قال لهُ الرجل: مرحباً بك في السوقِ الكبير.
تلفت آرثر ينظرُ حولهُ مستغرباً، لم يزر هكذا مكاناً قط، راح يتمشى ويتجول وينظرُ لكلِّ شيءٍ باستغراب، خضارٌ ومستلزماتٌ منزلية تُباع، هناكَ أيضاً بعضُ الأدوات، البائعون يصرخون بأعلى صوتٍ للتدليل على البضاعة، الناسُ كالنملِ يحومون في الأرجاء، كلُّ ما رءاهُ آرثر كان غريباً بالنسبةِ له، وبما أنَّهُ غيرُ معتادٍ على التجمعاتِ البشرية فقد شعر بالرهبةِ بعضَ الشيء.
بعد قليل من التجوالِ وقف الرجلُ مقابل حانةٍ ما قائلاً لآرثر: وصلنا أيُّها الشاب.
دلفا تلك الحانة سوياً... كانت فارغة بعض الشيءِ مما دفع آرثر للارتياح، سأل آرثر الرجل: لماذا لا يوجدُ أُناسٌ كثرٌ هنا؟ أقصد المحلُ شبهُ فارغ!
أجاب الرجل: هذا مرتعُ قطاعِ الطرقِ والجواسيس، لا أحدَ سيفكرُ أدنى تفكيرٍ بالقدومِ لهذا المكان؛ إلم يكن لهُ عمل.
جلسا سوياً على الطاولةِ عند نادلِ الشرب، سألهما فيما إذا كانا يريدانِ شيئاً، أجاب آرثر: عذراً لا أملكُ المال، ولا أشربُ أيضاً.
تفهم النادلُ الأمر ودنا قليلاً ليتهامس هو والرجل، فأخبرهُ أنَّ آرثر صديقٌ لهُ وهو يبتغي مساعدته، وسألهُ فيما إذا كان هناكَ من طريقةٍ لإيصالهِ للجمهورية، فأشَّر النادلُ بيدهِ لإحدى الطاولات، مما جعل الرجل يؤشِّرُ بيده لآرثر كي يتبعه.
ذهبا سوياً للطاولة التي دلهما النادلُ إليها، كان عليها رجلٌ وفتاةٌ تبدو في العشريناتِ يلعبانِ الورق، تقدما قليلاً وفوجئا بصراخها عالياً: أيُّها المعتوه! إن كنتَ لا تعرف كيف تلعب فلا تأتي وتتحداني، فلتذهب للجحيم ولكن قبل هذا أريدُ نقودي.
جاء شابٌ ما إليها يبدو أنَّهُ من عُصبتها حاول تهدِئتها قائلاً: آنسة ستيلا لا يجبُ علينا إزعاجُ الناس! على رِسلكِ أرجوك!
تقدم الرجلُ الذي برفقةِ آرثر ليقف بمحاذاتها ورفع يدهُ يلقي التحية، رمقتهُ بنظراتها المتعجرفة كما هي تماماً أما آرثر فوقف يتأملها عندما اقترب رفقة الرجل، فتاةٌ لا شيء مميز فيها، تبدو كأنَّها قاطعةُ طرقٍ بسببِ ملابسها الرثة، شعرها مجعدٌ أشقرُ ليس بطويلٍ ولا بقصير، عيناها خضراوانِ حادتان، بالنظرِ لها مطولاً قد تجدُ أنها جميلةٌ، لكن بالجلوسِ والتحدثِ معها فقد تعدلُ عن هذا وتنفرُ منها.
قالتِ الفتاةُ مخاطبةً الرجل بعدما أشعلت سيجارتها وارتشفت منها: جوزيف أليس كذلك؟ لقد انتظرتك طويلاً... تفضل بالجلوس.
