لم يكَدِ الناس في بغداد يفرغون مما كانوا فيه من لهو ولعب في يوم الفطر، ليستأنفوا حياتهم على ما تعودوا من الجد والنصب، حتى شغلهم هذا الأمر الجديد، فردهم إلى معنًى من معاني العيد، وخلى بينهم وبين ما كانوا يضطربون فيه من أسباب العيش، فليس في بغداد كلها شاب ولا شيخ إلا خرج ليجتلي هذا الموكب المصري العجيب في حاضرة الخلافة ويستطلع طلعه،١ وكان موكبًا لم تشهد بغداد مثله منذ كانت، يتقدمه فارس على سرج قد مال به، فيكاد يسقط من جانبيه، كأن لم يركب قبل اليوم فرسًا ولم يُشَدَّ له ركاب، ذلك رجل يعرفه أهل بغداد ويعرفون أهله، إنه الحسين بن الجصاص الجوهري.وسخروا منه حين رأوه على رأس الموكب، ثم أمسكوا وأقبلوا ينظرون زرافة قد أقبلت تتهادى من ورائه مستعلية برأسها في زهو وخيلاء …
ووراءها بغل أشهب قد شد إلى ظهره صندوقان قد غُلِّفا برقائق الذهب، وأغلقا على ما فيهما من غيب لا يُدرَك سره …يتبعه عشرون نجيبًا،٢ عليها سروج محلَّاة بالذهب والجوهر، وفوقها رجال قد لبسوا الديباج وانتطقوا مناطق مُحلَّاة، لو سِيمَت مِنطَقَةٌ منها٣ في سوق الجوهر لكانت غنًى من فقر، أو فقرًا من غنًى، وبأيدي هؤلاء الركب حراب من فضة قد سال عليها شعاع أصفر، كأنما خرجوا بها من معركة الشمس …
ووراءهم عشرون بغلًا موقَرَة بأحمالها، فيها من الغالية٤ والطِّيب، وفيها من حرير دمياط ودبيق تنِّيس،٥ وفيها ما لا يعرف ولا يوصف من طرائف مصر …
يتبع ذلك عشرة غلمان بيض الوجوه من مُوَلدة الروم، كأنما ولدتهم أمٌّ واحدة على مثال صوَّرَتْه فكانوا، ليس بينهم اختلاف في الخلقة ولا في الزي وليس يشبههم شبيه! …
ومن ورائهم خمس دوابَّ عليها لُجُم من ذهب، ثم اثنتا عشرة دابة في لجم من فضة، ثم سبع وثلاثون بجِلال مشهَّرة …
ووراء ذلك كله خمسة أبغل عليها السروج واللُّجُم ويتبعها سُوَّاسُها.
ومضى الركب بين زحام البغداديين كأنهم بعد العيد في عيد، حتى انتهى إلى قصر المعتضد …
وفتحت للموكب أبواب القصر وأُذِنَ به الخليفة …ومَثَلَ أبو عبد الله الحسين بن الجصاص الجوهري رسول خمارويه صاحب مصر والشام بين يدي أمير المؤمنين أبي العباس المعتضد، ودفع إليه كتاب خمارويه، ورجا أن يأذن في قبول هديته …
وفضَّ أمير المؤمنين غِلاف الكتاب فقرأه حتى أتى على آخره، ثم أطرق يفكر في ذلك الأمر …
•••
واجتمع من الغداة في مجلس الخليفة المعتضد بضعة نفر من خاصته وأصحاب مشورته؛ فيهم مؤدبه أبو بكر القرشي، وقضاته: أبو خازم، وأبو إسحاق الأزدي، وأبو محمد البصري، ووزيره عبيد الله بن سليمان، وصاحب شرطته بدر المعتضدي، ولم يخلُ المجلس من بعض نُدمان الخليفة: يحيى بن علي المنجِّم، وعبد الله بن حمدون.
أنت تقرأ
قطر الندى ✔
Historical Fictionفي موكب لم تشهد مثله بلاد، ولم تعرف مثل عجائبه عروس؛ زُفَّت «قطر الندى» ابنة الوالي «خمارويه بن أحمد بن طولون» من «مصر» إلى «بغداد» زوجةً للخليفة «المعتضد»(خليفة الدولة العباسية آنذاك)؛ وذلك بعد أطماعه بالاستحواذ على خراج «مصر» كاملًا والقضاء على ال...