يضيع الوضوح دائما بين دهاليز الحيرة الملتوية.. بالفهم البطيء يستشف المنطق خيوطه المعقودة بالاغلاط لينسج افعالا معكوسة تأخذ الواقع نحو حفرة عويصة.. فكرة واحدة تفسر بالمقلوب نتيجتها سقوط.."انت بخير يا فواز و سوف تكون افضل بمرور الأيام.. سنتعب قليلا لكننا سوف نكون بخير، مع بعضنا"
بهذه الكلمات المقتبسة من كلام زوجته دق فواز قلب نديم بين مطرقة و سندان قلة الحيلة، بكثير من الوجع المنبثق من نبرته موضحا قدر انكساره.. كواه وانتزع منه الطمئنينة، لا سكون و لا راحة عادت متوطنة فيه أساسا منذ وقوع ذلك الحادث المروع ونجاة صاحبه من موت محقق او إعاقة مزمنة.. ربما هو هذا الامر الوحيد الجالب للسلام في خضم الموقف برمته..
رفرف نديم بجفنيه بخفة مقاطعا فواز شروده الحزين يواصل الفضفضة..
_ انا مكبل يا نديم، دمرني العجز و اكثر ما يحطمني إصرار سعاد على الادعاء انها بخير.. اشعر، بل اعرف انها تتآكل من الداخل بصمت كاد يلتهمها كوحش صاخب بفكي القهر والألم و الشفقه !
.. زفر بأختناق وهو ينكس رأسه يقاوم دموعا تحشدت على باب مقلتيه.. يتابعه صديقه واجم المعاني دامع العينين نخر صوت رفيقه الضعيف خلجات روحه و واصل لهيب شكواه احراقا لجوف ذلك الأخ المحب يضاعف لديه الوجل.. لكن لامجال للتراجع او التخاذل او حتى التعثر بلحظة ضعف، ماحدث قد حدث والشكر لله قد انقضى الامر بأقل الخسائر..
تنهد نديم بعد ان استعاد جديته ومال بجذعه مسندا ذراعيه على فخذيه مقابلا صديقه، تحدث صادقا بدفئ..
_ اسمعني يا اخي، سعاد طالما هي معك فهي حقا بخير، و لا تظن ابدا انها مجبورة او مشفقة او تفعل هذا من منطلق الواجب.. لايمكن تزييف المشاعر يا فواز..
_ لكنها تؤلمني اكثر بتصرفاتها هذه نديم.. عجزي عن رفع ذلك الثقل عنها اشد وطئا على روحي من عجزي الجسدي.. تتظاهر بالصلابة، تتظاهر بعدم الاهتمام وان كل شيء على مايرام حتى انها عادت الى العمل و تزاول حياتها بشكل عادي لتبدو من الخارج بحال هادئ طبيعي لكنني اجزم انها من الداخل تحترق، تتآكل، تنصهر من نار اوقدتها انا بكيانها منذ وقت إصابتي.. ما ذنبها لتفني شبابها و جمالها و نجاحها من اجل خدمتي ؟ لماذا عليها ان تصبر و تتحمل ؟
.. اجابه صديقه بهدوء يذكره، مرددا كلمات قالها الاخر بوقت سابق لبقايا رجل محطم..
_ ذات مرة، منذ أعوام خلت قال احدهم
انا شخصيا اثق به اكثر من نفسي واعتبره مرجعا لي بكل مايخص حياتي، كلاما دقيقا لوصف المرأة الأصلية " من يتخاذل عن حملك وقت سقوطك لايستحقك " وحينما جائت إجابة مشابهة لما طرحته من تساؤلات انت الان، افحم برد لا يعلى على حقيقته " لانها حرة.. كيف تميز بين الجوهرة و القشرة ؟ المرأة عطاء لاحدود له فهي كالارض ان احبت، تهبك خيرها و كنوزها ما حييت.. لو احبت المراة بصدق لما فرق معها ما يحل بك.. قضايا القلب لا تستأنف و عمق المشاعر لا يقاس بمدى مثالية اجسادنا المادية او حساباتنا البنكية.. الحب الحقيقي ليس كلمات تقال او اشعار تغنى او حتى لحظات شغوفة بتواصل الأجساد.. الحب اسمى، يترجم بالافعال؛ ان عرجت يكون الحبيب عكازا، وان كففت يصير عينيك و بصيرتك، و ان امسيت اسير الفراش يلازمك بلا ضجر.. المحب يهتم.. منزه العشق من الانانية، مشحون بطاقة العطاء "
.. احنى فواز راسه مبتسما مبتل الاهداب غارق العينين بدمع هيجه صوت صاحبه الاجش لتكراره عبارات الحجة التي الزمها هو نفسه لهيثم بوقت سابق مواسيا إياه على هجر حبيبته و تخليها عنه.. تصارع نديم مع شفتيه ليرسم ابتسامة كاذبة وهو يربت على ذراع خليله المحطم يردف بهزل اجاد تمثيله..
