى زميلاتها، وانضم إليهما شاب آخر زميل لهما؛ أخذ الشاب يلقي النكات على مسامعهما.. وظلت نغم تضحك بشدة حتى دمعت عيناها.
عرض عليها الشاب أن يقوم بإيصالها بطريقه هي
وزميلتها، وما كادت تتحدث إلا فوجئت بصوت زين يهدر بها بغضب شديد، وكأن شيطان الأرض تلبّسه لرؤيتها تقف برفقة شاب، أقترب منها بخطوات سريعة ووجهه مكفهر من شدة غضبه، ثم دون مقدمات أطبق على معصمها بشدة، وجذبها باتجاه سيارته.

المشاكسه والمستبد الجزء الأولحيث تعيش القصص. اكتشف الآن