عاد خمارويه إلى حاضرة ملكه بعد غيبة بلغت ثلاث سنين إلا أشهرًا، فُطِمَ فيها الرضيع، وشب الوليد، ونَهَدَت الصبية، وكانت مصر من الشوق إلى أميرها الشاب في لهفة وحنين، فإنها لتقتص آثاره٨٣ حيث سار وحيث نزل، ففى كل دار بالقطائع٨٤ حديث عما أفاء الله عليه٨٥ وما يسر له من أسباب التوفيق، فما كاد النبأ بمقدمه يذيع في الحاضرة حتى تهيأت المدينة كلها لاستقباله وتحيته، وخف شبابها وشيبها لاجتلاء طلعته، فلم يبقَ في دار من دور المدينة على ما بلغت من السعة إلا النساء قد علوْنَ الأسطح، والفتيات قد انتقبن في الشرفات٨٦ …وبدا موكب الأمير يتقدمه الحُجَّاب والغلمان، عليهم أقبية الحرير وجواشن الديباج،٨٧ قد انتطقوا٨٨ وتقلدوا السيوف المحلاة، يتبعهم جند الأمير على ترتيبهم وطوائفهم، ومن ورائهم السودان: ألف أسود، لهم درق محكمة الصنعة٨٩ وسيوف ذات حِلًى، وقد لبسوا الأقبية السود والعمائم السود، فلولا الدرق وحِلَى السيوف والخُوَذ التي تلمع على رءوسهم من تحت العمائم لحسبهم من يراهم — لسواد ألوانهم وسواد أقبيتهم وعمائمهم — بحرًا أسود، أو قطعة من ليل أسحم!
ثم أهلَّ الأمير على فرسه مديدًا مستَوِيَ القامة، كأنه قطعة من جبل، يحف به خاصته والمختارة من جنده، وقد حبس الناس أنفاسهم إجلالًا وهيبة، فليس فيهم متحدث ولا مشير ولا متحرك من موضعه، وبلغ الموكب باب الميدان، فانفرج الغلمان صفين ودخل الأمير …
ومُدَّت الموائد للعامة في القصر والميدان تنتظم الآلاف من أبناء الشعب قد أقبلوا على طعام الأمير فرحين داعين له، وهو يشرف عليهم من قصره سعيدًا بما بلغ من محبة الشعب ومن توفيق الله.واستقر الأمر في مصر والشام لخمارويه بن أحمد بن طولون …
•••
كانت الشمس ضاحية، وقد جلس خمارويه على دكته من قبة الهواء في أعلى القصر، يشرف على الميدان والبستان، وعلى المدينة والجبل، وعلى النيل والصحراء؛ فما شيء في المدينة وأرباضها إلا نالته عيناه، كأنما اختُصرت له الحاضرة وما يحيط بها في رسمٍ مصوَّر يطالعه في إطاره من هذه الشرفة الشارعة في أعلى القصر.
وكان كل شيء في القبة من الفرش والطنافس والستور المسدلة يشير ما بلغ خمارويه من أسباب الترف والرفاهية حين استتب له الأمر، وكان وحيدًا في مجلسه ذاك، فما ثمَّة حي ذو نفَس إلا سَبُعُهُ «زريق»، قد غاص رأسه في لِبْدِه ورَبَض بالوصيد٩٠ يلحظ مولاه ويحفظ طريقه، قد استغنى به عن الغلمان والحَفَظَة.٩١
وسُمِع حفيف ثوب ناعم يتسحب على آثار خطًا راتبة كأنها توقيع عازف بارع، واستدار «زريق» نحو الطريق، وقد برزت مخالبه وقَفَّ لِبْدُه، ثم خطا إلى الوراء خطوة يفسح الطريق، والتفت خمارويه ينظر من القادم، وأهَلَّت صبية قد كعب ثدياها وتحير في وجنتيها ماء الشباب، وعلى شفتيها ابتسامة الرضا والأمان، وقالت في صوت ناعم: «السلام على مولاي ورحمة الله.»
وتهلل خمارويه وأجاب باسمًا: «وعليكِ السلام، تُرَى من علمك يا بُنَيَّة أن تناديني كذلك، إنما أنا مولى الناس ولكنني أبوك، فهلا ناديتِني بأحب أسمائي إليَّ؟»
قالت: «يامولاي …»
قال: «بل قولي: يا أبَهْ!»