جلس جوزيف قبالتها، همَّ آرثر بالجلوسِ بجانبهِ فاستوقفتهُ خناجرُ اثنينِ من الشبَّان كانا بجانبِ الطاولة، تشنجَّ آرثر قليلاً عندما تفاداهما فقد كانا قريبين للغاية، أحدهما عند عنقه، والآخرُ عند معدته، حركةٌ خاطئة وسيكونُ في عدادِ الموتى، صرخ جوزيف: إنَّهُ مرافقي وليس بغريب، أرجوكِ اصفحي عنه
!ارتشفت ستيلا من سيجارتها القليل ثمَّ قالت له: منذ متى ترافقُ المسلحين يا جوزيف؟ ألم تعد تأمنُ نفسك؟ ثمَّ نظرت لآرثر وسألته بحدة: من تكونُ أيُّها الشاب؟
أجابها آرثر: أدعى آرثر... عسكريٌّ هاربٌ من جيش الإمبراطورية برتبةِ نقيب، أنا برفقةِ جوزيف لأنَّهُ أخبرني بأنَّهُ يعلمُ كيف أصلُ للجمهورية...
رمقت ستيلا آرثر بنظراتها الحادةِ الجافة مجدداً، تنهدت وارتشفتِ القليل من سيجارتها ثمَّ قالت: تريدُ الذهاب للجمهوية؟
أجابَ آرثر بثقة: أجل!
سألته: وما الذي تنوي فعله هناك؟
أجاب بثقة: أريدُ قتل الضابطِ نيكولاي
عندها انفجرتِ ستيلا ضاحكة، ضحكت ضحكةً قد صدح صداها حتى خارجِ الحانة، كانت تضحكُ بشدة وبقيت هكذا حتى آلمتها معدتها، راحت تمسحُ دمعها بيدها وقالت مقهقهة: أنتَ تريدُ قتل نيكولاي؟ قهقهت بخفة ثمَّ تابعت: يا رجل ليس لديكَ أيُّ فرصة!
هدأت قليلا ثمَّ تابعت: لكن بما أنَّكَ مصر وجوزيف إخباريٌّ جيدٌ لنا فسأحقق منالك.
ابتعد الشابان اللذانِ كانا مثبتين لآرثر بخناجرهما؛ مما أتاح لآرثر فرصة للتنفس براحة بعد أن كان متشنجاً.
استقامت حينها ستيلا من مكانها وتوجهت للرجلِ الذي هزمته في لعبةِ الورقِ تلك، وضعت قدمها على طاولته مما أفسد عليه متعة الشرب، بدأ يزمجرُ بحنق ثمَّ قالت له: أستغني عن أموالي، أسدِ لي خدمةً بدلاً عنها.
ردَّ غضباناً: ماذا تريدين؟
أجابته مؤشرةً على آرثر دون النظرِ له: أترى ذلك الوسيم؟
رمقهُ بنظراتٍ باردة ثمَّ أجابها: وما به؟
قالت له: لديك شحنةُ تهريبٍ للجمهورية، أريدك أن تعده من البضاعة، واهتم به إنَّهُ من البضاعةِ الفاخرة نظراً للمالِ الذي استُبدِل به.
همهم الرجلُ إيجاباً واستقام من مكانه، ثم قال مخاطباً آرثر: اتبعني.
تبهُ آرثر لخارجِ الحانة بعدما ودع جوزيف، ذهبا للصحراءِ مجدداً لعرباتٍ قُربَ السوق، بدأَ العبثَ بعربته فقال لآرثر وهو يعبث: أيعرفون وجهك؟ أنت مطلوب؟
أجاب آرثر: ربما فقد رحلتُ عندما كانوا في حالةِ فوضى، لكن محالٌ ألا يلاحظوا مغيبي.
سأل الرجل: من هم؟
أجاب آرثر: جنودُ الإمبراطورية.
همهم الرجلُ إيجاباً، أخرجَ ملابس رثةً من نوعٍ ما لآرثر، رماها في وجههِ قائلاً: ارتديها.
لم ينطق آرثر بكلمة، ارتدة تلك العباءة الغريبة التي أعطاه إياها الرجل، وضع غطاء الرأسِ أيضاً الذي كان كبيراً بما يكفي ليغطي جزءاً من وجهه؛ مما ترك ظلاً يمنعُ التعرف عليه، حينها أخبرهُ الرجلُ أن يجلس بجانبهِ في العربة حتى يتمكنوا من الذهاب.
