كان اليوم عيد الفطر، وقد خرج الناس بعد صلاة العيد من الجامع مثنى مثنى وثلاث ثلاث، وجماعات مؤتلفة، يحيي بعضهم بعضًا، ويسأل بعضهم عن بعض، قد تخففوا من أعباء الحياة فما يذكرونها، وإن وجوههم لتطفح بِشرًا ومسرَّة …
وكان في الميدان فارس على سرجه قد غدا على طائفة من الجند يعرضهم صفوفًّا على الأهبة مستكملين عدتهم، ما فيهم إلا فتى قد باع نفسه وأقسم ليبلغن في طاعة مولاه إحدى الحسنيين: النصر أو الشهادة.
وترجَّل الفارس عن فرسه وأقبل على اثنين من قواده يُسِرُّ إليهما حديثًا، ثم راح يتخلل صفوف الجند راجلًا، فدار بينها دورة وقصد إلى فرسه يهم أن يعتليها، حين أقبل نحوه رجل من عُرض الطريق، فوقف الفارس وأسند يده إلى معرفة فرسه وعلى شفتيه ابتسامة، ودنا منه الرجل فحيا وسلم ثم قال: «كأنك يا أبا العباس قد نسيت أن اليوم عيد، فهلَّا ذكرتَ — حين نسيتَ نفسك — أن عليك لهؤلاء الجند حقًّا أن تُسَرِّحَهم يومًا يستطعمون طعم الحياة كما يحياها الناس؟»
قال أبو العباس: «لا تزال تهزل يا يحيى والدنيا تجدُّ … أرأيت العدو الرابض على حدود الدولة يغفل لو غفلنا عنه يومًا، ولو كان يوم عيد؟»
قال يحيى: «نعم، رأيت في النجوم …»٥٨
قال أبو العباس عابسًا: «خَسِئْتَ، دعْ عنك حديث النجوم وما تكذب به من ذلك على الناس لتخدعهم عن ذات أنفسهم، فوالله لئن صار الأمر إليَّ يومًا لأقطعنَّ ألسنة المنجمين، فلا يكونون فتنة للعامة، ومعجزة للخاصة.»
قال ضاحكًا: «وتقطع لساني، فيقول الناس كان أول ما فعل أبو العباس حين ولِيَ الأمر أنْ قطع لسان نديمه وصاحبه يحيى بن علي!»
قال أبو العباس، وقد غلبته ابتسامته: «وأقطع لسانك.»
فانفلت يحيى من بين يديه عَجْلانَ، وهو يقول: «رأيت في النجوم أنك لا تفعلها.»
وشيعه أبو العباس ضاحكًا، ثم وثب إلى ظهر حصانه.
وبلغ يحيى بن عليٍّ المنَجِّمُ دارَ الموفَّق فدخل، وكان الأمير في مجلسه قد جاءه البريد من خراسان والجبل٥٩ فهو ينظر فيه، غير ملتفت إلى شيء مما حوله حين دخل يحيى فقال: «السلام على مولاي الأمير ورحمة الله.»
ثم اتخذ مجلسه من الأمير على مقربة.
ورفع الموفق رأسه عن كتابه ثم أقبل على نديمه يحييه ويلطف له …
قال يحيى: «لقد مررت الساعة بالأمير أبي العباس ابن مولاي، وهو يعرض الجند في الميدان، وها أنا ذا أرى مولاي حبيسًا بين هذه الكتب، أفليس اليوم يا مولاي عيدكما وعيد الناس؟»
قال الموفَّق: «ماذا قلتَ؟ ولدي أبو العباس يعرض جنده؟ فلقد كنت على أن أبعث إليه٦٠ الساعة لأمر من أمر الدولة.»
قال يحيى: «فسترسل إليه يا مولاي بعد أن أفرغ من الحديث إن أذنتَ لي.»
قال الموفق: «ما وراءك يا أبا أحمد؟»
قال: «يا مولاي! إني لأعلم مقدار ما يشغل بالك وبال مولاي أبي العباس من أمر هذه الطولونية التي تجاذب أطراف الدولة منذ سنين، وقد استخبرت النجوم فأخبرتني …»
قال الموفق: «وترى هذه البضاعة تَنْفُقُ عندنا٦١ يا أبا أحمد؟»
قال المنجِّم: «صبرك يا مولاي، إنما هي أخبار تصدق وتكذب، ولعل فيها على الحالين ما يدل دلالة، ومولاي أعلى عينًا، وأبصر بسياسة الملك.»
