الاخير

170 9 18
                                    

تشابك نوازع النفس يعثر الفهم محدثا فجوة في المنطق.. آلية الربط عند البشر تسير إلى الخلف بتحليلات قابلة للانفجار ! و عند الحسم يركد العقل، يوكل للجنون اكمال المهمة..

انهت سعاد المكالمة الهاتفية السريعة تدون الملاحظات تضع رؤوس أقلام لمساعدتها بينما تخبرها شفهيا ان عليها ان تجمع فريق المحاميين المعنيين بالامر لدراسة القضية.. خلعت نظاراتها الطبية تدمدم بداخلها على نفسها بحنق..
_ هل كان علي ان اتخصص بقانون اعمال !! ما به قانون الأحوال الشخصية ؟ القانون المدني مثلا او احد فروعه !!
.. زفرت حنقها و هي تلملم الملفات بأنزعاج ليتبدد كل ذلك يحتل السرور قسمات وجهها المتهجم ابتسامة خلابة و احمرار خفيف حين وقع بصرها على خنصرها يبرق بعينيها السعيدة الخاتم الجديد الذي اهداها إياه فواز بعيد زواجهم قبل عدة أيام.. خاتم فخم من الذهب الأبيض بألماسة مربعة ضخمة يزين يدها اليسار الممسكة بالملف.. اشاحت بصرها نحو هاتفها النقال تفكر بالاتصال به مع توسع ابتسامتها، فقاطعها حمحمة المساعدة التي نسيت امرها.. عادت ملامحها الى الجدية تنصت لكلام المساعدة لكن قلبها لا يزال يرقص متمايلا خلف قفص صدري مزدهر بورود ملونة نسقها زوجها الرائع معوضا عليها ما قاسته خلال العاميين و النصف الفائتين..
اتمت عملها بعد ان اجتمعت بنفسها مع الفريق المكلف لتتفرغ أخيرا لاجراء تلك المكالمة، لتقاطعها المساعدة مجددا لكن هذه المرة وهي تحمل باقة الازهار اليومية التي دائب نفس ذلك الزوج الرائع بأرسالها لها خلال ساعات النهار بينما تكون منهمكة بالعمل.. لم يجعل شيئا يشغله عنها مطلقا حتى مع ازدحام وقته بأدارة عمله الجديد شريكا لأخيه و الان مديرا لفرع الشركة في مدينته الساحلية بعد اقتران الشركتين ليكون فواز مديرا معنيا بأدارة المشروعات و الموارد البشرية على المؤسسة المدموجة.. جعله هذا يحقق حلما مشتركا مع صديق عمره تعاهدا بالدم على تحقيقه و استمراره.. عمل خاص كبير يجمعهما يخلقان من خلاله عالما واسعا معني بتوفير فرص عمل للقضاء على البطالة و استغلال كل ما يلزم من ايد عاملة بشكل كبير لفائدة مجتمعية فاعلة.. و مع كل هذا و ذاك من مسؤوليات ثقيلة، لم يمسح لشيء ان يشغله عن مهجة قلبه سعاد.. منذ ان عاد وهو لا يترك يوما دون ان يرسل لها باقة من ازهارها المفضلة؛ الزنبق الأبيض و بتلات برتقالية من ازهار القرنفل العبق..
رفعت عيونها عن جمال الباقة الى عيني حوراء الشقية تغمز لها بينما تضعها فوق المكتب و كم اغاضتها حين خرجت بدون ولا كلمة مكتفية بتلك النظرة الماكرة و الغمزة المزعجة.. تنهدت لتزيح عنها الغيض من هذا الاستفزاز اليومي تمارسه عليها مساعدتها المجنونة حوراء؛ صديقة قديمة جمعتها بها صدفة غريبة بوقت حرج لتقدم لها يد المساعدة، كلتاهما ساعدت الأخرى بطريقة مختلفة.. اعادت عينيها لازهارها و هذه المرة وهي تجري تلك المكالمة أخيرا.. بانت اسنانها حين جاء صوته الحبيب تشق وجهها ابتسامة عريضة..
_ سعادتي.. اسف لاني لم اتصل، دخلت بأجتماع مطول مع نديم لنجد حلولًا للخروج من تلك الورطة التي اوقعنا بها بغبائه !
.. قهقهت سعاد بمرح..
