بعض الكلمات تكون بجنبها هذه العلامة(*)
تجدون في اسفل الصفحة المعاني لها.
______________________________وكانت مصر يومئذ أثمن درة في تاج الخليفة، يباهي منها بما يملك لا بما يحكم، فليس يعنيه من أمرها إلا مقدار ما يؤدَّى إليه من خراجها* وما يهدى إليه من طرائفها، وكذلك كان اعتبارها في أعين من يتقلدها من الولاة، فهي عندهم ضيعة للاستغلال، لا شعب يقتضي حسن الرعية، فليس همهم منها إلا ما يجمعون من مال الخراج، يؤدون منه ما يؤدون إلى الخليفة، ويتبقى لهم بعد ذلك من فضل الغَلَّة ما يحقق لهم الغنى والجاه والسيادة، ومنهم من لا يعنيه من ولاية مصر إلا لقب الإمارة …
فكان الوالي إذا قلده الخليفةُ مصرَ يلتمس نائبًا أمينًا يكفيه أمرها ويحمل إليه من ثمرتها، ويظَلُّ حيث هو في الحضرة* (سامرَّا)، يباهي بإمارته ويدل بجاهه، وأمرُ مصر كله إلى نائبه هناك …
على أن المصريين يومئذ لم يكونوا من ضعف الهمة، بحيث يرضون لأنفسهم هذه المكانة، فلم يكن الأمر ليستقيم طويلًا لواحد من أولئك الولاة في مصر، وكانت ثورات المصريين على ولاتهم لا تكاد تهدأ، على أن هذه الثورات المتتابعة لم تكن من القوة بحيث تستطيع إحداث تاريخ جديد، ولكنها مع ذلك كانت إرهاصًا* لأمر قد أظلَّ أوانه …
في هذه الفترة من تاريخ مصر كان باكباك التركي هو السيد الآمر في قصر الخليفة المعتز، وكان إليه الأمر كله، ولكنه يطمع في مزيد من الجاه، فسأل الخليفة أن يشرفه بولاية مصر، فولَّاه فراح يلتمس النائب الأمين الذي يخلفه على تلك الضيعة.
وكان ابن طولون قد بلغ تلك المنزلة فأنابه باكباك …
••••••••
صاح المؤذن، وقد اختفى حاجب الشمس وراء الأفق الغربي: «الله أكبر …» فابتدر الأمير وجلساؤه إلى قصعة فيها تمر رطب، ثم دارت عليهم أقداح الحليب فشربوا ورووا، ومسح الأمير فمه وتلا في صوت خشعت له الجماعة: «الحمد لله الذي هدانا لهذا، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله!» ثم دعا: «اللهم لك صُمْت، وعلى رزقك أفطرت، وبك آمنت، وعليك توكلت …
اللهم فاجعلني في المقبولين من عبادك، ووفقني في أمر هذا البلد لرضاك، وأحسِنْ رعيتي في خَلْقِك، فإنه لا إحسان إلا ما أحسنت، ولا هداية إلا ما وفقت، يا أحكم الحاكمين!»
وأمَّن جلساء الأمير على دعائه.*
ثم انتدب من بينهم فقيه أهل مصر ومحدثهم أبو عبد الله محمد بن عبد الحكم المصري* فقال: «بلَّغك الله سؤلك أيها الأمير وأنعم بك، إن هذه أمانة من أمانة الله في عنقك، وقد وليها قبلك أمراء، منهم البَرُّ والفاجر، والأمين والغادر، أما البَرُّ والأمين منهم، فكان للخليفة بره وأمانته، ليس للأمة من ذلك نصيب، وأما فجور الفاجر وغدر الغادر، فكان للأمة من كليهما نصيبها، وللسلطان نصيبه، فعلى الأمة المَغْرَم في الحالين، وإنما نحن وفد هذه الأمة إليك، وقد سبقتك إليها أنباؤك، فاستبشر عامتها وخاصتها بمَقْدَمِكَ، وإنها لترجو على يديك الخلاص من فساد الحكم، وجَوْر الملتزِم* وطماعية عمال السلطان، فإن فعلت فقد قرت الأمة بك عينًا، وإلا فالله وليها* فيما تأمل، وحسْب المؤمن ربه.»
