(17): خمارويه ابن طولون

400 21 0
                                    


وقف محمد بن أبي الساج بالرقة ينتظر ما وعده الموفق من المدد والمعونة؛ ليعبر الفرات إلى الشام فيحطم ما بقي من جيش إسحاق ويدك عرش الطولونية، ولكن إسحاق لم يصبر عليه، فما هو إلا أن جاءه المدد من خمارويه حتى عبر النهر وكبس جيش ابن أبي الساج كبسة تركته أشلاء في البادية، واشتد ابن أبي الساج عَدْوًا فلم يتوقف حتى بلغ الموصل، وقد انقطع ظهره،٧٠ وفنِيَ زاده، وتفرق جنده، فما له راحلة يركبها، وكان يطلب عرش دولة ومد يده إلى من يعرف من أهل الموصل يسألهم عونًا من أموالهم، وكان فيهم صاحب العرش والخزانة.
وأقام شهرًا بالموصل على ضيق العيش وذل المسألة وسقوط المروءة، ثم انحدر إلى بغداد يطلب جوار أبي أحمد الموفق.
وأقام إسحاقُ أميرًا على الموصل والجزيرة جميعًا.
•••
قال أبو بكر القرشي ابن أبي ليلى مؤدب الأمراء وصاحب الفقه والحديث والخبر: والله لقد ورد عليَّ من ذلك يا أبا أحمد ما لا صبر عليه، فما يهون عليَّ أن يصير إلى ذلك أمرُ ولدك أبي العباس، فتحبسه وتُوَكِّلَ به وتُفْرِدَه من أهله وصحابته لا يلقى أحدا منهم ولا يلقاه أحد، وما أراه قد ركب في أمرك وأمر الدولة ما يستوجب ذلك كله أو بعضه، فإنما هو شاب اجتهد لصلاح الدولة فأخطأه الرأي، وإنك يا أبا أحمد لأرحبُ ذرْعًا.٧١
قال أبو أحمد الموفق وقد غلبه حنان الأبوة: «حسبك يا أبا بكر، أفَتُرَاه هينًا عليَّ؟ إنما هي سياسة الدولة، وقد يظن هذا الغلام أنه مستطيع ببضعة آلاف من غلمانه أن يفرغ من أمر الطولونية، وما أراه إلا ناسيًا ما كان من أمره وأمر خمارويه منذ قريب، أو لا، ولكنه في سبيل طلب الثأر قد غفل عن التدبير، إن خمارويه ليملك من أمر نفسه ما لا نملك من أمر أنفسنا، وإنه ليستطيع ببعض ما في يديه أن يشتري جيش العباسية كله، فماذا تغني القوة والعدد الجمُّ؟ وإن خمارويه لشاب في يده المال والجاه، وفي دمه إرث من طباع الأعاجم، فلعله لو كان فارغًا من مشاغل الجهاد أن تهلكه البطالة والشباب والغنى، أو يهلكه السرف وانتهاب اللذات، فنأتيه يومئذ بلا جهد، أما بالحرب فهيهات!»
قال ابن أبي ليلى: «وَيْ! وترى الأمر خافيًا عليَّ كما خفي على ولدك أبي العباس، فما هذه الجيوش التي تسير عن أمرك لقتاله حينًا بعد حين، فلا تزال معه في إقبال وإدبار، من الرقة إلى الموصل، ومن الموصل إلى الرقة؟»
قال الموفق: «تعني جند ابن أبي الساج وصاحبه؟ لقد أبعدتَ يا أبا بكر، فوالله ما ظننت يومًا أنني بالغ من الطولونية شيئًا بواحد من الرجلين، وإنني لأعلم علم اليقين ماذا يريدان من هذه الحرب، إنما بلاؤهما يا أبا بكر من أجل ما يطمعان فيه من الإمارة والسلطان لا من أجل الدولة، وقد رأيت عاقبة أمرهما.»
قال ابن أبي ليلى: ولكنك لا تزال تُولِيهِما مِنْ بِرِّكَ وتأييدك، حتى لقد أيقن الناس أنك صاحب أمرهما وبعينك ما يصنعان.٧٢
