"نَبض"

61 7 62
                                    

بَحلق بعَينَان متَوسِعتان نَحو الكُتلَة المُنجَرفة نَحوَه بحَرَكة بَطيئة وكأنّما تُمهِله وَقتًا ليَنفِث آخِر صَوت ، تَضارَبت أنفَاسة بين الخُروج والدُخُول ، بدَأ قَلبُه يَدق بتَسارُع مِثلَما قَد يُقتَلع من صَدره بعُنف ، رَجف جَسَده بشِدة بلَا توَقف وسُحبت ألوَان وجهِه تلاهَا بَريق عينَيه يُنتَشل مع الدَمع العَابر على وجنَتيه ، رُبطت حِباله الصَوتيَة ببَعضها ليُهمهم مُحاوِلًا النَبس بشيء بلا جدوَى ...

مرّت أمام نَاظرَيه ببُطء ثم واقتَربت مُحتَكة بالأَرض قَاذِفة معَها ريَاحًا تَسحب شَعره للوَراء مُحاوِلة إبعَاده عن الخَطر القَادم تَرمي بسُهومٍ من الحَديد المُتناثر نحوَة لتَخدِش إحدَاها تَحت عينه ، سُحبت الشَاحنَة وحَديدها يَحتك بالأَرض مُصدرًا شرَارات طَفيفة ؛ رُطمت بالمَحل المُقابل للفَتى الذي غطّى وجهَه بسَاعِديه وتَحجر مكَانه رُعبًا بينَما طرف عينِه لم يُفارق حركة الشاحِنة الّتي طَحنت شَخصًا ونشَرت دمَاءه المُتطايرة في كلّ مكان لتجعَله والمحل قطعة واحدة .

تَداعت أمام ناظِريه والتَحمَت بالمَحل أمام عينَيه ، وقَف مُتحجرًا بَين رَكض الحُشود إثْر تَخدّر قدمَاه آبيتَان الحِراك فرَمت عَليه سَيلًا من الرِياح رَعش جَسده المُتهَاوي .

سَحقت جَسدًا ضَعيفًا جَاعِلة منه قِطعَة واحدَة مع جدَار المَحل ، تَنَاثر سَائل أحمَر وبدأ يَتقطّر من علَى كَبِينَة الشَاحِنة المُهشَمة

تَوسَعت مُقلَتاه آبيتان فِرَاق بُقعَة الدِماء التي تَستَمر بالتَوسع ،هَمس بِصَوتٍ يكَاد لا يُسمع : "آن ..."شهيق"ام ...آم ...آن"شهيق"

تَضَاربت أنفَاسه بِشوائيَة وسُرعة حتى شَعر بالإختِناق وانقَطع صَوته ثُم تَجمَدت دِماؤُه ، حَاول الخَطوَ نَحو البِركَة الحَمراء فلَم يَخطو سوَا بِضع خطوَات لتَخور قَدمَاه ويَجثُو على رُكبَتاه ؛ عَلت شَهقَاته المُتقاطِعة ونَزَلَت يَداه لتَشُد على الأَرض المُبقَعة بالحُمرة ، هَوَى كل جَسده نَحو الأرض عدَا مُقلَتاه البَاحِثتان عن شَيء لطَمأنَة قَلبه المُغرَق بالدُخان أسوَد اللّون "آننن ...لا "

الدُموع تترَاما بسُرعَة وصَوته لا يَفتر النِداء بتِلك الحُروف المُتَقطِعة بَاحِثًا عن هَمسٍ من الأمَان ليَمُر حَفيف أمَام ناظِريه وكَأنما يَتعَمد إهوَال ما شَهده لتوّه غير مُكتَفيًا برُوحه التي دُمرت توًا .
..
..
..

"أحدُهما ذو بَصيص من الكرِستَال يَتخللَه خُيط ياقُوتي مُتألّق وشَعر بَاهت بُني يَقف على أطراف قَدميه بجَانِبه آخر ذو فرولَة فَحماء ولَوحة للغُروب مُتبَروِزة بعَينيه الوَاسعة ويُتَمتِم بلَذغَتة المُعتَادة : لما إيفان أتول مني !
_لأنني أشرب الحليب !

_لَكن ...سام لا يهب الهليب

_هو لذيذ ! فقط جرب

_ لا لا ، لا أهبه ! إنه سيء !

