الأرقام بجانب الكلمات تدل على المعنى المصاحب لها اسفل الصفحة.
____________________________قال الموفق لولده: «الحمد لله يا بنيَّ إذ ردك إليَّ راشدًا موفورًا، فلا تأسَ٢١ على ما كان، فإن للدول كما للناس آجالًا، إذا جاء أجلهم لايستأخرون ساعة ولا يستقدمون.»
وهمَّ أبو العباس أن يجيب فذابت الكلمات على طرَف لسانه، ومضى أبوه في حديثه: «… وإنما يأتي أجل بني طولون يوم تصفرُ أيديهم من المال، فلا يجد الجند يومئذ لهم رزقًا في دولتهم، ولا يجدون هم في أيديهم من المال ما يرشون به الوزراء ويصطنعون القواد … وقد تولى اليوم أمرهم إسحاق ومحمد بن أبي الساج، كل منهما يطمع في عرش الطولونية، فلا يزالان يطلبان لها الغرة ويضعفانها بما يثيران في بلادها من أسباب الفتنة، فدعهما يا بني وما تولياه من أمرٍ حتى يأذن الأجل.»
قال أبو العباس: «يا أبَهْ …»
قال أبوه: «اصمت لا أب لك! إنما هي سياسة الدولة، وقد جرَّبْتَ ما جربت حتى رأيت عاقبة أمرك.»وغلى الدم في رأس أبي العباس، وهمَّ بالكلمة التي لم يقُلْها٢٢ ثم أقصر واتخذ سبيله إلى الباب صامتًا، وأبوه ينظر إليه أَسْوَانَ.٢٣
•••
وكرَّ إسحاق ومحمد بن أبي الساج راجعَيْنِ بمن معهما من فلول الجيش إلى الحدود يتربصون أن تحين لهم فرصة، وسِيقَ الأسرى منهم إلى مصر.وقال خمارويه لصاحب خزانته، وقد اطمأن به مجلسه في قصر الميدان بحاضرة ملكه: «انظر كم عدد هؤلاء الأسرى، فادفع إلى كلٍّ منهم ثلاثمائة درهم، فإنما هم إخواننا في الدِّين، وعُدَّتنا في حرب أهل الشرك، وقد نزلوا ديارنا، فلهم علينا حق الضيف على مضيفه.»
ثم أشرف خمارويه عليهم فخاطبهم: «إنما أنتم ضيوفنا، فمن أراد منكم أن يقيم بيننا فله علينا حق المواطن في وطنه، ومن أراد الرحيل فقد أذنَّا له.»
فعجَّ الأسرى بالدعاء لمصر وأميرها، واستأسروا له طائعين فكانوا جندًا من جنده.وذاع في الناس ما فعله خمارويه بأسراه، وما أغدق عليهم من بره، وراح الخبر يتنقل على الأفواه وينحدر مع الركبان حتى بلغ شاطئ الفرات، حيث كان يقيم عسكر إسحاق في انتظار الموقعة التي زعم أنْ سَيُقَوِّضُ بها عرش بني طولون.
وقال جندي من جند إسحاق لصاحبه: «أسمعْتَ يا أخا ناجيةَ ما فعل ملك مصر؟»
فابتسم صاحبه وقال: «نعم، والله لئن كانت الموقعة لأستأسرنَّ له، فيكون لي على ضفاف النيل دار وجار.»
قال محدثه ضاحكًا: «… وثلاثمائة دينار.»
كان الجند في مضاربهم يتحدثون هذا الحديث وأشباهه جادين أو هازلين، وإن في خيمة القيادة لحديثًا له طعم آخر، يدور بين القائدَيْنِ اللذين يليان أمر الجيش: إسحاق بن كنداج، ومحمد بن أبي الساج.
قال إسحاق: «… فإن الموفق قد عقد لي اللواء وولاني مصر، فهي لي حتى يخلعني عنها السلطان.»
قال ابن أبي الساج: «وأنا، أين يكون موضعي، ولك الجند والإمارة؟ أتراك أدنى مني منزلة إلى الموفق، أو أبْصَرَ بشئون الحكم، أو أَعْرَفَ بفنون الحرب؟»
قال إسحاق: «وي!٢٤ شئون الحكم وفنون الحرب معًا؟ لا ترضى حتى يجتمع لك الأمران كلاهما؟ على رسلك!٢٥ أو فاطلب إلى ذلك القضاء والخراج والبريد! …»
وغضب ابن أبي الساج غضبة أعجمية … فقال، وقد وضع يده على قائم سيفه: «أدعوى وسخرية!»
ثم رد يده إلى موضعها وقال في صوت يحاول أن يكون أكثر هدوءًا مما يدل عليه انفعاله: «ولكن لا، سأدعك وما اخترت لنفسك، لتختبر قوتك، وتعرف قدرتك في الميدان وحيدًا لا يسندك ابن أبي الساج.»
ودار على عقبيه فخلَّف إسحاق وراءه، وخرج من ساعته إلى النهر فاستقل زورقًا عبر به الفرات إلى الشام، حيث يلحق بخمارويه مستأمنًا يعرض عليه طاعته.
_____________________________٢١ لا تحزن.
٢٢ هم أن يعصي أباه.
٢٣ حزينًا.
٢٤ عجبًا.
٢٥ على مهلك.
أنت تقرأ
قطر الندى ✔
Historical Fictionفي موكب لم تشهد مثله بلاد، ولم تعرف مثل عجائبه عروس؛ زُفَّت «قطر الندى» ابنة الوالي «خمارويه بن أحمد بن طولون» من «مصر» إلى «بغداد» زوجةً للخليفة «المعتضد»(خليفة الدولة العباسية آنذاك)؛ وذلك بعد أطماعه بالاستحواذ على خراج «مصر» كاملًا والقضاء على ال...