قال: «فهل حسبتني أتخلى عن إسداء المعونة إليهما، وقد خرجا لقتال عدوي وعدو الدولة؟ إنني إلا أربح بذلك فما خسرت شيئًا، فقد تركتهما وما يطيقان من أسباب الكيد له حتى يكون ما هو كائن.»
قال ابن أبي ليلى: «فقد أيستَ من أمر الطولونية يا أبا أحمد؟»
قال الموفق: «أما هذه فلا … ولكن …»
وقطع عليه دخول غلامه يؤذنه بمقدم محمد بن أبي الساج، وعليه غبار السفر من الموصل، فاعتدل الموفق في مجلسه، وألقى إلى جليسه نظرة ذات معانٍ، ثم تهيأ لاستقبال القادم …
وحيا ابن أبي الساج، وجلس مطأطئًا كأن على ظهره حملًا لا ينهض به، وقال الموفق وهو يبتسم له: «لله ما أبليت٧٣ من أجل الدولة يا ابن أبي الساج وما بذلت!»
قال، وكأنما يأتي صوته من مكان بعيد: «في طاعتك يا مولاي.»
وأخذته حبسة فتنحنح ثم سعل.
قال الموفق: «إنك لمجهود٧٤ من بلاء الحرب وطول السفار، وأرى لك أن تستريح بعد طول ما جاهدت.»
ثم خلع عليه ووصله،٧٥ وتقدم إلى غلامه أن يهيئ له سرجًا يركبه٧٦ إلى حيث نزل …
وكان ابن أبي ليلى لاصقًا بمكانه صامتًا لا يتحرك كأنما أصابه مسخ، فالتفت إليه الموفق سائلا: «كيف رأيت يا أبا بكر؟»
وعاد الشيخ إلى الحياة، فقال وهو يثب عجلان كأنه ملدوغ: «رأيت الدنيا قد ازَّيَّنَت لأهلها.»٧٧
ثم قصد إلى الباب، وخلَّف الموفق في مجلسه وعلى شفتيه ابتسامة وفي عينيه انكسار.
•••
كان أبو العباس على أديم منقوش في الغرفة التي جعلها أبوه سجنًا له، وقد أسند رأسه إلى راحته، وأسبل جفنيه يفكر في أمره، وجلس غير بعيد منه غلامه «طريف»، قد جمع يديه في حجره، وعيناه شاخصتان إلى مولاه لا يكاد يطرف، وقد شمل الغرفة صمت كصمت القبور، إلا أنفاسًا تتردد، تعلو حينًا حتى تبلغ أن تكون زفرة شاكٍ، وتخفت أحيانًا فتشبه أنفاس محتضَر.
وكان قد مضى أيام على الأمير في سجنه لا يطعم شيئًا من زاد، فإن غلمان أبيه ليحضرون له المائدة الحافلة في موعد كل طعام، فيردها لم يتبلع منها بشيء، فيعودون من حيث أتوا، لا يعترض منهم معترض، ولا ينبِس ببنت شَفَة، وفى وجوههم الكآبة وفي عيونهم الانكسار وفى صدورهم همٌّ لا يبرح، شفقة على أميرهم وحبًّا له، فلولا ما يخشون من بأس الموفق لتمردوا على الولاء له …
وقال طريف لمولاه، وقد نال منه ما رأى من ذبوله وإطراقه وصمته: «إلى متى يا مولاي؟»
قال أبو العباس: «إلى أن يحين الأجل … فإن كنت قد مللت الصحبة فقد أذنت لك.»
قال طريف: «يامولاي!»
قال أبو العباس: «اسكت، لا مولى لك … أرأيت الموفق مُخْرِجِي من هذا الجب، وقد ألقى بي إليه إلا أن يحين الأجل … تلك كلمته دائمًا كلما سأله سائل عن موعد أمر لم يقطع فيه برأيٍ … ستنهار الطولونية يوم يحين أجلها … وسيخرج أبو العباس من سجنه يوم يحين أجله! … ولكن لا، سيحين هذا الأجل بيدي، بيدي وحدي …»
وصرَّتْ أسنان أبي العباس وحملق كأنما يرى أمامه عدوًّا قد آدَهُ٧٨ الصبر عليه، وصاح: «سيحين هذا الأجل بيدي، بيدي وحدي … وسيرى الموفق ما لم يرَ، وسيعلم ما لم يكن يعلم.»
