كان محمد بن أبي الساج في كرسي الإمارة من بلاد الموصل، قد اجتمعت في يده كل أسباب السلطان، فلولا أنه قد دفع ولده «ديوداد» إلى خمارويه رهينة على الولاء لاستبد بالأمر وخلع طاعته …
على أن خواطر أخرى كانت تصطرع في نفسه، وتسلبه الطمأنينة وراحة الضمير، فإنه ليعلم من نفسه علم اليقين أنه يوم خرج لجهاد الطولونية منذ سنوات ثلاث، لم يكن يقصد إلى الإمارة والتملك والاستبداد بالحكم في بلد من بلاد الخليفة بغير رسمه، ولم يكن يُقَدِّر أن تسخر منه الحوادث هذه السخرية الأليمة، فتَحْمِلَه قسرًا على أن يغير وجهه، فيكون عاملًا من عمال خمارويه وكان حربًا عليه، ولكن إسحاق بن كنداج — ذلك الخزري٤٠ المغرور — هو الذي طوع له أن يسلك هذا المسلك بكبريائه وغطرسته وسعة أطماعه، فحمله بذلك أن يتخذ هذا الوجه.
وتأذى ابن أبي الساج مما وصلت إليه حاله، وإنه لفي الذروة من الغنى والجاه والسيادة، وراح يقلب جوانب الرأي …
وجاءته الأنباء بأن إسحاق قد اجتمع له في «الرقة» جيش، فما لبث أن نسي كل شيء مما كان يفكر فيه إلا ما بينه وبين إسحاق من عداوة، فجمع جموعه وخرج لقتاله.
والتقيا مرة ومرة، ودارت الدائرة على إسحاق دورة بعد دورة.
ولكن إسحاق لم ييئس، وإن وراءه ظهرًا يستند إليه، وإن أمامه أملًا يتنوره.٤١
واجتمع له جيشه بعد شتات، وانضم إليه من انضم، من حيث يعلم وحيث لا يعلم، فعبر الفرات إلى الشام في جيش قوي لم يجتمع له مثله …
وجاء البريد خمارويه في مصر بما كان من أمر إسحاق فعبأ جيشه واستكمل آلته ومضى …
وردَّ إسحاق على وجهه كسيرًا مهزومًا لا يقفه شيء حتى عبر إلى الرقة … واتخذ خمارويه جسرًا على الفرات فعبر إليه …
ونظر إسحاق حوله، فإذا جيشه أباديد قد تبعثر كل مبعثر، ففر بمن بقي له من الجند إلى حصن قد اتخذه هنالك يحتمي به.
ورأى الهول الهائل من جيش خمارويه يزحف إليه من أمام، وذكر الكمين الذي يتربص به من جيش ابن أبي الساج من وراء، فلم يرَ لنفسه مذهبًا إلا أن يرسل إلى خمارويه مستأمنًا يسأله الصفح ويعاهده على الولاء.
وأمنه خمارويه وولاه الجزيرة وما والاها.
واجتمع في قبضة خمارويه القائدان اللذان انعقد بهما أمل الموفق في القضاء على دولة بني طولون: إسحاق بن كنداج، ومحمد بن أبي الساج، فإذا هما قد تجاورا صديقين على إمارتين من بلاد الخليفة: الجزيرة والموصل، يليان أمرهما٤٢ باسم ملك مصر والشام والثغور: خمارويه بن أحمد بن طولون.
وضحك القدر ساخرًا ضحكة رن صداها في الدولة بين أقطارها الأربعة، وبلغ النبأ بغداد حيث كان الموفق وولده أبو العباس في انتظار أخبار المعركة، وحيث كان الخليفة المعتمد بين الندمان والقيان لا يكاد يُفِيقُ من نشوته.