_ حرام عليك تتبلى على صاحبك، لقد كانت فكرتك على ما اذكر، كلاكما مجنونان بالقدر نفسه.. على كل، لقد درسنا الامر انا و فريقي و رتبنا موعدا مع السيد فارس مدير المجموعة المنافسة لطرح المقترحات الجديدة على صيغة العقد القديم..
_ لم أتمكن من ابتلاع السيد فارس ذاك ! متعالي و متعجرف اكثر من نديم نفسه ! ثم علي ان اذكرك، انا زوجك، و عليك ان تكوني في صفي ظالما او مظلوما على ما اعتقد !
.. ضحكت من تهكمه الساخر و ردت تتشدق بأنفة..
_ زوجي في البيت، سيد فواز، اما في العمل فأنت عميل فقط ! عميل متطلب لا يرضيه شيء !
.. غمغم بنبرة خبيثة احمرت وجنتيها من مقاصده..
_ هكذا الامر اذن ؟! حسنا، لنرى عندما نعود الى البيت سيدة سعاد.. سأجلب معي عبائة العميل المتطلب، و اجعل زوجك العزيز يرتديها، لنرى عندها كيف سوف تتعاملين مع متطلباته !!
.. بخبث اكبر همست مبتسمة..
_ لا مشكلة عندي، سيد فواز.. أساسا هذا عملي، اجد الثغرات لحل المشكلات، إرضاء العميل هو غايتي..
.. ضحك بخفة يسايرها سعيد بمنعطف الحديث.. انهوا المكالمة بعد قليل من الوقت حيث شكرته على الباقة الجميلة ودعا بعض على وعد باللقاء مساءا..
.. مضت أيام هادئة على الجميع بأستثناء شمس الصغيرة وقد اثقل صد احمد الغريب قلبها للغاية.. لا تعرف بما أخطأت ليخاصمها بهذا الشكل المؤلم جدا.. بين ليلة و ضحاها تغير اكثر و صار ابعد.. لم يعد يجيب على مكالماتها حتى انه لم يعد يأتي الى المزرعة أيام العطل و لم يعد يشاركهم بأوقات تجمع العائلة.. يحبس نفسه في غرفته حينما تذهب لزيارتهم مع أهلها و لا ينظر لها مطلقا اثناء تناولهم للطعام في ما لو ارغمه اهله على الظهور في التجمعات.. ادمعت عيونها مع ازدياد شعور الحرقة في صدرها بسبب اشتياقها له.. و ما زاد الامر سوءا انشغال والديها بأختها الصغيرة قمر، رغم سعادتها بمجيئها لكن وجودها سلب منها اهتمام الجميع بما فيهم جدها باسم.. و مع انسحاب احمد من الصورة أصبحت حساسة بشكل مفرط.. انعزلت و اختارت ان تترك من حولها لخياراتهم دونها، ما عدا صابرين و حسام و شهد طبعا.. تنهدت و هي تمسح دموعها ونهضت بحماس لأستقبال العزيز حسام ما ان استمعت لصوت هدير محرك سيارة فواز ذات الدفع الرباعي تصف في مرآب المزرعة.. ركضت نحوهم تراهم يترجلون من السيارة يساعد حسام اباه بأنزال الأغراض من صندوقها الخلفي، يتناول والدها الاكياس منهما بينما يسير مع فواز و سعاد الى الداخل تاركين حسام يقفل أبواب السيارة.. اجفلته حين قفزت عليه تحتضنه ما ان استدار فضحك بخفة وهو يدفعها عنه يقول بأحراج..
_ على مهلك عزيزتي.. كيف حالك شمس ؟
.. تجمدت مكانها تبحلق فيه بعينيها المفتوحة و كم اوجعته نظرتها المصدومة.. كان عليه ان لا يبعدها عنه بهذه الطريقة الفظة.. كان عليه ان يسمح لها بضمه أولا دون ان يبادلها هو الحضن، من ثم يشرح لها ان هذا لم يعد ملائما كما نبهه والده صباح اليوم قبل ان يأتوا الى هنا.. ابتسم و اقترب منها فأبتعدت هي خطوة للوراء مزقت قلبه بأرتعاش شفيتها و تجمع دموع غزيرة في عينيها.. تحدث بلهفة وهو ينحني قليلا يواجه نظرتها الغير مستوعبة بعيون يشف الصدق منها يخبرها بأهتمام اخ محب..