وهكذا بدأت رحلة بطلنا للجمهورية، استمرت تلك الرحلةُ قرابة ثلاثِ أيامٍ سألها الصمت، فكلاهما -آرثر والرجل- انطوائيانِ عدا عن أنهما لا يثِقانِ ببعضهما حتى يخلقا مواضيعاً تُثرثَرُ فيما بينهما، وقبل وصولهما اعترضهما ثلاثةُ جنودٍ في الطريقِ يتبعُ لباسهما للامبراطورية، حاول آرثرُ الحفاظ على هدوئه، وبما أن الرجل من كان ممسكاً بسوطِ الجيادِ فتوجهوا له لمحادثتهِ كاستنتاجٍ منهم أنَّهُ هو صاحبُ العربة، رفعوا ورقةً عليها صورةُ شخصٍ ما يسألونهُ فيما إذا كان قد قابلهُ في مكانٍ ما أو يعلمُ شيئاً عنه، استرق آرثرُ النظر للورقة وإذ بها صورته عليها مع مبلغٍ ماديٍّ كجائزةٍ لمن قد يُمسِكُ به، توسعت عيناهُ صدمة، لكنَّهُ أيضاً حافظ على هدوءه إلى أن رحلوا الجنود فلم يأخذوا أيَّ معلوماتٍ تُفيدهم من الرجل.
بعد أن ابتعدوا بشكلٍ كافٍ سأل الرجلُ آرثر: يا أنت... ألديك مصلحةٌ بالعودةِ لحُضنِ الوطن؟
أجابهُ آرثر بشيءٍ من الذعر: بالتأكيدِ لا...
قال لهُ الرجل: اسمعني، لم أُسلِّمك للجنودِ رغم المكافئة لأنني لا أثقُ بهم، سيأخذونك بعيداً ولن آخذ أيَّ شيءٍ في المقابل، سنذهبُ للحكومةِ مباشرةً وأسلِّمك للقيادة، هكذا سأضمن حقي.
صرخ بهِ آرثر هادراً: أجننت؟ ماذا عن خدماتك لستيلا؟!
ردَّ الرجلُ بحنقٍ وهو يحكُ رأسه: كم أمقتُ تلك المرأة، ثمَّ نقودها قدِ انتهت منذُ الأمس، الآن أنا أوصلكَ كتبرعٍ مني، لكن لا مانع عندي من العودةِ وهناك مكافأةٌ ضخمةٌ على رأسك.
همَّ آرثر يبتغي الترجل من العربة فأمسك الرجلُ آنذاك بمعصمهِ بقوة، حينها استل آرثر سيفهُ بسرعةٍ قاطعاً يد الرجلِ بحركةٍ خفيفةٍ منه، قفز بسرعةٍ على الأرضِ فتبعهُ صاحبُ العربةِ بخنجرٍ في يدهِ الأخرى، لم يحرك آرثر ساكناً على الرغمُ من أنَّ صاحب العربةِ يركضُ نحوهُ كثورٍ هائج، حافظ آرثر على هدوءِه وعندما حانتِ اللحظة طعنهُ في معدتهِ بسيفه بكلِّ برود، مما حوَّلَ الثورَ لأفعى تتلوى على الأرض، دهس آرثر على الجرحِ الذي خزقهُ بسيفهِ حاليا أخرجه، مما دفع الرجل للصراخِ بأعلى صوتهِ متألماً، سألهُ آرثر بنبرةٍ جافية: من أينَ الطرق؟ سأتابعُ وحدي!
أشر لهُ الرجلُ على الطريق، فذهب آرثر سيراً في الاتجاهِ الذي دُلَّ عليه، غير آبهٍ بما سيحصلُ معه، المهمُ بالنسبةِ له أن يتابع هدفه وينتقم لأصحابه.يتبع...
أنت تقرأ
فراغ
Mystery / Thrillerفي زمنٍ ما كانتِ الحروبُ تُقامُ في كلِّ أوان، وذريعتها نشر الدينِ الجديدِ بين البلدان، لكنَّ هناك سبباً آخر مخفياً بين السطور، فهل سينالون مرادهم أم سنراهم في القبور؟ بطل القصةِ يحملُ سراً لا يعيه، فهل هو ضالتهم أم لديه ما يبحثون عنه؟ تنويه: قد تحتو...