قال الموفق: «هيه!»
قال: «وقد أخبرتني النجوم أن هذه الدولة لم يَحِنْ أجلُها بعدُ.»
فضحك الموفق ساخرًا، وقال: «نعم.»
قال: «وستمضي سنوات … وتكون الطولونية أدنى إلى بغداد مما هي اليوم.»
قال الموفق غاضبًا: «ماذا؟ …»
وكأنما همَّ أن يبطش به ثم أمسك.
قال يحيى: «صبرك يامولاي، إن في حديث النجوم رمزًا يشبه رؤيا الحالم، أنا إنما أتحدث بما تراءى لي، وليس عليَّ تعبيره … وقد رأيت الطولونية تكون أدنى إلى بغداد مما هي اليوم، وسيكون بتدبير ولدك أبي العباس يا مولاي أقصى ما تبلغ من الدنو، حتى يقع ظلها على عرش الخليفة.»
قال الموفق ساخرًا: «بس! أمسكْ عليك يا يحيى، لقد كذبتْكَ نجومك، أو لا فأنت منذ اليوم لا تحسن ما تقول، لو زعمت غير أبي العباس لكان خبرًا، فليس شيء أبغض إلى أبي العباس في دنياه من طولون، وددت لو سمع منك ما تقول ليدقَّ عنقك.»
قال يحيى: «فيأذن لي مولاي أن أفرغ من حديثي قبل أن يقدم أبو العباس فيدق عنقي، ولم أروِ خبرًا؟»
قال الموفق ضاحكًا: «قل.»
قال: «وستدنو الطولونية حتى تكون في القصر الحُسَنِيِّ، وتدخل دار صاعد بن مخلد،٦٢ وتسير بها الشذوات في دجلة،٦٣ وتضاء لها في قصر الخلافة أنوار … ثم تخبو كما ينطفئ المصباح فلا يبقى غير الرماد … فإن رأى مولاي أن يعرف متى يكون أجلها، فإنه بعد بضعة عشر عامًا بين العشرة والعشرين، ولست أعرف على التحديد، ولكن إذا أمرني مولاي فإني أستنبئ له.»
قال الموفق: «وتستنبئ أيضًا يا فاسق! اغْرُبْ عني٦٤ فليس بي حاجة إلى نبوءتك.»
قال المنجم: «آمنت بالله! فهل غَضِبَ عليَّ مولاي، وما قلت إلا ما أذن لي فيه!»
وأرهف الموفق سمعه، ثم قال: «صه، إني أسمع خَفْقَ نعل٦٥ أبي العباس قادمًا، وما أريد أن يسمع شيئًا من حديث الطولونية، فإنه يهيجه هياجًا لا يهدأ من قريب.»
ودخل أبو العباس فحيا، وجلس بين يدي أبيه وخلى بينهما يحيى بن علي فحيا وانصرف.
قال الموفق لولده أبي العباس: «ما وراءك يا أحمد؟ لقد كنت على أن أرسل إليك الساعة لتتهيأ للرحلة في جيشك إلى خراسان وبلاد الجبل؛ فإن أمرًا ذا بال ينتظرك هناك.»
قال أبو العباس: «خراسان وبلاد الجبل؟»
قال الموفق: «نعم، أفتُرَاك قد استبعدت الشُّقَّة؟٦٦ لقد أُنبِئْت أن جيشك على الأُهْبَة، وإنك يا أبا العباس لَأَهْلٌ لما تنتدب له.»
قال أبو العباس: «يا أبت!»
قال أبوه وفي نظرته جدٌّ صارم: «ماذا؟»
قال: «فإن ابن أبي الساج على الفرات ينتظر المدد؛ ليبلغ من خمارويه بن طولون شفاء نفسه وشفاء نفس الدولة، ولم يبقَ بينه وبين النصر إلا غلوة سهم.»٦٧
قال الموفق: «قد علمتُ، ولكن أمر الطولونية يا بني لم يَحِنْ بعد، وقد دبرْتُ الأمر على ما دعوتك إليه، وما أحسبك تخالف عن أمري.»
وازدحمت في رأس أبي العباس خواطره، فصَمَتَ برهة ثم قال: «ولكنَّ غلماني يا أبت قد تهيئوا لغير خراسان.»