_ شمس، عزيزتي.. انا اسف، لم يكن علي فعل هذا بهذا الشكل المفاجئ.. اسمعيني، انا.. انا لا يمكنني ان اضمك من الان فصاعدا..
.. تسائلت بصوت مرتعش تكبح دموعها بصعوبة.. فيها من الألم و عدم الفهم ما فيها، لم يكن ينقصها تصرف حسام الغريب الان..
_ لماذا لا يمكنك ان تضمني؟ انت تضم شهد عادي..
.. رد بأحراج اكبر محمر الوجه يشرح لها بهدوء لطيف..
_ شهد اختي بالرضاعة، لذلك يجوز لي احتضانها و التعامل معها بشكل اريح..
_ انا أيضا اختك، اولست كذلك ؟!
.. انعصر قلبه من طريقتها الحزينة و تلك الدموع التي انتفضت من مقلتيها..
_ طبعا، انت اختي عزيزتي شمس، لكن..
.. صمت قليلا مطرقا رأسه يحاول إيجاد الكلمات المناسبة ليبسط لها المفهوم.. انقذته امه بندائها فذهب سريعا بعد ان اخبرها انهم سوف يكملون حديثهم لاحقا، لكنها لم تبلع الكلام و لم تطق التأجيل.. فأنطلقت الى أمها تسأل عن معنى التصرف لتستبين أسباب الامتناع.. هرولت الى الداخل حيث ترضع والدتها قمر في الغرفة لا يدور في رأسها غير انها باتت تجعل الجميع يهرب منها لسبب تجهله، بدأها احمد، و الان حسام.. يبدو انها تسيء التصرف بشكل ما فنبذها اصدقائها..
اقتحمت الغرفة تبكي قابلتها سما محتضنة تربت على شعرها بلطف تجيبها على سيل الأسئلة بأبتسامة متفهمة..
_ لان حسام ليس اخوك الحقيقي يا حبيبتي..
_ لكنه اخو شهد، هذا ليس عادلا !!
.. بصوت متحشرج نددت شمس الغاضبة.. وضحت سما بسعة صدر مبتسمة لأبنتها العصبية..
_ شهد اخته بالرضاعة، حينما كانا رضيعين كانت سعاد تطعم كلاهما من حليبها، و في كل مرة كانت شهد تشبع حتى تنام.. بذلك صارت اخته.. انت اخته أيضا لانكما أقرباء، لكن بطريقة حسية و معنوية، ليست شرعية.. حينما تكبر الفتاة يجب ان تصون عفتها بالحفاظ على نفسها.. سيكون خطاءا يغضب الله لو حدث تلامس مباشر او مقصود بين بنت و ولد ليسا اخوين بالدم او الرضاعة.. وهو نفس السبب الذي يجعل والدك يرفض بشكل قاطع ان نرتاد مراكز التجميل ممن يعمل فيها مصففوا الشعر من الرجال.. لا يجوز ابدا عزيزتي الا في الحالات الطبية الاضطرارية، او بعض الحالات الطارئة الأخرى.. و هذا يعد تكريما من الله للنساء، لصيانة عزتها، و الحفاظ على كرامتها.. و هذا أيضا يدعى جهاد النفس، أي اننا نجاهد نوازع انفسنا للتخلي عن أمور نحبها او نريدها بشدة و ذلك ارضائا لله و التزاما منا بشريعته بكافة مجالات الحياة..
.. تسائلت شمس مجددا بعد ان اثار الكلام فضولها..
_ ما الخطأ الممنوع في ذلك انا لا افهم ؟ انا اعتبره اخي وهو كذلك..
.. بأبتسامة سما و رقتها المعهودة اجابت ابنتها البكر..
