كان أمير المؤمنين المعتضد غائبًا بالموصل يوم بلغ الموكب بغداد، فنزلت العروس في دار صاعد بن مخلد على شاطئ دجلة، وأسرِيَ النبأ بمقدمها إلى الخليفة حيث كان …وكان في مخيم الخليفة بالموصل وقتئذ بضعة نفر ليسوا من أهل الموصل ولا من أهل بغداد، فيهم لؤلؤ الطولوني، وكان قد أطلق من حبسه وخُلِع عليه وكرِّم، وفيهم محمد بن إسحاق بن كنداج، وكان قد مات أبوه وتولى الموصل من بعده، وفيهم محمد بن سليمان الأزرق،٢٥ وكان قد بلغ عند الخليفة منزلة رفعته من مرتبة الغلمان حتى صار «أمير الجيش»، وفيهم غير هؤلاء في زي القادة أو في زي التجار، وكان الحديث يدور بينهم وبين الخليفة همسًا لا يريدون أن يطَّلع على غيبه أحد، وفي وجوههم أمارات العزيمة والجد والاهتمام.
وقال الخليفة وقد فرغوا من مداولة الرأي فيما اجتمعوا له: «والآن سيمضي كل منكم لوجهه وسنرى ما سيكون من أمر.»
قال لؤلؤ: «إني لأعلم علم اليقين يا مولاي ما سيكون، فلن يثبت جند خمارويه على الولاء له ساعة إذا استيقنوا أن خزانته قد صَفِرَت من المال.»
قال الخليفة: «ثم يكون ماذا؟»
قال القائد محمد بن سليمان: «ثم يتأمر القادة ويقتسمون الدولة ويعملون سيوفهم في أقفية بني طولون فلا تبقى منهم باقية.»
قال محمد بن إسحاق منكرًا: «على رِسْلك يا محمد، إن بني طولون خَتَنُ أمير المؤمنين.»
قال ابن سليمان: «وهل خاتنهم مولاي أمير المؤمنين إلا ليغلبهم على أمرهم ويحوز دولتهم؟»
قال الخليفة: «بلى، ولكن لا يراق دم.»
ومضى المؤتمرون كل منهم لوجهه، وقصد الخليفة من فوره إلى بغداد، حيث كانت العروس وحاشيتها في دار صاعد بن مخلد على شاطئ دجلة ينتظرون مقدم أمير المؤمنين …
•••
وكان يوم الأحد الثالث من ربيع الآخر سنة ٢٨٢ وما يليه أيامًا مشهودة في بغداد، ونودي في جانبي المدينة ألا يعبر أحد في دجلة منذ يوم الأحد، وغلقت أبواب الدروب التي تلي الشط، ومُدَّ على الشوارع النافذة إلى دجلة شراع، ووُكِّل بجانبي دجلة من يمنع الناس أن يظهروا في دُورهم على الشط، أو يفتحوا النوافذ، فلما كان المساء وصُلِّيَتِ العَتَمَةُ،٢٦ وافت الشذوات على ظهر دجلة من قصر المعتضد وعليها الوصائف والخدم يحملن الشمع، حتى وقفن بإزاء دار صاعد، وكانت أعدت أربع حرَّاقات مُزَيَّنة،٢٧ وأرسيت في النهر مشدودة إلى دار صاعد، فلما جاءت الشذوات وأرست بإزاء الدار، أُحْدِرَت الحراقات وعليها العروس ووصائفها سابحة على الماء، وبين أيديهن الشذوات عليها الجواري في أيديهن الشمع …
ومضى موكب العروس في دجلة حتى بلغ القصر الحَسَنِيَّ …
وأقامت العروس يوم الاثنين في القصر، يسعى بين يديها المواشط والوصائف والولائد، وأخذت بغداد زخرفها وازَّيَّنت كلها لعرس أمير المؤمنين، وكان القصر الحسني من الرُّواء والزينة كأنه من قصور الجنة …
أنت تقرأ
قطر الندى ✔
Historical Fictionفي موكب لم تشهد مثله بلاد، ولم تعرف مثل عجائبه عروس؛ زُفَّت «قطر الندى» ابنة الوالي «خمارويه بن أحمد بن طولون» من «مصر» إلى «بغداد» زوجةً للخليفة «المعتضد»(خليفة الدولة العباسية آنذاك)؛ وذلك بعد أطماعه بالاستحواذ على خراج «مصر» كاملًا والقضاء على ال...