قال الأمير: «نفعل إن شاء الله يا أبا عبد الله، وإن لي عليك شرطًا ليتهيأ لي تحقيق ما التزمته: أن تكون أنت ومن معك عينًا عليَّ وعونًا لي، فأيُّمَا عملٍ رأيتَ أو رأى أصحابك فيه حيادًا عن الجادَّة* فاكشف لي عنه، فإن ذلك حقيق بأن يبصِّرني موضع خُطَاي إذا ضللتُ سواء السبيل.»
وبايعه الجلساء على ذلك، ثم نهضوا جماعة لصلاة المغرب قبل أن يجلسوا إلى مائدة الأمير يستتمون فطور الصائم.
ومدت الموائد للعامة في قصر الأمير وعلى جنباته، ونادى منادي الأمير في الطاعمين: «كل من أفطر على مائدة الأمير الليلة، فله على الأمير حق أن يحضر مائدته في كل ليلة، وله حق عياله وشَمْلِه* فيما بقي من الطعام، يحمل منه إلى داره ما يشاء.»
وأقبل الناس على طعامهم راضين هانئين، ثم صدروا عن دار الأمير في يد كل منهم سفرة لعياله، وبينه وبين الأمير ميعاد على مائدته.
وصار ذلك شأن الأمير كل يوم في رمضان، ثم كل يوم بعد رمضان.
ومَثَلَ بين يديه صاحب صدقاته، فقال: «يا مولاي، لقد بلغت نفقات مطبخ الأمير في اليوم ألف دينار، وبلغ ما دفعناه إلى المُعْوِزين من مال الصدقة ألفين في ساعات من النهار!»
قال الأمير: «لا عليك من ذلك، إنما هو مال الله، استودَعَنَا إياه لأهل عارفته* فلا تقبض يدك عن البِرِّ بأحد.»
قال: «أيَّد الله الأمير، فإنا نقف حيث جرت العادة بتوزيع الصدقة، فربما امتدت إلينا الكف المخضوبة، والمِعْصَم فيه السِّوار والكمُّ الناعم، أفنمنعها أم نعطيها؟»
قال الأمير: «ويحك! هؤلاء المستورون الذين يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف، احذر أن ترد يدًا امتدت إليك.»
وذاعت في العامة أخبار الأمير أحمد بن طولون، وتحدث الناس بألطافه وبره وعفته وتقواه، وروى راويهم ما عرفه عنه في طرسوس، وأخبر مخبرهم بما سمع عنه في سامرَّا،
وقال قائلهم: نعم الأمير أبو العباس! وقال السامع: يا ليتها دولة تدوم.وعاد الصدى إلى أحمد بن طولون بما يتحدث به الناس عنه، فاعتقده بيعة له بالإمارة على مصر لا ينقضها السلطان، وأجمع أمره على أمر …
_________________________________
١١ الخراج: الضرائب.
١٢ الحضرة: العاصمة.
١٣ إرهاصًا: علامة.
١٤ أظل أوانه: حان موعده.
١٥ قالوا: آمين.
١٦ محمد بن عبد الحكم: عالم من علماء مصر له كتاب مشهور في التاريخ.
١٧ الجور: الظلم، والملتزم: هو الشخص الذي كان يلتزم للأمير بأن يجبي له الخراج
.١٨ الله يتولى أمرها.
١٩ انحرافًا عن الطريق.
٢٠ شمله: جماعته.
٢١ الذين يستحقون المعروف.
أنت تقرأ
قطر الندى ✔
Historical Fictionفي موكب لم تشهد مثله بلاد، ولم تعرف مثل عجائبه عروس؛ زُفَّت «قطر الندى» ابنة الوالي «خمارويه بن أحمد بن طولون» من «مصر» إلى «بغداد» زوجةً للخليفة «المعتضد»(خليفة الدولة العباسية آنذاك)؛ وذلك بعد أطماعه بالاستحواذ على خراج «مصر» كاملًا والقضاء على ال...