(19): خمارويه ابن طولون

483 21 1
                                    


أهلَّ هلال شعبان من سنة ٢٧٧، فلم يلبث في الأفق إلا لحظات ثم غاب، وأخذ الظلام يتسحب على بغداد وما حولها، فما ثمة نور يلمح إلا خلجات من شعاع النجم البعيد يتراءى على ماء دجلة كأنه خط من صحيفة، وإلا أضواء متناثرة تلوح وتخفى من خَلَل نوافذ الدُّور وراء أستارها، وفى جنح الليل كان قائد من قواد الطولونية على رأس جيش من الفرسان والرَّجَّالة في طريقه إلى بغداد، ولكن أحدًا من حماة المدينة لم يعترض طريقه؛ إذ كان في يد قائده جواز من الموفق يأذن له في المرور.

وبلغ الجيش ميدان العرض من حاضرة الخلافة، فترجل القائد وترجل فرسانه وضرب الجند فساطيطهم، وكان أبو أحمد الموفق غائبًا لم يزل في بلاد الجبل،١٠١ والتقى قائد الجيش بالوزير أبي الصقر إسماعيل بن بلبل،١٠٢ وكشف له الأمر … وعرف الخاصة والعامة في بغداد لماذا كان مقدم هذا الجيش …

ذلك قائد له ماض في خدمة الطولونية قد أبلى في خدمتها البلاء الأكبر وكابد في سبيلها الشدائد، ولكنه اليوم غاضب قد بانت لَبَّتُه١٠٣ واستعلنت حفيظة صدره على خمارويه، منذ استوسق له الأمر١٠٤ فانصرف إلى النعيم والترف وأغفل الجيش والقادة … وكتب وكلاء الموفق في مصر إلى مولاهم بما عرفوا من حال هذا القائد، فكانت بينه وبين الموفق رُسُل ورسائل …

ولم يطُلْ مقام ذلك القائد في بغداد، فما هو إلا أن بلغته حيث يقيم رسالة من الموفق حتى انحدر إليه في خراسان، ثم اتخذ طريقه من ثمَّةَ إلى الموصل فالجزيرة لأمر من أمر الموفق …

ولم يلبث الموفق طويلًا حيث كان، فقد اشتد به وجع النقرس، فعاد إلى بغداد محمولًا على سرير يتعاور أكتاف أربعين من غلمانه … فبلغ بغداد في أوائل سنة ٢٧٨.

وأظله الموت، ولكنه ظل يكافح ليعيش ويبلغ من أمر الدولة ما قدَّر ودبَّر، فإنه لتأخذه الغَشْية بعد الغشية ثم لا يلبث أن يُفيق … ورأى المحيطون به ما ينتظره من أمر الله، فأجمع كل منهم نيته على أمر، وبدا للخليفة في قصره أنْ قد آن له أن يملك حريته ويصير إليه أمر الدولة كله بعد أن صبر زمانًا والسلطان كله في يدي أخيه الموفق، وازدحمت الأمانيُّ على ذوي السلطان فتحفز كل منهم لوثبة يكون له بها أمر.
وكان أبو العباس في سجن أبيه، قد أقام به بضع سنين يَحْدِس ما يحدس،١٠٥ ويدبر خطته، وإنَّ له على ضيق السجن أملًا فسيحًا لا يزال يتحدث به كل يوم إلى غلامه …
وسمع أبو العباس من وراء أبواب السجن هديدًا وقعقعة سلاح وضجة تدنو منه في محبسه، وأهوت الأثقال على الأقفال تحطمها في عنف، وظن أبو العباس ما ظنَّ فجرد سيفه وتحفز للدفاع،١٠٦ وقال لغلامه: «أحسبهم قد جاءوا يريدون قتلي، ولا يزال بنو العباس تتربص بهم آجالهم من أجل العرش، فوالله لا يصلون إليَّ وفيَّ شيء من الروح.»
وأهوت دقة حاطمة على القفل الأخير، فلم يلبث أن انفتح الباب وهمَّ أبو العباس بأمر ثم تراجع وردَّ السيف إلى غمده، فقد رأى على رأس القادمين غلامه «وصيفًا»، فاطمأن وسُرِّي عنه، وعلم أنهم لم يقصدوا إلا خلاصه من أسره.
وقال «وصيف» والكلمات تتواثب على شفتيه: «أدرك أباك يا مولاي فإنه يُحتضَر، وقد أوشك أمر الدولة أن يتفرق.»
•••
فتح المُحتضَر عينيه بعد غشية، فأبصر إلى جانب فراشه ولده أبا العباس قد غَشَّى عينيه الدمعُ، والمكان خالٍ إلا منه، فلا شيء بينهما إلا نجوى صامتة تسر بها عينان إلى عينين، ومضت فترة قبل أن يقول المحتضَر وقد اجتمع في رنة صوته ورَنْوَة عينيه كلُّ حنان الأبوة: «كيف تجدك يا بني؟»
قال أبو العباس وقد خنقته عبرته: «إنني بخير ماعشتَ يا أبتِ!»
قال الموفَّق باسمًا: «أرجو أن تظل بخير أبدًا، فلا تجد في نفسك مما كان، فذلك أمر قد انكشفت لك أوائله، ولعلك أن تعرف آخرته عن قريب … لقد أبلى أبوك يا بني في هذه الدولة بلاء عظيمًا، حتى أطاع العاصي، وهدأ الثأر، واطمأن النافر، ولم يبقَ إلا هذه الطولونية في المغرب قد زين لها الغنى والحداثة ما زين من الأماني، ولم تخفَ على أبيك من خبرها خافيةٌ منذ كانت، ولكني آثرت أن أصطنع السياسة فيما بيننا من ظاهر المودة، حتى لا تجاهرَ بالعصيان، وهي على خزانة السلطان وفي يدها نصف خراج الدولة … وقد حمل أبوك العبء كله راضيًا على ما به من جَهد، وعمك الخليفة المعتمد على ما تعرف من أمره، لا يكاد يفيق من نشوته، وقد جعل العهد من بعده لولده جعفر المفوَّض، ثم لأبيك، فلعله حين ينفذ أمر الله أن يُلْهَمَ الخير فيجعل إليك ما كان بيدي من الأمر ويبايع لك … فإذا آل إليك هذا الأمر يا بني فلا تعجل على عدوك حتى تستمكن منه، وإذا حزبك يومًا أمر من الأمر ولم تجد الوسيلة، فاحبس نفسك على ما تكره حتى ينقاد لك العصِيُّ، فقد حبسك أبوك يومًا وأنت أحب إليه.»

قطر الندى ✔حيث تعيش القصص. اكتشف الآن