_ هذا صحيح، كلاكما اخوان.. هذا ما تشعران به اتجاه بعضكما لكن في الحقيقة انتما لستما كذلك.. النوايا الطيبة موجودة بشكل مؤكد حبيبتي، لكن أيضا هنالك الشيطان، و من اجل هذا علينا تحصين انفسنا من همزاته بذكر الله دائما و الالتزام بتنبيهاته.. انت الان صبية جميلة بدات تخرج من قشرة الطفولة، كذلك حسام.. هو في الحادية عشرة الان، و قد اقترب من سن البلوغ.. أي انه ودع فترة الطفولة سائرا نحو بداية الشباب.. كلكم الان تمرون بفترة اسمها سن المراهقة، وهي فترة انتقالية صعبة على من بعمركم لكونكم تشعرون انكم عالقين بالمنتصف.. مرة أطفالًا مندفعين ببراءة، و مرة كبار بمشاعر غريبة تجعلكم متقدين بدون ان تفهموا ماذا يحدث معكم.. الأكيد ان في هذه الفترة انكم تحتاجون الى التركيز و اشغال أوقاتكم بنشاطات مفيدة لجعل اذهانكم صافية غير مشتتة بدون تبديد طاقة تلك الفترة الجبارة بأمور و أشياء غير صحيحة.. انت و حسام و احمد وشهد و صابرين، جميعكم تمرون بنفس المرحلة، نفس الحالة من التخبط.. و هنا يأتي دورنا نحن الاهل للأخذ بيدكم لكي تعبروا الى الجهة الثانية من خط الحياة بدون أي عرقلة او هبوط.. ليس سيئا ان نخطئ، لكن السيء ان لانتعلم من الخطأ.. و ليس عيبا ان نسأل، لكن العيب ان نغض الطرف عن الصح و لا نلقي بالا بالاصول و الأهم، ان نعرف من نسأل.. لذلك انا فخورة بك اكثر لانك اتيتني سائلة لتفهمي الامر..
.. تنهدت و هي تمسح على شعر ابنتها غير مصدقة انها كبرت لهذا الحد، مع وخز خفيف من تأنيب الضمير لشعورها انها اهملتها الفترة السابقة.. همست بحب..
_ اعترف انه في بعض المرات يترك الاهل أولادهم بحالة من الحيرة، فهم يعاملونهم كالكبار و ينتظرون منهم ان يتصرفوا وفقا لذلك من تلقاء انفسهم بدون ان ينتبهوا للزعزعة و التشتت في نفوس أولادهم خلال تلك الفترة من عمرهم و لا حتى يبذلوا جهدا لتعليمهم و توجيههم بشكل صحيح و ملائم مع اضطراب تلك الأوقات.. فلا هم أطفال لانهم ببساطة لم يعودوا يشعروا بذلك، و لاهم بالغون و أيضا لانهم لم يشعروا بذلك بعد.. هنالك فجوة حسية يسقط الكثيرون من خلالها اثناء سيرهم نحو حياة الكبار.. و هنا قطعا يكون التقصير من الاهل، على اختلاف اشكال هذا التقصير؛ عمل، مرض، لهو، عدم مبالاة.. كله يعطي نتيجة واحدة غير صحيحة.. ما اخبرك به حسام دليلا قاطعا على احتواء اهله و تفهمهم لتطوراته العمرية و الجسدية بأفهامه و تعليمه لتنشأته بشكل مثالي.. و هذا طبعا ليس غريبا على سعاد و فواز.. و بالنسبة لك يا اميرتي الغالية فأنا اعتذر منك.. اعتذر لانني تغافلت عن ما تمرين فيه في هذا الوقت، و ممتنة لحسام لانه كان سببا بفتح هذا الموضوع بيننا..
.. ابتسمت سما بأتساع يملئها الفخر بذلك الشبل الشهم.. اردفت براحة..
_ و لولا تربية هذا الرجل الصغير الصحيحة لما تسائلت اميرتي.. و الان، دعيني اخبرك بما سوف يطرأ على جسدك من تغيرات وشيكة و كيف يجب ان تحافظي على نفسك و عفتك لتزهري كأنثى عزيزة بعد ان كنت جنبدة ناعمة بغصن الوردة، يا وردتي الغالية.. انت كوردة بيضاء، لن تسمحي ان يقطعك احد.. في غصنك انت اجمل.. من يستحق، انثري عليه عطرك الفواح و دليليه بين نعومة بتلاتك.. لاتفرطي بتماسكك ابدا، لن تكون الوردة خلابة ان كانت ذابلة، او ساقطة الأوراق، او مكسورة الغصن..
