تمشي حياة بخطى سريعه مشتتة التركيز.. تطرق بكعبها العالي الذي لا تستغني عنه ابدا لقصر قامتها على ارضية الممر الطويل الفارغ الهادئ مصدرة ضوضاء ذات صدى عالي لم تكن تسمعها، فضوضاء عقلها اصخب من ذلك بكثير.. تطن كلمات سما في عقلها ناهشة قلبها لتتسائل في نفسها بتعجب " كيف غفلت عن معاناتها و لم أشعر بحرمانها !!؟ كيف كنت احاربها !؟ " عند هذه النقطه أرتجف جسدها كأنما اجتاحها البرد.. رفضت أن تكمل التفكير على نفس الوتيره.. تخاف من ذلك الشعور أن يعود للسيطرة عليها فهي لن تقبل ان تكبل نفسها و نجاحاتها بأحزان الماضي.. فرت دفه تفكيرها ناحيه سما مجددا، تركز على نقطه واحده وهو سؤالها الذي غيرت صيغته ليبقى جوابه واحد.. رأت حياة بنظرتها الثاقبه و ذكائها الحاد و قدرتها الهائله على التحليل أن ما جعل سما تطلق اسم اوريون على ذلك الشاب الذي التقت به مره واحده فقط وشعرت معه بألفه و ارتياح بأنها في الحقيقة لم تفكر سابقا بصفات فارس الأحلام ابدا.. فهي دائما منطويه على نفسها قليله الاختلاط مهتزه الثقة.. و على ما يبدو أن تغيير مكانها وارتياحها فيه وهو ما لمسته من كلام سما المتحمس ووصفها الدقيق لكل شيء أنها وجدت نفسها و شعرت بكينونتها بسبب اعتمادها على ذاتها.. وهذا يثبت أهميته الاستقلاليه.. كل ما سبق جعل سما تتفتح اكثر على محيطها لتتعرف على تلك الحياة الجديده والتي لن تكون سهله عليها ابدا فهشاشتها و قله خبرتها و برائتها جعلت حياة ترتعد خوفا من أن يتم استغلالها وبالتالي كسر قلبها.. لكن ما جعلها تتالم اكثر هو شعور سما بالضياع و الحرمان، عندما وصفت فارس أحلامها ب( أبي ) بينت كم الندوب و البثور التي شوهت طفولتها و اثرت على شبابها.. تطلب الاحتواء و ترجو الامان.. الامان فقط.. الاب هو مصدر الامان و الدفئ.. السند و الحامي.. هذا بالذات ما ارادته سما وما استشعرته منذ اللحظة الأولى مع فواز.. ذلك الشاب الغريب بمجرد أنه أراد مساعدتها.. "كم انت هشه يا سما !! "
اخيرا، بعد حرب الأفكار تنهدت بأرتياح متيقنه بأن انجذاب سما للشاب الاصلع فقط لانها شبهته شكلا بوالدها.. عيون عسليه و جسم ضخم.. اطمئنت قليلا لتلك الفكره لكنها مع ذلك قررت أن تتابع سما يوميا لتعرف تحركاتها وتشاركها يومياتها حتى أنها عزمت على أن تتصل بشكل دوري بالسيده سماح مديرة سكن الطالبات و التي تسكن معهن أيضا في نفس الدار لتتابع أحوال سما من خلالها و لتعطي لها شعورا بأنك لست وحدك أنا هنا دائما معك..
وصلت اخيرا لمقهى المصح تبحث بعينيها عن ذلك الفارس.. يبدو أنه يحب الاختباء.. يظهر للحظات ليشتتها و يبعثرها من ثم يعود ليختفي من جديد.. مر يومان على اخر مره رأته فيها عندما كانت تسجل ملاحظات أستاذها، فمنذ تلك اللحظه وصوته يرن براسها ويعيد عقلها الواعي و الباطن كلماته و صورته كأنما فيديو مصور بالتصوير البطئ ليزيدها انشغالا به و تأثرا بطلته..
