(22): عروس من القاهرة

503 23 0
                                    

غار النيل في مصر سنة ٢٧٨، حتى لم يبقَ منه شيء، فأجدب الزرع، وشحت الغلة، وغَلَتِ الأسعار في مصر وقراها، وامتد الغلاء بعد ذلك في مصر حينًا، ولكن ذلك لم يحمل خمارويه على القصد١٧ في تجهيز ابنته قطر الندى، وفتح خزانته لصاحب أمره يغترف منها ما يغترف وينفق ما ينفق؛ ليهيئ جهازًا لم يُرَ مثله ولم يُسمع به، ولم يزل المصريون منذ الزمن الأول، يغالون في تجهيز بناتهم مغالاة تنهك اللحم وتعرق العظم وتهتك المروءة أحيانًا؛ إذ كان فيهم ما فيهم من الرقة والعطف على الحبيب المفارق، وبهم من طبيعة بلادهم حب المباهاة والفخر، فكيف ظنك بصاحب مصر وبرقة والشام والثغور؟ وإنه ليجهز ابنته المفضلة إلى أمير المؤمنين، وخليفة رسول رب العالمين؟ وما ظنك بجهاز عروس ينتقل من مصر إلى بغداد، ومصر وبغداد يومئذ تتنافسان في الترف وأسباب الحضارة وتزعم كلٌّ منهما أنها حاضرة الدنيا.

ووكل خمارويه إلى أبي عبد الله الحسين بن الجصاص تدبير الجهاز وإعداده حتى يضاهي نعمة الخلافة، وكان الحسين بن الجصاص رجلًا جوهريًّا وتاجرًا، وكان له نسب في بغداد ووطنٌ في مصر، فكان له بذلك كله فنٌّ وتدبير، وبفنه وتدبيره راح يعد الجهاز على ما يتخيله جوهريٌّ وما يشتهيه تاجر …

وكثر غُدُوُّه ورَوَاحُه إلى أبي صالح الطويل صاحب خزانة خمارويه، يغدو بيد مملوءة بعشرات الآلاف ويروح بها فارغة، وأبو صالح لا يبخل عليه بشيء مما يطلب، وطال مغداه ومراحه حتى قلق أبو صالح وخاف مغبة الأمر، فقال له يومًا: «حسبك يا أبا عبد الله، لقد بلغتَ مبلغًا بعيدًا …»

ونضا ابن الجصاص١٨ ثوب البَلَهِ والغفلة وما يتظاهر به من قلة الاكتراث، وقال غضبان: «ولك هذه الخزائن تمنح وتمنع، أم هي خزائن مولاك!»

وأغضى أبو صالح وغصَّ بِرِيقِهِ، وذهب إلى مولاه يؤذنه بما رأى، وكان لأبي صالح على الأمير دالَّة وله مكان؛ إذ كان مؤدبه في حداثته، ورائده في شبابه، وصاحب سره في خلوته، وكان من التحرج في الدِّين، ومن العفة في اليد، ومن الولاء والحب لسيده — فوق الظن والتهمة — وأقبل أبو صالح على خمارويه وسِرُّه على جبينه، وقال خمارويه حين رآه: «ما وراءك يا أبا صالح؟»

قال أبو صالح: «خزانتك يا مولاي، إن أبا عبد الله الجوهري يكاد يتركها فارغة ليس فيها أبيض ولا أصفر.»

واربدَّ وجه الأمير١٩ وقال: «ويحك يا أبا صالح! دعه وما يريد، أتريد أن تفضحنا في بغداد؟ إنها ستدخل قصر جعفر بن يحيى، وتنزل منزلة بوران بنت الحسن، وتتحلى بما آل إلى خلفاء بني العباس من جواهر الأكاسرة، وتُزَفُّ إلى سيد الأحياء من ولد العباس بن عبد المطلب، فأين أنت من كل ذلك؟»

قال أبو صالح: «يامولاي، فقد كان مما أوصاني به مولاي أحمد بن طولون رحمه الله …»

قال خمارويه: «اسكت، لا رحمة عليك! … وهل كان يقع في وهم أحمد بن طولون أن تقتعد بنت خمارويه عرش بغداد؟»

وطأطأ أبو صالح، فكأن لم يسمع ولم يرَ، واستدار على عقبيه ذاهبًا من حيث أتى، وإنه من الهم ليكاد يتعثر في ظله.

واستمر أبو عبد الله بن الجصاص فيما يدبر من أمره، ويده في مال الدولة ينفق منه ما ينفق، لا يحاسبه أحد فيما أخذ ولا فيما أعطى، وهو عند الأمير في منزلة المشير الناصح، وعند الناس في منزلة الأبله الغافل، وعند نفسه في منزلة بين المنزلتين، ولكنه لم ينسَ في أي أحواله أنه تاجر، وأنه لن تتاح له مثل هذه الفرصة ثانية فيجد أميرًا يطلق يده في ماله مثل خمارويه، وعروسًا يتولى جهازها على ما يشتهي مثل قطر الندى …

وأوشك أن يتم إعداد الجهاز الذي احتشد له في مصر فكر كل ذي فنٍّ في فنه، وحيلة كل تاجر في تجارته، وجهد كل عامل في عمله …

وخرج إلى بغداد «خزرج بن أحمد بن طولون» نائبًا عن أخيه خمارويه في موكب ينتظم طائفة من أمراء الطولونية وكثيرًا من ذوي الجاه والرياسة في مصر، وغير قليل من الخاصة والغلمان …
________________________

١٧ القصد: الاقتصاد.

١٨ نضا: خلع، ولم يكن ابن الجصاص أبله ولا مغفلًا كما يبدو في كثير من أمره، وإنما كان يصطنع ذلك لغرض يرمي إليه …

١٩ تغيَّر وجه الأمير.

قطر الندى ✔حيث تعيش القصص. اكتشف الآن