استمرت كلمات أمها تطرق برأسها طوال الأشهر اللاحقة لتفهم أخيرا أسباب اعراض احمد عنها.. امتلئ قلبها البريئ غبطة، لانه لم يبتعد كارها، بل محبا مثلها تمامًا.. فسرت على هوى نفسها حالته و أخرجت درا مكنونا من كلام والدتها وضعته بمقارنة مع أفعال والدها بطريقة حبه المجنونة لأمها.. و الكثير من الذكريات الضبابية عن ماكان الاب لا يتحفظ بفعله امام ابنته لكونها طفلة لاتفهم، ناسي انها ترى، و لاحقا سوف تشعر، وتتذكر.. سحبتها تلك المقارنات و الذكريات الى حافة الجرف، ببروز مشاعر قوية عرفت انها لا تمت للاخوة و الصداقة بصلة.. ميزت احساسها بأحمد عن ما تحسه نحو حسام، فرق شاسع يمكنها تبينه بسهولة ألان.. قررت ان تتركه على راحته و لن تعاود الاتصال به، تفكر بمفاجئته بعيد ميلاده الخامس عشر.. حضرت هدية مميزة اختارتها بعناية تتأمل ان تجعله يفهم انها باتت تعلم.. تشعر بسعادة لا تضاهى لكونها دخلت عمر البلوغ، بشرى سارة اخبرها بها جسدها قبل شهرين من الحدث السعيد، عيد ميلاد احمد.. خطت كلمة احبك بالقلم الأحمر اللماع خلف بطاقة أعدتها بيديها رسمت عليها قلوبا و زخارف لونتها بألوان زاهية.. يرقع قلبها بوتيرة سريعة و هي تنظر للصورة الوحيدة التي تجمعهم مع بعضهم التقطها لهم إيهاب في احدى تجمعاتهم.. ابتسمت بحب يلوح الفرح في عينيها، فغدا سوف تخبره.. كتبت كل شيء برسالة طويلة اعادت كتابتها عشرات المرات، مرة لخطئ املائي، ومرة لان الكلام ساذج، و مرة لعدم وضوح الخط بسبب ارتجافها من فرط الحماس.. اخبرته انها تسامحه على ابتعاده، احترمته اكثر و سوف تنتظره حتى يكبران.. هذا ما اخبرتها به أمها عن شرعية العلاقات، يجب ان تكون برباط مقدس معلن، و شددت على أهمية الإعلان.. اخبرته انها الان فقط فهمت إصراره على إخفاء صداقتهم عن الجميع، لانها مميزة بالنسبة اليه، كان خائفا من انكشاف مشاعره نحوها.. تنهدت بأرتياح و هي تدس البطاقة و الرسالة مع الصورة في الظرف، ثم اخفته تحت مخدتها تحلم بالغد ليته يأتي بسرعة..
دفع نديم الغطاء عنه بهدوء و نهض يبحث عن زوجته.. تفحص غرف بناته من خلال الشاشة الصغيرة الموضوعة على منضدة السرير ليعقد حاجبيه لعدم وجودها هناك كما تصور.. تحرك بخمول وهو يفرك رأسه مبعثرا شعره ليطرد النعاس فالساعة تشير الى الثالثة بعد منتصف الليل.. تنبه للضوء المنير القادم من تحت عقب الباب لغرفة جعلوها للمعيشة.. دفع الباب بروية يطل بعينيه وجدها تقرأ كتيب تعليمات جهاز شفط الحليب بتمعن ! جلس بجانبها وهو يتثائب، تحدثت هي بتبرم..
_ تاليا أشادت بهذا الشيء ! لكنني اجهل طريقة استخدامه، و اعتقد انه مؤلم.. مضطرة سوف اجربه، كيف سأعود للدوام في الشركة الأسبوع القادم دون ان اجد طريقة مناسبة لرضاعة قمر؟ لا اريد ان اسقيها حليبا صناعيا..
.. سحب الكتيب من بين يديها و شرع بقرائته بالكاد يفتح عينيه.. اعترضت هي و طلبت أن يعود الى النوم ولا يتعب نفسه، يكفيه ما يكابده في العمل لتجعل قمر لياليهم طويلة ترغم والدها على السهر معها طويلا لتعلقها الشديد به، اتمت عامها الأول قبل عدة أيام فرأت سما انه من المناسب ان تعود الى عملها أخيرا.. لتبقى مشكلة الحليب بالوسط..
دمدم نديم بنعاس و هو يضع سبابته على شفتيه..
_ هشش.. اصمتي يا بنت دعينا نركز..