واتخذت «قطر الندى» مجلسها إلى جانب أبيها من الشرفة باسمة، وأطلت تنظر …
وأخذ عينيها منظرُ السباع في الميدان تنساب من مرابضها إلى الرحبة تتشمس ويُهارِش بعضها بعضًا، وقد أخذ السُّوَّاسُ يلحظونها من وراء القضبان، وراحت طائفة منهم تنظف المرابض وتهيئ لكل سبع وأنثاه غذاءه وشرابه في مربضه …
وأخذ سبع ضخم من سباع الرحبة يتحبب إلى لَبُؤَةٍ من اللَّبَات قد انفردت عن صاحبها، فما دنا منها حتى اعترضه سبع، وسُمِعت زأرة قد تفرق صداها في أنحاء الميدان، واجتمعت الآساد ثم افترقت، راحت اللبؤة تمشي إلى جانب أسدها مزهوة …
وقهقه خمارويه ضاحكًا، والتفت إلى ابنته يقول: «كيف رأيتِ يا بنية؟»
قالت الفتاة مبتسمة: «تُشْبِهُ السباع يا أبتِ أن تكون آدمية.»٩٢
ثم تحولت تنظر إلى الجانب الآخر من البستان حيث قامت النخيل باسقة قد كسيت أجسامها رقائق النحاس المُذهب، فبدت كأنها أساطين من الذهب قائمة قد غرست فنمت وأثمرت، وتدلى قطافها ياقوتًا أحمر، وكان الماء المدبَّر ينبثق من أنابيب قد غابت في الجذوع الذهبية، فما يُرى منها إلا قَطْر متتابع يتدحرج على أساطين الذهب كأنه تحت ضوء الشمس حبات من لولو منتثر، ثم لا يزال يقطر متتابعًا حتى يتجمع في أصول النخل، إلى فساقيَّ معمولة يفيض الماء منها إلى قنوات تتفرع بين شعاب البستان متلوية، ولها تحت الشمس بريق وشعاع.
وكان البستاني يعمل بمقراضه في الرياحين الملونة على أرض البستان، فلا يزال يدور حواليها عن يمين وشمال ومقراضه في يده يقص من أطرافها ما يقص ويعفي ما يعفي، ثم انتصب ووقف ينظر إلى الرياحين وقد سوَّاها بمقراضه كتابةً ناطقة ذات معانٍ، وبرزت لعين الأمير في شرفته كأنه يقرأ منها في صحيفة …
وطابت نفس الأمير وافترَّتْ شفتاه عن ابتسامة راضية، ثم نزل عن دكته واتخذ طريقه إلى دار الحرم يقدمه «زريق» حارسه، وتصحبه ابنته قطر الندى، وغُلِّقت أبواب القبة وأسدلت الستور على الشرفات …
•••
ودخل على الأمير غلامه بَرْمَش فقال: «يا مولاي قد أحضرنا الجوهريَّ.»
قال الأمير: «يدخل.»
فدخل شاب عليه زي أهل العراق، في وجهه طول، وفى عينيه سعة، وقد امتدت منابت الشعر من رأسه حتى كادت تبلغ حاجبيه، وتدلت على فمه شعرات من شاربه، وكان في يده صرة قد جمع عليها أصابعه يحذر أن تفلت …
ونظر إليه الأمير فاحصًا ثم قال في جفوة: «ما اسمك؟»
قال الجوهري: «عبدك الحسين بن الجصاص.»
قال الأمير: «فمن أهل العراق أنت؟»
قال: «في العراق أهلي، وإنما أنا جار الأمير، وغَذِيُّ نعمته وربيب داره.»
قال الأمير ونظر إلى غلامه برمش: «جاري وربيب داري؟»
قال برمش: «إنه يا مولاي يقيم في الدهليز من دار الحرم، ليبيع جواري الأمير ما يطلبن، وهو حريص على التشرف عند الناس بجوار الأمير لمكانته من ذلك الدهليز.»
ثم دنا الغلام من مولاه يُسِرُّ إليه: «وإن به يا مولاي شيئًا من الغفلة!»
قال الأمير باسمًا: «فما معك الساعة من جواهرك؟ لقد أُنْبِئْت أن عندك عِقدًا تزعم أنه من ميراث بني ساسان؟»٩٣
فابتسم الجوهري وخطا نحو الأمير حتى بلغ أدنى مكان منه، وقال: «نعم، وما أراه أهلًا لأن يملكه أحد من ملوك الأرض غير مولاي الأمير.»
ثم فك عَقْد الصرة، فما كاد يفتحها حتى قفز إلى الباب عَجْلان وهو يصيح: «جواهري.»