حدّق بكرستَاليَتيه نحو الأقصَر قلِيلًا ثم نَطق ببرَاءة : إيفان سيحمِيك إذًا ! أعدك ! سأحمِيك من كل شيء !

فيَضمّه إليه بوِد ليَكتفي الآخر بالصَمت الذي لَحقه إحمرَار وجنَتيه المُنتَفِختان ..."
..
..
..

ارتَفع صوت الشَهقات وانقَطعت أنفَاسه أخِيرًا بَعدما قَاومت لحَد الإنطِفاء فَقدت عينَاه البَاهتتان الأمل في رُؤية الضِياء ليَهوي رأسه هو الآخر نَحو الأرض وتَختَلط الدُموع بدِماء جُرحه النَازف ؛ تَباطأ صدى الأصوَات في أذُنيه المُستَمرتَان بالبَحث عن هَمسات الأمل ولو كَانت خافِته فلا تَسمَع غير خَطوٍ متتابِع وصَرخَات عشوَائية وشَهقه المُتَتابع يقَاطِع الأصدَاء ليَسمَع أخِيرًا شَيئًا من هَمسَات النُور المَبحُوحة
__________________________

قَدماه آبِيتان الوُقوف عن الرَكض وقَلبه يكَاد يَنفَجر نبضًا ، لَهث حتّى كَادت أنفَاسه تتَقطّع وحَدقتَاه مُستَمرتان بالبَحث عن شيء من الضِياء المُنطَفئ ، وجه قَد فَقد ألوَانه وعَينَان تأبَيان التَوقف عن النَزيف وصَوت يختَفي ببُطء إثر الصُراخ حتّى وَجدت عَينَاه نُورها الخَامد يَقترب من الإنطِفاء ...

__________________________

ضَلّ الصَدى بِذات الوَتيرَة غَير حَامل لأي رُوح حتّى التَقطت أذنَاه أخيرًا ذَلك الهَمس المُختَلط بالقَلق والفَزع :
"سااام ...سااام"
كان يصرُخ حتّى كادت حبَاله تتمزَق ليَرفع الهَامد نَاظريه نَحو الصَوت وقَد لَمع شيء طَفيف في طَرفه المَيت ، حَاول رفع نَفسه وقَد استَعاد نَفسًا طَفيفًا إلى رئتَيه ، ازدَادت شَهقَاته أكثر وأعلوّت صوتًا ليَصرخ بصعُوبة : فااان ....إيفاان
فيَنقطِع صوته تَابعًا نَفسه المتَقطّع ...

ركض نَحوه وضمّه إلى صَدره الحَاني بشِدة بَينما الآخر غير قادر على التَنفسّ حتى واكتَفى بالشهيق في صَدره الدَافئ ليَهمِس بِعصوبة : لا ...تمت ... لا تمت ...أرجوك

بَحلق إيفان نَحوه وشدّ على الحِضن شاهقًا وعيناه لم تكتف من نزف الدمُوع ذابِلتا المَنظر ثُم نَطق بِصوت حَانٍ : لن أموت ... أعدك ... إسمع ...لا أزال حيّا !

قالها بتقطُع بينَما الآخر آبٍ ترك صَدر إيفان كي لا يَفقد الإطمئنان اللاحق بنَبضه وكأنما وجد أخِيرًا الأمان بعَدما ضَاع لوَهله
_إسمع ..."شهق" لا يزال يَنبض ..."شهق"أنا بخير إهدأ

شدّ سام على حِضن إيفان مُحاولًا التخَلص من رَجفَته حتّى يُحافظ على الأمان الذي حَصل عليه توًا ...

بَقيا على ذات الحَال ولا يَصدر منهما غير الشَهقات والبُكاء ، لتوّه ظن أنه شَهد مَصرع صَديقه وبدأت الدُنيا تَرمي بضبابها علَيه ليأتي إيفان يَقشع ذلك الغَمام .

حضرت سيارة الإسعاف واطمأنت عليهما ، كلاهما بخير غير الخَدش تحت عين سام ، أخذا بعض العلاجات لتجاوز الصدمة التي صادفاها توًا ثم توجها لمنزل إيفان ،لم يقبل سام بفراقه دقيقة واحدة بعدما رآه وكأنما أصبح يخاف تبخره من أمامه فجأة
..
..
..
..
إذا مَاتَت أروَاحُنا فَلن نَمُوت ، لكن إذا مَات حَاضِنُوها فلن نَبْقَى ...

هذه القصة بلا عنوانحيث تعيش القصص. اكتشف الآن