.. ابتسمت بحب و ضمت نفسها اليه ملقية رأسها و حياتها بأيامها و لياليها على كتفه.. اغمضت عينيها يغمرها الأمان و الاطمئنان لحبيبها نديم نعم السند.. شريط ايامها معه منذ البداية يمر بالبطئ في بالها تعرض صور من رحلتهما معا تحت جفنيها المطبقين.. لقائهم الأول بما جاء فيه، فهمها له بشكل خاطئ ثم انجذابها اليه بعد ان عرفت جانبه الجيد.. لم تكن تعلم ان بدايتها معه لم تكن حبا ابدا، كان تعلق بصورة بديلة لذلك الدليل الاصلع الذي حفز مشاعرها لتعرف لاحقا انه لن يكون اكثر من صديق.. ثم توالت الاحداث تجر معها مشاعر، مشاعر عذرية لحب تفتح في قلبها ناحيته بمرور الوقت، حتى قبل ادراك كليهما ان الاخر هو توأم الروح.. حبيبها الأشقر كان مقدرًا، مثل ما كانت هي له مقدرة.. زرع الله الحب في قلوبهم ليعمر ما فيها من خير توارى خلف المارد في نفس نديم، و شعور بالاهمية انكرته سما على نفسها.. وجدا بالاخر ما يكملهما، و يجمل برباطهم ملامح المستقبل..
توسعت ابتسامتها وهي تندس اكثر فيه تشكر القدر ممتنة لرفيق الطريق..
فتحت عينيها تتنهد بضيق من وخز صار مؤخرا مرتبطا بكل وقت سعيد تقضيه مع حبيب الروح.. خائفة بطريقة لا مبرر لها من أن تنزلق قدمه بمنعطف الخيانة.. لا تعرف كيف ستتصرف فيما لو حدث الامر، كأنه تحصيل حاصل ستمر فيه شائت ام ابت.. هل سوف تتظاهر بعدم المعرفة كما كانت تفعل سابقا ؟ ام سوف تتبع سلوك تاليا مع زوجها تتصنع أنها على غير دراية بما يحدث خلف ظهرها لانها أن واجهت لا يمكنها الاستمرار.. أكبر صدمة تلقتها في حياتها هي صدمتها بخيانة ايهاب المهذب اللطيف لتاليا، صدمة زحزحت كتل ثقتها المطلقة بنديم أكمل عليها زلزال الصدمة معرفتها بوشوك سقوط فواز بذلك الشرك.. هل هي لعنة ما يصاب بها كل الرجال مثلاً ؟! ام انه داء يسبب العدوى ما أن يلتقطه واحد حتى يتفشى بين الجميع ؟! ما زاد الطين بلة استماعها لشكاوى السيدات في كل مرة تزور فيها مركز التجميل.. قصص مخزية ترويها زوجات منكوبات أو اخريات يتناقلن اخبارا عن تلك و ذيك.. واحدة حاولت سرقة زوج فلانة، و أخرى نجحت اصلا.. في كل مرة يسقط شيئا من جدران عالية من ثقة شيدتها على مر السنين بدون لحظة شك واحدة بزوجها الحبيب.. حدث هذا عقب خلل ضرب ثقتها بنفسها، وزنها الذي بداء يزداد بطريقة غريبة، بطنها التي ترهلت بشكل تراه هي بشعا بعد ولادتها القيصرية بقمر.. تشعر من الداخل انها بداءت تكبر، جمالها المرهون بشبابها بتناقص، بينما نديم يزداد وسامة اكثر كلما تصاعد بالعمر.. شعره الفضي اخذ مكان الخصل الشقراء بتماه يذيب القلوب، بمقدمة رأسه و لحيته.. ماذا عليها أن تفعل حينما تستمع لتغزل الشابات العشرينيات بالرجال من تخطوا الأربعين؟! و زوجها الوسيم الجميل على اعتابه !! رباه، اي عذاب هذا عليها أن تتعايش معه و تتصرف بمرونة لتخطيه.. أزمة منتصف العمر.. لم تكن تفهم ما تعنيها حين كانت تسمعها.. لتعرف الآن أنها ليست الا زعزعة قلق و زعزعة ثقة بالنفس عند النساء، و توهان عاطفي لا ارادي يسطل الرجال !