وتبعه الحاجب مسرعًا في دهشة لا يكاد يدركه، وقام الأمير عن كرسيه غضبان …
ذلك أن صرة الجوهري حين فتحها لم يكن فيها إلا نعله … وكان أراد أن يخلعها عند الباب، فنسي ووضع الجوهر مكانها وصرَّ النعل في المنديل!
وضحك الأمير حين علم بما كان حتى لم يكَدْ يسكت، ثم دعا بالجوهري ثانية فمثل بين يديه …
وكان العِقد على ما وصف الجوهري، فاشتراه الأمير وأجزل الثمن، وأمر الغلام أن يفرد له حجرة في دهليز دار الحرم، وأن يجعله جوهري القصر يبيع جواريَ الأمير ما يطلبن ويبتاع لهن.٩٤
•••
دفع الأمير العِقد الكسروي٩٥ إلى جاريته بوران، وكانت أدنى جواريه إليه وأحظاهن عنده، فما له صبر عنها ساعة من نهار، ولكن بوران لم تقنع بما لبست من نعمة الأمير ولم يَزَل في نظرتها سؤال عاتب، وقال الأمير: «فما تطلبين بعدُ يا بوران، وأين لي أن أنال رضاك؟»
فابتسمت بوران ابتسامة فاتنة وقالت: «رضاي يا مولاي أن ترضى.»
وأسرت في نفسها أمنية أغلى وأعلى …
وانحدر الأمير إلى بستان القصر يتبعه جواريه ووصائفه وحظيَّتُه بوران، حتى انتهى إلى برج الساج، حيث تسرح القمارِيُّ والدباسِيُّ وصوادح الطير شادية مغردة في عشاشها في ترجيع عجيب وموسيقى ساحرة، وقد انتشرت إلى يمين البرج وشماله طائفة شتى من الطواويس ودجاج الحبش سارحة في مسارحها، وقد نثرت الشمس من فروج الشجر على أجنحتها دنانير ذهبية، فاختلط منها لون بلون يبهج النفس ويفتن الناظر، وقال الأمير: «هنا فليكن مجلسنا للصَّبُوح٩٦ في هذه الغداة.»
قالت بوران: «لله ما أبدع يا مولاي! فهلا أمرت أن يُعمَل في هذا الجانب من البستان دار يكون إليها مغدانا للصبوح ومراحنا للغَبُوق٩٧ كل صباح ومساء؟»
وحقق لها الأمير ما تمنت، فما هي إلا أيام حتى تم بناء المجلس الذي اشتهته، وسماه الأمير «دار الذهب»، وكانت دارًا عجيبة لم تشهد لها الدنيا مثيلًا في قصر من قصور الملوك، قد طليت حيطانها كلها بالذهب واللازورد، في أحسن نقش وأبدع زينة، وجعل في حيطانها مقدارَ قامةٍ ونصفٍ صُوَرٌ بارزة من خشب محفور على صورة الأمير وصور حظاياه والمغنيات اللاتي يغنينه، في أحسن تصوير وأبهج تزويق، وجعلت على رءوسهن الأكاليل المرصَّعة من الذهب والجوهر، وفي آذانها الأقراط الثقال، ولُوِّنت أجسامها بأصناف تشبه الثياب من الأصباغ العجيبة.
وكان إلى هذا المجلس مغدى الأمير ومَرَاحه كل يوم للصَّبوح والغَبُوق بين جواريه وحظاياه، وكأنما كشف له الستر عما وراء الغيب من صور الجنة ونعيمها فاستعجل به في دنياه … فلا يكاد يخطر له خاطر مما لا يبلغه حلم الحالم أو خيال المتمني حتى يمثله حقيقة ملموسة تراها العين وتنالها اليد٩٨ …
•••
واشتكى الأمير إلى طبيبه كثرة السهر وطول الأرق، فأشار عليه الطبيب بالتكبيس، ولكن ابن طولون لم يكن يطيق أن يضع عليه أحد يدًا … فأمر بعمل فسقية من زئبق، تبلغ خمسين ذراعًا طولًا في خمسين ذراعًا عرضًا، وملأها من الزئبق جاء به وكلاؤه من المغرب وخراسان، لم يبخل عليه بثمن ولم تثقل عليه مئونة، وجعل في أركان بركة الزئبق سِككًا٩٩ من فضة خالصة، وجعل في السكك زنانير١٠٠ من حرير محكمة الصنعة، ثم عمل فرشًا من أدَم يُنفَخ بالمنفاخ حتى يمتلئ هواء ويصير حشية من أدم وريح، فإذا انتفخ أُحكِم شده، وأُلْقِي في الفسقية على سطح الزئبق، وشدته زنانير الحديد إلى حِلَق الفضة، وينزل الأمير على ذلك الفرش في بركة الزئبق، فلا يزال الفرش يرتجُّ ويتحرك بحركة الزئبق ما دام عليه … فإذا كانت الليالي القمرية كان ثمة منظر عجيب، حين يتألف نور القمر بنور الزئبق، وتنسرح الروح بين السماوين مصعدة في أودية الأحلام، ولا يزال الزئبق تحت الأمير يرتج ويتحرك.