حسمت أمرها و اتجهت إلى سميه الفتاة اللطيفة التي تجلس في الاستعلامات لتسأل عنه مباشرة فهو على كل حال زميلها في المصح و ربما لديهم حاله مشتركة أو حتى ممكن أنها تريد استشارته بأمر أحدى الحالات التي حددت لها مهمه متابعتهم من قبل استاذها، فيبقى الدكتور ادم أكبر منها سنا و علما وبالتاكيد اكثر منها خبرة و فهم ! هذا ما كانت تهدئ به نفسها الثائره و حيائها المستتر !! وصلت اخيرا لتتكئ بجسدها وتضع كلا ذراعيها فوق الحاجز الخشبي الذي يفصل بينها وبين سميه شابكة اصابع يديها ببعضهم مع ابتسامه عمليه بادلتها اياها سميه بكل احترام..
_ أهلا دكتوره حياة.. كيف لي أن اساعدك ؟
.. بهدوء و اتزان يليق بها، ردت..
_ أود أن أعرف أين تقع غرفه الدكتور ادم من فضلك..
اجابت سميه بعد صمت قليل واستغراب واضح على ملامحها..
_ لم أفهم، حضرتك.. من دكتور ادم؟ لايوجد احد يعمل هنا بهذا الاسم، لا من الطاقم الطبي ولا حتى من الموظفين..
تفاجئت حياة و تلكأت قليلا تظهر علامات الصدمه على وجهها..
_ ماذا يعني لايوجد احد بهذا الاسم ؟! لقد التقيته هنا مرتين، وفي إحداها كان يتحدث مع الدكتور توفيق وهو من أطلق عليه اسم ادم، يعني سمعته منه..
.. نطت فكره في بالها فورا، قالت بسرعه..
_ ربما يكون لا يعمل هنا لكن يتردد على هنا.. محتمل أن يكون له حاله خاصه يقوم بمتابعتها مثلا..
.. تتحدث بهدوء وهي ترفع كتفيها و تهز رأسها بمعنى لا أدري.. اجابتها سميه بعمليه شديدة..
_ هنالك قيود صارمه حددها الدكتور توفيق، احدها هو عدم السماح لمعالجين من خارج المؤسسه الدخول ومتابعه حالاتهم اذا لم يكونوا مسجلين و محفوظة مواعيدهم التي تكون مهيئه مسبقا.. بالاضافة الى اخذ الأذن منه بشكل شخصي.. يعني لو أن هناك معالج من خارج المصح بأسم ادم لكان قد مر علي بالتأكيد..
بقت حياة لا تعرف بما ترد فكل ما قالته سميه تعرفه مسبقا.. قوانين الدكتور توفيق الصارمه معروفه للجميع و تطبق بالحذافير، مما لا يدعو للشك بأن كلام سميه صحيح و لا يوجد للدكتور ادم وجود.. ولكن كيف.. كانت مع الدكتور توفيق عندما رأته للمره الثانيه وتحدث معه بنفسه مخاطبا اياه باسمه اذن هي ليست مجنونه وهو ليس بشبح
.. شكرت سميه وهمت بالمغادره ما أن التفت حتى تجمدت خطواتها.. هذا هو أمامها.. يمشي بهيبه مهلكه.. كأنه لا يخطو فوق الارض بسبب هدوء مشيته.. لايزال تأثيره عليها كما المره الأولى.. وجوده يجعل الهواء ثقيل.. و يستحيل المكان كبير.. أو ربما هي من تصغر، لا تعلم ما يحدث معها بالضبط فكل شيء ونقيضه يصيبها؛ تتعرق من البرد، ترتجف من الامان، تخاف من السعادة، وترتعب من الحماس.. هالته المخيفه الغريبه تطغي على كل ما حولها تلون المكان بالوانه يصبح كل شيء داكن بصفاء و فاتح بنقاء..
مر من أمام سميه ليومئ لها برأسه بتحيه قابلته هي بأبتسامه عمليه محترمه.. التفتت اليها حياة المندهشه، اردفت بأتسياء..
_ الم تقولي منذ قليل بأنه لا وجود للدكتور ادم هنا ولا بأي شكل من الاشكال ؟!
.. بصوت مضحك شبه مازح تهكمت.. اذن من هذا الذي بادلته الابتسام منذ لحظات ؟!
رفعت سميه حاجبيها بفهم متفاجئه، وضحت بصوت مرح..
_ اه تقصدين دكتور ادم ذاك..
.. وهي تشير بيدها للاتجاه الذي سلكه ادم.. هزت حياة رأسها بنعم.. اجابتها سميه بتفهم و لطف..
_ الدكتور ادم ليس طبيبا أو معالجا هنا.. أنه نزيل..
.. صعقت حياة و فتحت عينيها، همست بصدمه..
