(10): خمارويه ابن طولون

672 28 0
                                    

الأرقام بجانب الكلمات تدل على المعنى المصاحب لها اسفل الصفحة.
___________________________

مضى الفارس الشاب يُغِذُّ السير١٤ نهاره وليله في غير كَلَالٍ،١٥ لا يقعد به حر الظهيرة، ولا برد السحر، ووراءه بضع مئات من غلمانه وجنده قد امتطوا صهواتهم عليهم السلاح والزرد يتبعونه فارغين من الفكر في أمر اليوم والغد، بما عودهم مولاهم من الطاعة، فإنهم لَيَمْضُون لما أمرهم، لا يسألون فيمَ خرجوا ولا أين يقصد بهم؟

وذهبت الخيل تدقدق على صخور البادية، وإنَّ سنابكها لتقدح الشرر، واختلطت صلصلة اللجم ودقدقة الخيل بصليل السلاح وخشخشة الزرد، فتألف من ذلك موسيقا لها في سكون البادية ترجيعٌ وصدًى، والركب منطلق في طريقه إلى «الرَّقَّة»،١٦ حيث عسكر إسحاق على الشاطئ الشرقي من نهر الفرات في انتظار مقدَم أبي العباس بن الموفق وغلمانه …

في ذلك الوقت كان فارس آخر عليه شعار الطولونية قد جاوز حدود مصر إلى الشام يؤيده أسطول بحريٌّ قد جاوز مضيق دمياط ومضى موازيًا له في البحر؛ لتحصين الشواطئ الشامية، هذا الفارس هو أبو عبد الله الواسطي وزير الدولة الطولونية ورفيق نشأتها، وقد عقد له خمارويه بن طولون ملك مصر وبرقة والشام والثغور على جيش كبير، وأخرجه للقاء إسحاق.

ولكنَّ أبا عبد الله الواسطي لم يكد يفصل عن أرض مصر حتى عرض له أمر من أمره فتوقف برهة، وبلغه حين وقف رسول من قِبَل الموفق في بغداد عليه سواده،١٧ وفي يده كتاب من الموفق، ونظر أبو عبد الله في الكتاب، ثم أطرق ساعة يفكر في أمره وأمر هذه الدولة الناشئة التي وَزَرَ١٨ بضعة عشر عامًا لأميرها الأول، وحمل لواء الجيش للدفاع عن حدودها في عهد أميرها الثاني، ثم عاد ينظر في كتاب الموفق وهو يفكر في أمر دولة الخلافة العظمى حيث كانت نشأته الأولى، وذكر الماضي والمستقبل، ووازن بين حال وحال، فما هي إلا خطرة فكر حتى خلع الشعار وحطم اللواء، واتخذ طريقه مع رسول الموفق إلى بغداد.
•••
وكان جيش المصريين بلا أمير حين زحف إسحاق بجيشه يصحبه محمد بن أبي الساج وأبو العباس بن الموفق، فاجتاز الفرات إلى أرض الشام، ولم يلقَ الجيش الفاتح في طريقه كيدًا، فتسلم قِنسْرِين،١٩ والثغور، وأوغل في مملكة بني طولون.
وبلغ النبأ خمارويه بن أحمد بن طولون فعبَّأ جيشه وخرج للقائهم في سبعين ألفًا من المصريين، عليهم السلاح والزرد، ولكن جيش إسحاق لم يتلبث ومضى في طريقة، فما هي إلا جولة وجولة حتى غلب إسحاق على دمشق ففتحها، وانحدر إلى فلسطين يطلب عرش مصر أو رأس خمارويه، وأبو العباس بن الموفق على المقدمة يُغَنِّي لنفسه في شعر كليب بن وائل:

سأمضي له قُدْمًا ولو شاب في الذي
أَهُمُّ به فيما صنعتُ المقادمُ٢٠
مخافةَ قولٍ أن يخالف فعله
وأن يهدم العزَّ المُشَيَّدَ هادمُ

ومضت أسابيع ثم التقى الجيشان، ورأى أبو العباس وجه خمارويه، ورأى خمارويه وجه أبي العباس، واقتتل الشابان اللذان ترتبط بهما مصاير الدولتين … ثم كانت الوقعة التي شابت لها مقادم أبي العباس، فخلف وراءه جنده وأتباعه وما احتاز من مغانم، وفر على أدباره وحيدًا يلتمس السلامة، فما وقف به فرسه حتى بلغ أبواب دمشق، ولكن دمشق يومئذ كانت قد بلغها النبأ، فأغلقت أبوابها دونه، وتركته على الطريق يلتمس الدفء والمأوى فلا يكاد يجد، واستأنف الفرس عدوه بفارسه المنهزم، حتى بلغ ثغر طرسوس، ولكن المقام لم يَطِبْ للأمير في طرسوس، كما لم يَطِبْ له المقام من قبل، فقد خاصمه «يا زمان» البحري صاحب الثغر، وثار به أهل المدينة، فَأَجْلَوْهُ عن ديارهم، فخرج وحيدًا طريدًا قد ضاقت عليه الأرض، فاعتلى ظهر جواده وأطلق له العِنان، حتى بلغ قصر أبيه الموفق في بغداد بعد غياب عام ونصف عام في حرب لم يظفر فيها بغير الإياب …
وأوى الشاب الثائر إلى بيته صامتًا مكروبًا، لا يكاد يجد مساغًا للطعام والشراب، ولا سبيلًا إلى المنام.

________________________________

١٤ يسرع.
١٥ تعب.
١٦ بلد في الجزيرة على الفرات.
١٧ السواد شعار العباسيين.
١٨ تولى الوزارة.
١٩ من بلاد الشام.
٢٠ ولو شاب شعر رأسي في سبيل الغاية.

قطر الندى ✔حيث تعيش القصص. اكتشف الآن