وأوى أبو العباس إلى قصره مكروبًا قد جثم الهم على صدره ثقيلًا لا يكاد يجد معه روح النسيم أو نور الضحا، ودخل معلمه ورائده أبو بكر القرشي بن أبي الدنيا٤٣ فنهض الأمير لاستقباله متثاقلًا، ثم جلس وجلس الشيخ صامتين لا تنفرج منها شَفَة عن صوت …
ومضت برهة قبل أن يقول أبو بكر عاتبًا: «لغير هذا اللقاء قصدتُ إليك يا أبا العباس … وما حسبتك بهذا الوجه تلقى شيخًا مثلي علمك في سالف الأيام حرفًا … أفكنت تلقى نديمك عبد الله بن حمدون هذا اللقاء، ولو كان على صدرك من هم الدنيا مثل أُحُد؟»٤٤
وَفَاءَ أبو العباس إلى نفسه، فقال لمؤدبه الشيخ: «معذرة إليك يا أبا بكر، إنك لتعرف مكانك مني وحقك عليَّ، ولكنَّ أمرًا ذا بال …»٤٥
قال الشيخ وقد تهيأ للقيام: «فسأدعك لذي بالك يُسَارُّك وتُسَارُّه٤٦ دون جلسائك.»
قال أبو العباس: «لا سرَّ عليك يا عم، وإنما يعنيني ما لعلك قد علمت من أمر صاحب مصر، وما يكيد به للدولة، وإن الموفق مع ذلك ليصانعه ويتعبد له.»٤٧
قال الشيخ: «الموفق! إنه أبوك يا أبا العباس وصاحب أمرك، وإن إليه سياسة هذه الدولة، فدعه وما يملك من أسباب هذه السياسة، ولا عليك من أمر صاحب مصر، ولا من أمر غيره حتى يظهر لك وجه التدبير …»
قال: «أفنتركها بتدبير الموفق مأكلة٤٨ لبني طولون؟»
قال الشيخ وقد نهض مغضبًا: «أوَّه! والله لا رأيتَني بعدها في مجلسك، قد واللهِ عذرتُ أباك الموفق مما يجد منك، وهو لا يريد إلا صلاحك، فلستُ متحدثًا معه منذ اليوم في شأن من شأنك.»
ثم مضى الشيخ نحو الباب فلم يستجب للنداء، ولم ينعطف يَمنةً ولا يسرةً حتى جاوز قصر الأمير …
وتضاعف هم الأمير فلزم بيته أيامًا لا يلقى أحدًا غير غلمانه ولا يلقاه أحد، فلما كان بعد أيام لبس سواده وأخذ زينته وقصد إلى قصر الخليفة المعتمد.
وكان المعتمد فيما يشغله كل يوم من أمره، بين القيان٤٩ والندمان، حين دخل الحاجب يؤذنه بقدوم أبي العباس بن الموفق …
وهش الخليفة للقاء ابن أخيه وبسط له وجهه ومجلسه، ودخل الأمير الشاب فجلس غير بعيد من عمه، وتسلل نُدمان الخليفة وجواريه، وخلا لهما المكان …
ثم خرج أبو العباس من حضرة الخليفة بعد ساعة، ومعه عهد منه بولايته على الشام فراح يسعى سعيه منذ اليوم لتأليف جيش يقوده نحو الشام لينتزعها من يد خمارويه، ويحطم عرشه، فيوحد الدولة تحت الراية العباسية، بعد ما أوشكت أن تتفرق، ويثأر من خمارويه لبعض ما ناله في المعركة التي كانت، ويُرِي أباه أين رأيٌ مِنْ رَأْيٍ؟ وأين عزيمة من عزيمة؟ وزيَّن له شبابه._______________________________
٤٠ الخزري: منسوب إلى بلاد الخزر.
٤١ يتطلع إليه.
٤٢ يتوليان أمرهما.
٤٣ عالم من علماء بغداد، كان معلمًا لأبي العباس بن الموفق، ثم صار رائدًا له ومعلمًا لولده.
٤٤ جبل من جبال المدينة كانت عنده موقعة من المواقع المشهورة في تاريخ الدعوة الإسلامية.
٤٥ ذا خطر.
٤٦ يسر إليك الحديث وتسر إليه.
٤٧ يخضع له.
٤٨ طعمة.
٤٩ القيان: الجواري.
أنت تقرأ
قطر الندى ✔
Tiểu thuyết Lịch sửفي موكب لم تشهد مثله بلاد، ولم تعرف مثل عجائبه عروس؛ زُفَّت «قطر الندى» ابنة الوالي «خمارويه بن أحمد بن طولون» من «مصر» إلى «بغداد» زوجةً للخليفة «المعتضد»(خليفة الدولة العباسية آنذاك)؛ وذلك بعد أطماعه بالاستحواذ على خراج «مصر» كاملًا والقضاء على ال...