_ نزيل !!
لم تكن مصدومه فقط.. بل فقدت شعورها تماما لتأخذها قدميها إلى غايه الحديقة السريه.. المكان الذي خرج ادم منه عندما رأته اول مره.. جلست على تلك الارجوحة ذات الحبال وهي تفكر..
_ ماذا يمكن قد حدث لشخص كهذا ليكون ( نزيلا ) هنا ؟؟
فهذا المكان ينعى فقط بالاشخاص اللذين يدخلون للاقامة الجبربه من خلال بلاغ من الاهل أو قرار محكمه.. توجد استشارات فرديه طبعا وحتى ممكن ان يكون هناك معالج أو مدرب من خارج المؤسسه الصحيه لو كان ذلك طلب من ذوي النزيل ويصب في مصلحته الصحيه والعقليه و النفسية.. يعني المصح حيث تتدرب ليس للأشخاص الذين يدخلون بمحض ارادتهم للتداوي أو الاسترخاء أو لمساعدتهم للخروج من حالة اكتئاب مثلا.. أو حتى تلك الحالات التي تحتاج لتدخل جراحي فأيضا لهم مكان مختلف للاقامة.. فهنا، في مصحه الدكتور توفيق متخصص بالعنايه بالصحه العقليه و النفسية، وتحليل حاله الشخص العقليه وتشخيصها وتوفير العلاج و العنايه واعاده التأهيل فيما يتعلق بمرض عقلي أو نفسي أو الاشتباه في ذلك..
بداءت تداعب بأصابعها اطراف شعرها كحركه تقوم بها دائما عندما تكون تفكر بشيء ما بمعق أو حينما تكون متوتره وقلقه واحيانا عندما تخجل وهذا شيء نادر الحدوث !! ضيقت عينيها و حسمت قراراها ثم انتصبت واقفه.. تمشي بخطوات حثيثه تحيطها هاله من الاصرار و التحدي متجهة لمكتب استاذها تطلب منه شخصيا الاطلاع على ملف الدكتور ادم للتعرف على حالته و أن يكون هو ( الحاله ) الخاصه لمشروع تخرجها كنوع من التحدي مع نفسها وكم تعشق التحديات.. وان كان الأمر لن يتجاوز بضعه ساعات اسبوعيا، يكفي أنها ستكون برفقته و تحظى بشرف التعرف عليه و على حالته التي كان يخبرها حدسها الذي لا يخطئ بأنها ستضيف لها الكثير في مجالها ..أو ربما.. لحياتها..
وبما أنها لديها افكار مختلفه تتعلق بكسب ثقه المريض أو الحاله، فقد طلبت من الدكتور توفيق أن يسمح لها بالتعرف على الدكتور ادم كنوع من حب التعارف و تكوين صداقه لا اكثر.. أرادت بذلك أن تقترب منه بالبداية وتفهم طريقة تفكيره و تركيبته واكتساب ثقته، حتى يكون اكثر انفتاحا معها.. فهم بالتالي سيكونون أصدقاء ولن تواجه ذلك الحرج أو الضيق الذي يحدث احيانا لبعض الحالات حينما يفرض عليهم معالج أو طبيب نفسي أو مدرب خصوصا لشخصيه غامضه و آسره مثل ادم.. فهو ليس انسانا عاديا.. ابدا..
مرحله الصداقه واكتساب الثقه التي ستضيف الكثير والكثير للعلاج و التشافي ستكون بدايه فقط لدخولها لعالم ادم _كما ظنت _ و الوصول لصندوقه الأسود لتكتشف اسراره وتدرس خفاياه..
و كان لها ما أرادت ككل مره تقرر و تنفذ.. هاهي الآن تمسك ملف الدكتور ادم نجم الدين بين يديها لتبداء التهامه..
أنت تقرأ
حكاية حياة.. الجزء الأول من سلسلة ( لنا في الحياة.. حياة )
Romanceننطلق نحو اهدافنا.. نجتاز الطريق.. نتعثر احيانا، نسقط احيانا.. لكننا نصل.. مايهون الصعاب.. هو الرفقة.. الجزء الأول ( حكاية حياة ) بداءت بتاريخ 19/أكتوبر,2022 انتهت بتاريخ 28/فبراير,2024 *الرواية أصلية، غير منقولة أو مقتبسة.. *كل ما ورد من تأليفي، عد...