•••
ذلك كان شأن خمارويه في مصر منذ عاد من غزاته مظفَّرًا، قد ثبت له الأمر في مصر والشام والثغور، ودعي له على منابر الموصل والجزيرة، أما أمر الدولة يومئذ في بغداد فكان مختلفًا جدًّا، فلم يكن ثمة دار الذهب، ولا بركة الزئبق، ولا قبة الهواء، ولا ملاعب السباع، ولا برج الساج، ولاخَرَجَات الصيد والطرد … لا شيء إلا الأمير السجين في عداوة بني طولون يكاد يخرج من جلده غيظًا، وإلا أبوه الكهل قد أنضاه طول السفار لمجاهدة أعداء الدولة على أطراف البادية، وإلا الخليفة المعتمد بين النُّدمان والقِيان يترشف ثمالة الكأس، وإلا ولده وولي عهده من بعده «جعفر المفوَّض» لا يكاد من خموله وضعف همته يجري له ذكر على لسان أو يطيف بخاطر إنسان، وقد خلت خزائن الدولة فليس فيها أبيض ولا أصفر إلا مخلفات للذكرى قد بقيت في الخزانة من أيام منشئ الدولة أبي جعفر المنصور.
وبدا لكل ذي عينين أن دولة الخلافة قد أشرفت على الآخرة، على حين كان اسم بني طولون يتردد صداه قويًّا بين أربعة أقطار الدولة الإسلامية.
ولكنَّ أبا أحمد الموفق على ما به من جراح وما في قوَّته من وهن، لم يكن قد يئس بعد، بل لعله كان في ذلك اليوم أعظم أملًا في تجديد شباب الدولة، وكذلك كان ولده أبو العباس، وإنه لحبيس بين أربعة جدران._____________________________
٨٣ تتبع آثاره.
٨٤ القطائع: اسم المدينة التي بناها أحمد بن طولون جنوبِيَّ الفسطاط، وقد تهدمت بعد ذلك، وقامت على أنقاضها أبنية أخرى، وموقعها الآن بين مسجد السيدة زينب والقلعة، حيث لم يزل مسجد ابن طولون حتى اليوم.
٨٥ أنعم الله عليه.
٨٦ احتجبن في الشرفات.
٨٧ الأقبية: جمع قباء، وهو ثوب مشقوق المقدم، يشبه الجبة، والجواشن: جمع جوشن، وهو الصدر أو الدرع.
٨٨ انتطقوا: تحزموا.
٨٩ الدرق: جمع درقة، وهي الترس.
٩٠ الوصيد: الباب.
٩١ الحفظة: الحراس.
٩٢ تعني أن فيها غيرة على إناثها مثل غيرة بني آدم.
٩٣ بنو ساسان: ملوك إيران القدماء.
٩٤ للحسين بن الجصاص الجوهري شهرة في تاريخ ذلك العصر، وقد كان له دور في التاريخ، وسيرد ذكره كثيرًا فيما يلي.
٩٥ الكسروي: نسبة إلى «كسرى» وهو ملك الفرس.
٩٦ الصبوح: شراب الصباح.
٩٧ الغبوق: شراب المساء.
٩٨ بلغ بنو طولون من الترف ما لم يبلغ ملك من الملوك قبلهم في مصر وفي غير مصر!
٩٩ حلقات.
١٠٠ حبال.
أنت تقرأ
قطر الندى ✔
Historical Fictionفي موكب لم تشهد مثله بلاد، ولم تعرف مثل عجائبه عروس؛ زُفَّت «قطر الندى» ابنة الوالي «خمارويه بن أحمد بن طولون» من «مصر» إلى «بغداد» زوجةً للخليفة «المعتضد»(خليفة الدولة العباسية آنذاك)؛ وذلك بعد أطماعه بالاستحواذ على خراج «مصر» كاملًا والقضاء على ال...