الفصل الخمسين

178 15 20
                                    

الناس عموما يميلون إلى الاعتقاد بأن السعادة هي ضربة حظ، تنزل على المرء مثل الطقس الجميل إن كان محظوظا بما يكفي.. ولكن السعادة لاتأتي هكذا، بل هي نتاج مجهود شخصي.. على المرء أن يحارب لأجلها، يكافح لأجلها، يصر عليها، واحيانا أن يجوب العالم بحثا عنها.. عليك ان تشارك دائما في تجليات نعيمك.. وحين تبلغ حالة السعادة، ينبغي عليك ان تعمل للحفاظ عليها و أن تبذل مجهودا عظيما لتستمر بالسباحة إلى الأعلى في تلك السعادة الى الابد، لتبقى طافيا على سطحها.. و ألا فستخسر رضاك الفطري.. فمن السهل علينا ان ندعو ونحن في الشدة و لكن الاستمرار في الدعاء بعد مرور الازمة هو اشبه بضمان يساعد الروح على التمسك بأنجازاتها الجيدة..
{ إليزابيث جيلبرت؛ طعام صلاة حب }

مفصولة عن الواقع، برفض بالغ للمصيبة.. شاخصة عينيها بجفون متورمة تسرح منها دموع حارة بسلاسة.. محدقة إلى الأمام متصلب جسدها كازة بأسنانها لا يبدو عليها أنها تتنفس حتى.. لا ترى و لا تسمع، مغيبة تماماً عن محيطها محجوب عن بصرها حركة الطاقم الطبي السريعة مهرولين هنا و هناك بعد أن أعلن عدنان حالة الطوارئ بأدخال زوجها إلى غرفة العمليات فور وصوله إلى مستشفاه الخاص منذ الدقيقة الأولى من اتصال ادم به و ابلاغه بتوقف قلب نديم.. خمسة عشر دقيقة مرت عليهم كأنها دهر، أقسى دقائق عاشتها بكل حياتها، حتى تجاوب قلبه بنبض ضعيف عاد له بشق الانفس و تنفس خفيف بالكاد يصل إلى خلايا الدماغ يهدد بدخوله بغيبوبة، مما جعل حالته اخطر.. لينقل بوقت قياسي إلى المستشفى لضرورة خضوعه لعملية عاجلة بعد تلقيه الإسعافات الأولية التي انقذت حياته..
صدمة المت بها عصرت تحت تأثيرها ليبدو ذلك جليا لعيون الممرضين المشفقين وكل من فات بذلك الممر، حيث تجلس وحيدة، مترقبة، مرتعبة و ندمانة.. يصرخ داخلها بأسمه و تناجي روحها المحترقة الله ليعيده إليها سالما معافى.. زاد تشبثها بقميصه السمائي الذي التقطته بلهفة كأنه الحياة، حين شقه المسعفون و ازالوه عنه لينعشوا قلبه بجهاز صدمات القلب الكهربائي، بينما تسطع في رأسها صورته وهو جاث على ركبتيه امامها راكع بجسد مهدود يتوسلها السماح.. اهتزت و اغمضت عينيها بقوة تحني ظهرها ترفع القميص بيدين مرتجفتين تقربه الى انفها تشم رائحته علها تسكن قليلا من انين فؤادها مطفئة بذلك جحيما شب في كيانها لحظة رؤيتها لأدم يضغط بكفيه المطبقين على صدر حبيبها المسجى ارضا بحركة سريعة وهو يصيح بهلع " لا تفعلها نديم !! عد رجاءا ! نديم، إياك أن تستسلم، إياك ! " زاد نحيبها و علت شهقاتها تردد بينها اسمه بصوت مبحوح وهي تدفن رأسها بقميص زوجها الممزق، تلوم نفسها و تجلد ذاتها " ياليتني لم أفعل ! " و كم تمنت لو تملك قوى سحرية لتعود إلى الأمس و تغير ما حدث، أو تعدل الوقائع..
و ما بين (ياليت) و (لو) تسوء الاحوال اكثر.. لا غالب لحتميات القدر، كل شيء بأوان.. وما يكتب لن يمحى.. فقط، تتعدد الاسباب، و تبقى النتيجة واحدة..