_ يعني لو كنت مكانك لأسرفت بالتدلل !
.. رفع فواز رأسه سريعا مقاطعًا بلهفة..
_ لاسامح الله يا صديقي ! لاتقل شيئا كهذا ارجوك نديم، لا أتمنى ماحل بي يحدث لعدوي، فكيف الحال لو كان انت يا أخي..
.. بمعجزة قبض نديم على دموعه و بقوة خارقة حول تأوها باكيا لقهقات عالية و قد أعاد جسده الى الوراء آملا إخفاء ملامح القهر التي شققت وجهه، لكسر حالة التأثر القصوى وكل ما ضربه به فواز الفاهم تماما حركات و ادعاء من امامه.. تحدث نديم وهو يتظاهر بمسح دموع الضحك، لكن بؤس نظرته كشف حقيقة تلك الدموع..
_ انه كلام مجازي يا صديقي يستخدم للاقناع، كما تفعل الام لاقناع ولدها العنيد كي يشرب الدواء !
.. ثم نهض تلاحقه عيون المبتسم المكسور بينما يلتف مدع المزاح حوله، استقرت كفيه على مقابض الكرسي ذو العجلات وهم بدفعه وهو يقول بعد ان تهدلت اجفانه وحل مكان ضحكاته تنهيدة اسى..
_ كفانا ثرثرة و لنعدك لبدء الجلسة..
.. سار به يتجاوز الممر الأبيض المشمس من خلال بهو الاستعلامات و الانتظار الخاص بمركز العلاج الطبيعي.. داوم نديم على مصاحبة فواز بنفسه طوال الأشهر الاربع الفائتة الى المركز وكل مكان حريصا كل الحرص على مواكبته و الشد من ازره اخذا على عاتقه كل صغيرة و كبيرة بكل مايخص صحته النفسية و الجسدية و تشجيعه على الاستمرار و المقاومة.. لاسيما بعد انتكاسة شهدها صديقه بتفاقم الآلم الناجم عن الاصابة البليغة ناهيك عن مايكابده من مشقة شديدة بما عليه ان يختبره من تمارين رغم بساطتها لكنها اجهزت على كل مالديه من تحمل.. فرض عليه المواصلة، و المثابرة والمجادلة، وبالطبع نديم دائما وابدا موجود من اجله.. بتفان ليس غريبا عليه، و إصرار كبير بعمق ما يكنه له من محبة، كرس كل وقته وجوارحه لرفيق الدرب الغالي فواز.. ترك عمله و ابتعد عن اسرته و لازم الأخير سندا و عونا و محفزا، صديقا واخا و جيشا مهولا مسلحا بالشجاعة و مدججا بإلإقبال.. يغض الطرف عن كم الاوجاع الصادرة من آهات فواز اثناء العلاج الفيزيائي او تمارين العلاج الطبيعي.. يبتلع حجرا مدببا في كل مرة يعجز فيها صاحب عمره من تكرار الحركات أو التجاوب مع جهاز تحفيز الأعصاب الكهربائي.. طعم مرير لازمه منذ ذلك اليوم المشؤوم ازداد فضاعة مع استمرار آلام فواز.. لايطيق التفكير بأضطرار صديقه التنقل بالكرسي المتحرك وان كان بشكل مؤقت، هذا ما اكد عليه ادم من متابعته الدائمة لحالة فواز.. يصعب عليه احتمال فكرة سقوط ذلك الكيان الباسل.. تكدرت حياته و انقلب حاله، نار تشب في اعماقه افقدته الشعور و خنقت احساسه بما حوله من مباهج.. لا ليل يطيب مضجعه، و لا نهار يخفف وجعه.. سيول من العلقم اغرقته ليفقد طعم ملذات الحياة..
أنت تقرأ
حكاية حياة.. الجزء الأول من سلسلة ( لنا في الحياة.. حياة )
Romanceننطلق نحو اهدافنا.. نجتاز الطريق.. نتعثر احيانا، نسقط احيانا.. لكننا نصل.. مايهون الصعاب.. هو الرفقة.. الجزء الأول ( حكاية حياة ) بداءت بتاريخ 19/أكتوبر,2022 انتهت بتاريخ 28/فبراير,2024 *الرواية أصلية، غير منقولة أو مقتبسة.. *كل ما ورد من تأليفي، عد...