(3): أحمد بن طولون

1.5K 55 1
                                    

بعض الكلمات تكون بجنبها هذه العلامة(*)
تجدون في اسفل الصفحة المعاني لها.
________________________________

وسارت الحوادث متتابعة في سامرَّا، فقتل الخليفة المعتز وبويع المهتدي بالخلافة، ثم قتل باكباك، وآلت إمرة مصر من بعده إلى يارجوخ التركي صهر ابن طولون، فأقره على ما في يده وبسط له الرقعة* فامتدت ولايته إلى الإسكندرية والصعيد وبَرْقة* …

واستمرت الحوادث تتتابع في الدولة، فقُتِل المهتدي، كما قتل المعتز من قبله؛ وتعاقب الخلفاء على عرش الدولة العباسية يقتل بعضهم بعضًا، أو يقتل الأتراك بعضَهُم بأيدي بعض، وابن طولون في مصر يدبر ما يدبر لأمره، فلم تمضِ إلا سنوات حتى كان له في مصر عرش وسلطان …

وكان على الخراج في مصر عامل* من قِبَل الخليفة «المعتمد» لا يُؤتَى من قريب* قد اجتمع له من موارد مصر ما لم يجتمع لأمير قط، وإنه لَيَفْتَنُّ كل يوم فنونًا في تحصيل المال، حتى لقد فرض ضرائب على الكلأِ المباح* ومصايد البحر، وصخور البرِّيَّة!

وكان على البريد كذلك عامل* من عمال الخليفة لا سلطان عليه لابن طولون، فلعله يرفع من أخبار مصر إلى الخليفة في بغداد ما لا يعلمه الأمير في مصر …

فماذا بقي لابن طولون من موارد مصر، وعلى الخراج عامل الخليفة؟ وكيف يأمن الغِرَّة* وعامل البريد مطويٌّ على سره؟

وراح ابن طولون يدبر لأمره ثانية ما يدبر …
ومثل بين يديه وفد من أهل مصر، يشكون إليه سوء ما يَلْقَوْن من عامل الخراج، ورآها الأمير فرصة سانحة لما يرجوه من أمر، وتدانى إليه الأمل فقال وفي صوته رقة: «ودِدْتُ لو كان الأمر إليَّ، إذن لأبطلت عنكم كثيرًا مما تحملون من المغارم.»

قال محمد بن هلال المصري، وكان رجلًا له فيهم خَطَرٌ ومكانة: «فإن الأمر إليك يا مولاي، لو شئت لكان، وإنما أنت الراعي ونحن الرعية، فأين منا من نفزع إليه* غيرك؟»

ولمَعَتْ عينا أحمد بن طولون، واسترعاه حديث ابن هلال،* فبسط له وجهه وأَدْنَاه، وقال في صوت خافت كأنما يتحدث به إلى نفسه، وإن حديثه لَيَبْلُغُ آذان الوفد جميعًا: «نعم، كيف يلي رجل من سامرَّا خراج مصر؟* هلا كان ذلك إلى مصري يعرف من حال قومه وحاجتهم، ما لا يطَّلع عليه الغريب.»

وانبسطت نفس ابن هلال، وبدت أمارات الرضا في وجوه الوفد، فغمغم القوم شاكرين، وقد جاش في نفوسهم أمل، وانصرفوا وهم يدبرون أمرًا، والأمير يدبر أمرًا … وأجنَّت* الأرض الخصبة بذرةً إلى حصاد …

وخلا مجلس الأمير إلا من كاتِبَيْه: أبي عبد الله الواسطي، وأبي يوسف يعقوب بن إسحاق، وكان على شفَتَيِ الأمير كلام حين ابتدره الواسطى قائلًا وما يزال في أذنيه صدًى من حديث الوفد: «للهِ أنت يا مولاي! مكَّن الله لك وبسط ظلك.»

قال ابن طولون: «الحمد لله كثيرًا، تركْنا لله عز وجل شيئًا* فعوضنا منه أشياء أعظم وأجود وأحمد عاقبة: كانت نهاية ما وُعِدْنا به على قتل المستعين بالله تقليد واسط، فخفنا الله عز وجل في قتله فلم نقتله، فعوَّضَنا الله عز وجل اسمُهُ مصرَ وغيرها.»

قال أبو يوسف: «وإني لأرجو يا مولاي أن يُمَكِّن الله لك، فيمتد ملكك من حدود المغرب إلى أكناف العراق.»

قال الأمير: «صه، لقد أسرفت يا يعقوب فيما تأمُل، إن في أعناقنا لأمير المؤمنين بيعة لا ينقضها إلا الموت.»

_________________________________

٢٢ زاد مساحة ملكه.

٢٣ برقة: ولاية من ليبيا، وعاصمتها اليوم «بنغازي».

٢٤ انظر التعريف.

٢٥ ليس التغلب عليه سهلًا.

٢٦ العشب.

٢٧ انظر التعريف.

٢٨ الغرة: المفاجأة.

٢٩ نلجأ إليه.

٣٠ تنبَّه إليه.

٣١ كيف يتولى رجل غريب.

٣٢ أجنت: حَفِظَت في بطنها.

٣٣ يشير إلى تركه ولاية واسط، انظر الفصل الأول.

قطر الندى ✔حيث تعيش القصص. اكتشف الآن