وارتاع الغلام فوثب إلى مولاه يمسح بيده على كتفه، وهو يهتف به في حنان وتوسل: «مولاي، لا أراك تفعلها.»٧٩
فنظر إليه أبو العباس كالمغضب وقال: «ماذا تعني؟»
قال طريف ولسانه يلجلج في فمه: «لن تستعجل أجلك بيدك يا مولاي، وأنت من أنت، إن وراء كل ضيق فرجًا!»
قال أبو العباس ساخرًا: «ماذا فهمتَ يا غبي؟ حسبتني أعني ذلك؟ والله لا كان، ولن أموت حتى أبلغ الثأر بيدي من تلك الدولة الباغية، لا أنتظر حتى يحين أجلها كالذي يزعمه الموفق، وإنما بيدي سيحين ذاك الأجل.»
وهدأت نفس الغلام هونًا ما، وعاد إلى مجلسه بين يدي مولاه، وقال كأنما يريد أن يصرفه عن الفكر في أمر يحاوله: «لقد أذكرني مولاي ذكرى، فإن رأى أن أقصها عليه …»
وتشوَّف أبو العباس إلى جديد يتفرج به مما هو فيه من ضيق النفس، فقال: «هيه يا طريف.»
قال الغلام: «فسأقص على مولاي ما كان من أمر يحيى بن علي المنجم ومولاي الموفق في يوم الفطر، وكنت بالباب أسمع — من حيث لا أريد — ما يدور بينهما من الحديث.»
فابتسم الأمير وقال: «ماذا سمعت من حيث تريد، أو من حيث لا تريد؟ …»
قال طريف: «زعم يحيى أنه استنبأ النجوم، فأنبأته بأمر الطولونية، وأنها ستكون أدنى إلى بغداد مما هي اليوم، حتى تصير في القصر الحسني، وتدخل دار صاعد، وتسير بها الشذوات في دجلة، وتضاء لها الأنوار في قصر الخلافة، ويقع ظلها على عرش أمير المؤمنين! …»
قال أبو العباس مغيظًا: «فمن أجل حديث المنجمين يصانعها الموفق؟ فليهنأ بما بلغ من تدبير أمر الدولة.»٨٠
قال طريف: «فإن للحديث تتمة، فقد زعم المنجم أن الطولونية ستبلغ ذلك كله على يدي مولاي أبي العباس!»
قال الأمير غاضبًا: «أنا؟ فلأجل ذلك كان هذا السجن، وكان هؤلاء الموكَّلون بي، تكذيبًا لما زعم المنجمون أو تحقيقًا لما زعموا٨١ … فوالله إن كان شيء من ذلك ليكونن سببه هذا السجن الذي يشملني حتى تطأ خيل الطولونية أرض بغداد، فلا تجد من يدافعها عن عرش الخليفة، ولكن ذلك لن يكون … وسيكون مصرعها على يدي.»
وَسُمِعَتْ لَقْلَقَةُ المفاتيح في الأقفال، فصمت أبو العباس، وصمت طريف، ودخل النُّدُلُ٨٢ يحملون مائدة الأمير، فبسطها بينه وبين غلامه وجلس يأكل …
لقد عقد النية منذ اليوم على أن يعيش لينتقم.

______________________________

٦٩ رفعوا رءوسهم.

٧٠ سقطت دابته.

٧١ لأوسع صدرًا.

٧٢ بتوجيهك يتجهان.

٧٣ ما بذلت من الجهد.

٧٤ مجهود: متعب.

٧٥ أعطاه ثيابًا ومالًا.

٧٦ ركوبة يركبها.

٧٧ يعني أنه لم يكن يظن أن في الدنيا مثل هذا النفاق وهذا الكذب.

٧٨ آده: ثقل عليه.

٧٩ فَهِمَ الغلام من كلمة أبي العباس أنه سيقتل نفسه.

٨٠ ظن أبو العباس من هذا الحديث أن أباه صدق حديث المنجم، فهو لا يحارب الطولونية خوفًا منها.

٨١ ثم ظن ظنًّا آخر، فزعم أن أباه حين صدق حديث المنجم حبسه لئلا يكون على يديه انتصار الطولونية!

٨٢ خَدَمُ الطعام.

قطر الندى ✔حيث تعيش القصص. اكتشف الآن