تتذكر دموع تاليا و كلامها حول دوافع الخيانة.. لم تقتنع نهائيا أن لإيهاب سبب، لكنها لم تفصح بذلك لكي لا تجرح تاليا مع ادراكها و يقينها أنها أساسا تعلم، لكنها تقنع نفسها أنها المذنبة لالتهائها عنه بأطفالها.. شجعتها على المضي قدما و الحفاظ على بيتها بوضع اطفالها الخمسة بالاولوية، حتى حملت بطفلها السادس.. عندها صارحها ايهاب بخطئ وقع فيه واعدا اياها بعدم التكرار.. ندمه الواضح جعل سما تبرد قليلا من ناحيته، و تشجع تاليا في تلك المرة من عمق قلبها عن اقتناع حقيقي.. لتصدم بعدها بخبر طلاق آية ! و السبب كان الخيانة..
ابتلعت ريقها بخوف فتصرف آية رغم قسوته و صعوبته الا انه ارضاها بشكل ما، اشعرها بالخفة و الزهو.. على الاقل احداهن قطعت دابر الاستهانة.. تعرف الآن تمام المعرفة أن الفراق مصير علاقتها مع نديم فيما لو وقع هو.. لن ترضى بحل تاليا و لن تتغاضى كما نصحت سعاد.. لن تفعل هذا بنفسها مجدداًً..
اعادها صوته الخدران الى جلستهم الحميمية تتوسد هي صدره.. رفعت نفسها تطالعه بهدوء بينما يشرح لها طريقة استخدام الجهاز يعرض عليها أن يساعدها على تركيبه لها لكي يريها كيف تستخدمه.. رفضت و هي تحكم لف الرداء حول جسدها مطأطأة رأسها لتهرب من عينيه فاهم هو خجلها منه بسبب شكل بطنها و انزعاجها الكبير من الخطوط البيضاء و الوردية على كامل جلدها من بداية صدرها حتى منتصف ساقيها.. لم تعد ترتدي ملابس نوم قصيرة أو مفتوحة منذ وضعت قمر.. حتى اثناء العلاقة الحميمة لابد ان تكون في الظلام، و شرط لازم تحت الغطاء.. تفهم كبير اولاه لها لا يمكنه التفريط براحتها.. بكل ما فيه من عشق لها يداريها و يدللها.. الا أن ضغوطات العمل تجبره احيانا أن يغيب طويلا عنها أو يبقى مشغول البال حتى لو كان بقربها.. يكاد يجزم أنها تمر بحالة من التخبط لذلك شجعها على العودة الى العمل رغم امنياته الكبيرة لو تترك كل شيء و تبقى في البيت من اجل راحتها و من اجل بناتهما.. لكنه اسر المنى في نفسه و حباها بكامل الدعم..
قربها منه يشدها بذراعه حول ظهرها إلى صدره وهو يقبل رأسها يطلب منها بصوت خافت أن يعودا سويا إلى النوم.. ابتسمت براحة و شددت من احتضانه عرف انه ليس بقصد موافقتها على طلبه أو شكرها له فقط.. فما مرره له انتفاض قلبها اخبره أنها خائفة، مضطربة، قلقة من شيء ما.. لم يسأل، سوف يكثف المداراة و يضاعف التدليل.. يعلي ثقتها بنفسها بالبذخ في الغزل، و الكرم بالتودد.. هذا كل ما تحتاجة زوجة تعاني من هزة معنوية.. وقد أصاب بدون شك..
ليلة جميلة جدا غفت فيها سما دافية متنعمة في احضان نديم تاركة مخاوفها جانبا لن تسمح لتلك الوساوس تسميم حياتها.. و كم كانت على صواب هي الأخرى..
ثوابت لا خلل فيها.. ثقة مطلقة بأتباع اساليب غير مكلفة.. محبة خالصة فقط و ايثار الاخر على كل نوازع النفس.. وهب الحنان و التمسك بالسلوك السلس.. تفهم حتى مع عدم وضوح الأسباب، بوضع الايجابيات القديمة بمقدمة سلبيات الحدث الجديد..

لقد وصلت إلى نهاية الفصول المنشورة.

⏰ آخر تحديث: Feb 28 ⏰

أضِف هذه القصة لمكتبتك كي يصلك إشعار عن فصولها الجديدة!

حكاية حياة.. الجزء الأول من سلسلة ( لنا في الحياة.. حياة ) حيث تعيش القصص. اكتشف الآن