وضاق صدر الموفق لعناد ولده فهَمَّ بأمر، ثم ذكر أنه يوم الفطر والناس جميعًا غادون على مسرَّاتهم فأمسك عما اعتزم وقال في لين ووداعة: «لست أعني أن تبدأ رحلتك اليوم يا بني، وإنما دعوتك لتتهيأ لها، فإذا كان بعد أيام فاغدُ عليَّ، وقد اجتمع لك رأيك.»
ثم انصرف بوجهه عن أبي العباس؛ ليعبث بما بين يديه من رسائل أصحاب البريد … وبقي أبو العباس صامتًا برهة، ثم تسلَّل إلى الباب، وعين أبيه تتبعه من حيث لا يريد أن يشعره.
ومضت أيام ثم دعاه أبوه إليه، فلما مَثَلَ بين يديه قربه وأدناه وأقبل عليه بوجهه وهو يقول: «أراك اليوم وقد اجتمع لك رأيك، وستكون وجيشك غدًا على طريق خراسان.»
قال أبو العباس: «لا يا مولاي، سأكون في جيشي قِبَل مشرق الصبح على الطريق إلى الشام.»
قال الموفق غاضبًا: «وَيْ: أعصيانًا ومشاقة!٦٨ فوالله لا يكون إلا ما أمرتك.»
قال أبو العباس: «إنما صلاح الدولة أردتُ، وقد ولاني عمي أمير المؤمنين المعتمدُ الشامَ، فلست أخرج إلا إليها، طاعة لأمير المؤمنين، وصلاحًا لأمر الدولة التي أوشك أن يتوزعها أبناء الأعاجم.»
ثم هب أبو العباس من مجلسه فاتخذ طريقه إلى الباب.
وثارت ثائرة الموفق فصاح بغلمانه وأمرهم أن يأخذوا عليه الطريق أو يردوه على وجهه وصدع غلمانه بما أمر، فلم تمضِ إلا دقائق حتى كان أبو العباس المعتضدُ بنُ الموفَّق سجينًا في غرفة من دار، ليس معه إلا غلام من غلمانه، وقد وُكِّلَ به طائفة من الجند، وأغلقت دونه أبواب وراءها أبواب.
وكان الجيش في الميدان ينتظر مقدَم أميره، وطال انتظاره ثم بلغه النبأ بما كان من الأمر فاضطرب الجند وركب القُوَّاد وقد أزمعوا أمرًا من أمرهم ليردوا مولاهم إلى حريته، وثارت بغداد كلها لأميرها الشاب ثورة حاطمة.
وبرز الموفق على سَرْجه في الميدان، فما كاد يراه الجند والعامة حتى سكنت أصواتهم، واشرَأَبُّوا٦٩ ينظرون إليه، وانتهى إليهم صوته جهيرًا يجلجل في صرامة وقوة وهو يقول: «ما شأنكم؟ أترون أنكم أشفق على ولدي مني وقد احتجت إلى تقويمه؟»
ونظر بعضهم إلى بعض ثم تفرقوا كأن لم يسألْ سائل، ولم يُجِبْ مجيب.____________________________
٥٧ الفكاهات.
٥٨ كان يحيى بن علي هذا منجمًا مشهورًا، وله في أحاديث النجوم مؤلفات وأخبار، وقد ورث بنوه عنه هذه الحرفة، فصاروا كذلك منجمين لهم مثل شهرته.
٥٩ من بلاد المشرق، بعضها الآن يتبع إيران، وبعضها يتبع الاتحاد السوفييتي.
٦٠ كنت على نية أن أبعث إليه.
٦١ تنفق: تَرُوج.
٦٢ من قصور الخلافة في بغداد.
٦٣ الشذوات: معابر تشبه الذهبيات.
٦٤ ابعد عني.
٦٥ صوت النعل.
٦٦ المسافة.
٦٧ مرمى سهم.
٦٨ أتعصي وتتكلم.
أنت تقرأ
قطر الندى ✔
Historical Fictionفي موكب لم تشهد مثله بلاد، ولم تعرف مثل عجائبه عروس؛ زُفَّت «قطر الندى» ابنة الوالي «خمارويه بن أحمد بن طولون» من «مصر» إلى «بغداد» زوجةً للخليفة «المعتضد»(خليفة الدولة العباسية آنذاك)؛ وذلك بعد أطماعه بالاستحواذ على خراج «مصر» كاملًا والقضاء على ال...