(9): خمارويه ابن طولون

703 30 0
                                    


قال أبو العباس أحمد بن الموفق لأبيه: «يا أبه! لقد جاءك النبأ بمهْلِكِ أحمد بن طولون صاحب مصر، أَفَلَسْتَ ترى خلاصك منه حين فراغك من أمر صاحب الزنج أذانًا من الله بحرب تلك الدولة الناشئة في العصيان؟ … لقد بلغت دولة بني طولون ما بلغت حتى لَتُوشِكُ أن تغزونا في ديارنا، فإن يكن ثَمَّ قِصاص* فهذا أوانه.»

قال الموفق: «لَبِّثْ قليلًا يا بُنَيَّ،* إنك لست تدري على أي هول تُقبِل من حرب هذه الدولة، وقد مات أحمد بن طولون، ودَدِتْ لو كان اليوم حيًّا، إذن لَنِلْتُ منه منالًا، فذلك رجل رُبِّي في خدمتنا، وشاهد قوة أمرنا وأحوالنا، فامتلأ من ذلك قلبه، وكبرت سطوتنا في عينه، وقد خلَّف لولده دولة واسعة، وجيشًا وعدة، ومالًا لا يبلغه الإحصاء، وقد اجتمع لولده إلى ذلك قلة التهيب لنا؛ إذ لم يشاهد من أحوالنا ما شاهده أبوه، وليس بينه وبيننا ذمة* تعطفه، ولا له في دولتنا عهد يرده، وإنما يرى كل ما في يده تراثًا خلَّفه له أبوه، فإنه ليدافع عنه دفاع صاحب الحق عن حقه، وما أجدَرَهُ بذلك أن يكيدنا ويبلغ منا! ونحن اليوم يا بُنَيَّ قافلون٤ من حرب استنفدت منا مالًا وجهدًا، وعُدَّة وعددًا، وإنه على ما وصفتُ لك من البأس والغنى، فلعل التريُّث في أمره أن يفتق لنا حيلة، ويبلغنا منه ما نأمل إن شاء الله.»

وبدا الامتعاض في وجه أبي العباس، وغلبه شِمَاسُه،* فقال وفي صوته رنة لم يسمع أبوه مثلها قبل اليوم من ولده: «فكأنك يا أبتِ تريد أن تَمُدَّ لخمارويه حتى يبسط ظله، فما ننهض لقتاله إلا وقد وطئتنا خيله واجتازت الدولة من أطرافها.»

قال أبوه: «مه!* … لكأنك أغْيَر* مني على الدولة وأبصَرُ بسياسة المُلْك!»

قال أبو العباس: «لست أقولها، وإنما أرى بك رقَّة على بني طولون، وكأني بك قد ذكرت الساعة ما كان من عطف أحمد بن طولون على ابن عمك المستعين حين خُلِع وأُريدَ ابنُ طولون على قتله، فأنت بهذه الذكرى تريد أن تحفظه في ولده، ولقد رأيتك يوم جاءك منعاه وإنَّ عينك لتدمع، فكأنْ قد ندمتَ على ما كان منك له في حياته، ونسيتَ ما قدمت يداه، أم تراك قد خشيت أن تعجِزَ عن الظَّفَر بولده مما نالك من الجَهد في حرب الزنج، فأنا لك بهذا الأمر،* وقد شهدت بلائي، وعرفت من خبري في حرب البصرة.»

وتململ الموفق في مجلسه، وهمَّ أن يجيب، ولكنَّ عَبْرَةً سبقته منحدرة على خده حتى توارت في لحيته، فصمت برهة، ثم قال: «يا ليت يا أبا العباس … وأنت تعلم أنْ ليس شيء أحب إلى نفسي مِنْ عِزِّ دولة الخلافة، وليس أحد من بعْدُ أعز عليَّ منك، ولكنَّ بني طولون لن يُؤْتَوْا من قريب،* ما دامت في يدهم خزائن مصر، وتحت أرجلهم كنوز الفراعنة، فإن استطعت فانفذ إليهم من هذا الباب، فإنك إن أنفدْتَ المال من خزائنهم فقد انتهيت من الأمر وبلغْتَ الغاية، أَفَتُرَاكَ تقدر؟»

قال أبو العباس: «فسأنفذ إليهم من هذا الباب ومن كل باب حتى تنقضَّ على رءوسهم دولتهم، وسألحق منذ اليوم بجيش إسحاق لحرب خمارويه، فهل أذنت يا أبت؟»

قال الموفق: «اذهب يا بُنَيَّ مكلوءًا،* ولعل الله أن يُبَصِّرَك ويَرُدَّك إليَّ راشدًا موفورًا.»

وخلف أبو العباس أباه في مجلسه يدبِّر من أمره وأمر الدولة ما يدبر، ومضى فلبس شِكَّتَه* واتخذ أُهْبَتَه لسفر طويل، وذهب لوجهه وهو يدندن صوتًا في شعر الهمداني:

كذبتم وبيتِ الله لا تأخذونها
مراغمة،* ما دام للسيف قائم

متى تجمَعِ القلبَ الذكي وصارمًا
وأنفًا حميًّا تجتنبْك المظالمُ

ومنْ يطلبِ المال المُمَنَّع بالقَنَا*
يَعِشْ مُثريًا أو تخترِمْه المخارمُ

وكنت إذا قومٌ غزَوْني غزوتهم
فهل أنا في ذا يَالَهَمْدَان ظالم

______________________________

١ عقاب.
٢ انتظر.
٣ عهد.
٤ عائدون.
٥ عنفه وصرامته.
٦ كلمة زجر.
٧ أشد غيرة.
٨ أنا كفيل بهذا الأمر.
٩ لن يغلبوا بسهولة.
١٠ في رعاية الله.
١١ سلاحه.
١٢ قسرًا.
١٣ المحروس بالسيوف.

قطر الندى ✔حيث تعيش القصص. اكتشف الآن