الأمس...

يدوي في رأسه صوتها تدق كلماتها كمسامير صدئة في روحه المنهكة تسري سما عزافا اثقل قلبه المحطم و زاده مرضا.. مرض الم به دون أن يعلم متجاهل شعور الوجع فما يمزق دواخله اكثر وجعا و اشد عذابا.. متحجرة دموعه بحدقتين كالجمر لونا، توضح احتراقا داخليا بداء عده العكسي، بعجز قلب مقطع النياط عن الاحتمال.. يتولد فيه ارتعاش شديد مع عصف كل عبارة صدرت منها تصفع كيانه و تمزق احشائه " تعبت منك.. لم اعد احتملك، لم اعد اطيقك.. اتركني و شأني، لا يمكنني الاستمرار.. انتهى حبك من قلبي، لا أريد الاستمرار معك أنا اموت بالبطيء.. انت حقير، مستبد، ظالم.. انت شيطان، لست فارس احلامي، أراك قبيحا.. اطلقني ارجوك و حررني، اتركني مع نفسي فهذا كل ما اريد " زئر بألم يهدر صوته الجهوري متشرجا بين عبرات خنقته وهو يضغط بقوة على المقود حتى ابيضت يديه و برزت عروق ساعديه بينما يتردد صوتها حين صاحت " سأتركك، سأرحل عنك حتى لو اضطررت أن اهرب منك لآخر الدنيا لاتخلص منك و من اختلالك " بوجع أكبر تدفقت دموعه مزلزلة كلماتها التي اخذت تعاد مرارا كل جوارحه.. زاد من سرعة السيارة يريد الوصول إليها بأقرب وقت مرتعب من فكرة هروبها مرة أخرى.. وصل إلى هناك بمعجزة، فقد قاد شاردا، حزينا بجوف يحترق و روح تصيح.. فكرة واحدة فقط تومض في رأسه و قرار حتمي صارم اتخذه وعزم على تنفيذه..
تفاجئ بأدم يقف عند البوابة الخارجية لمسكنه، حيث اخفت نفسها عنه حبيبته الهاربة.. اندفع إليه ما أن صف السيارة..
_ نديم !!
.. قالها بلهفة بينما يترجل الاخر بتعب من مقعد السائق و عيونه الذابلة معلقة بشرفتها عند الطابق الثاني..
_ حمدا لله على سلامتك.. كنت انتظرك، اقلقتنا يارجل.. لماذا لا ترد على الهاتف ؟
.. بصدر ضائق و صوت خافت اجاب بصعوبة يحاول المقاومة كيلا يسقط صريعا فساقيه الهلاميتين تماثلان بأرتجافهما اختضاض جسده..
_ اسف.. لم انتبه لرنينه..
.. بتعاطف غريب و هدوء ربت ادم على كتفه ليطمئنه، يوزع نظره القلق على وجهه الشاحب و بؤبؤيه الزائغين..
_ لابأس، المهم أنك بخير.. تعال معي نديم، علينا التحدث أولا قبل ذهابك إلى سما.. أعرف انك تتوق لرؤيتها و التكلم معها، لكن عليك التروي.. اعدك أنك ستراها، دعنا نصعد إلى شقتي أولاً..
.. اومئ نديم وهو يحني رأسه بأنكسار أحزن ادم جداً.. يتابعه بطرف عينيه يسير بجانبه ببطىء، واضح عليه الضعف و الذبول.. بتسليم تام مرتخية كتفيه العريضين متقوس ظهره بأحباط، و خواء.. بقى متأهبا لتلقفه فحاله ذاك يؤكد قرب سقوطه.. أراد اسناده متمسكا بذراعه ما أن تخطيا الباب الداخلي للبناء لكنه لم يشيء احراجه..

حكاية حياة.. الجزء الأول من سلسلة ( لنا في الحياة.. حياة ) حيث تعيش القصص. اكتشف الآن