لم يَطُلْ مقام خمارويه بمصر بعد الوقعة التي كانت، فما هو إلا أن دبر شئون الحاضرة، وجدد آلة الحكم، وجمع شتات السلطان، ثم أخذ يعبئ جيشه لأمر قد خط خطته، وأحكم تدبيره، وكأنما كانت تلك المعركة التي خاض غمرتها منذ بضعة عشر شهرًا أذانًا له بفتح جديد، فخرج إلى الشام في جيش قويٍّ، قد استكمل أهبته واستتم عدته وعدده، وبلغ دمشق فأقام بها حينًا ثم أصعد في البادية موليًّا وجهه شطر العراق …
ولقيه في الطريق محمد بن أبي الساج، فانضم إليه بمن وراءه من غلمانه وجنده، ثم قصد إسحاق في الرقة، فعبر إليه الفرات مع ابن أبي الساج فأزاحه عن موضعه واشتد وراءه عدْوًا، وهو يدك الحصون ويحوز البلاد، حتى غلب على الجزيرة والموصل وبلغ سامرَّا، حيث كانت حاضرة الخلافة، وخطب له محمد بن أبي الساج على منابر الجزيرة والموصل ودعا له.
وخفق قلب الدولة هيبة ورهبة لخمارويه، ورددت الآفاق صدى فتوحه المظفرة، وخبا٢٦ كل نجم إلا نجمه، فلم يَعُدْ أحد يذكر إلا اسم خمارويه، وبلغ من المكانة ما يبلغ فاتح بسيفه.
وسعى الوسطاء بالصلح بينه وبين الموفق فكان، وكتب الخليفة المعتضد بيده عهد الصلح، ووقَّعه الموفق وولده، واعترفت له الدولة بالولاية على مصر والشام والثغور.
وعاد خمارويه من حيث أتى، وسأله محمد بن أبي الساج أن يوليه الجزيرة والموصل، يحكمهما باسمه ويدعو له، ودفع إليه ولده «ديوداد» يصحبه إلى مصر، رهينة على الولاء.
•••
كتب الخليفة عهد الصلح لخمارويه، ثم أوى إلى قصره راضي النفس، موفور الهناءة، كأن لم يكن به ولا بالدولة شيء، فما خلا بنفسه حتى دعا بالشراب والندمان، وجلس غير بعيد منه مغنيه «أبو حشيشة» وقد اقترح عليه صوتًا يغنيه:
قلبي يحبك يا منىقلبي ويبغض من يحبك
لأكون فردًا في هواك فليت شعري كيف قلبك؟
فما انتهى المغني من صوته حتى خلع الخليفة وقاره، وقد نال منه الشراب واستخفه الطرب، فرمى قَلَنْسُوتَهُ ودار في الغرفة يرقص، ولم يزل يدور ويدور حتى سقط من الإعياء بين أيدي غلمانه، فحملوه إلى قصر الحرم، لا يحس ولا يعي.
ذلك كان شأن الخليفة في قصره ذلك اليوم، وقد كان ذلك شأنه في كل يوم، وفي الساعة نفسها كان في قصر آخر غير بعيد من قصر الخليفة اثنان يعنيهما من أمر الخليفة وأمر الدولة ما لا يعنيه جالسين وجهًا لوجه، قد خلا لهما المكان وازدحمت في رأسيهما الخواطر، ولكنهما مما جثم على صدريهما من الهم قد آثرا الصمت، فلا حس ولا حركة ولا بِنْت شَفَة، ولا شيء غير النظرات يتبادلانها في وجوم وأسًى، ذانك هما الأميران أبو أحمد الموفق ولي عهد الخلافة، وولده أبو العباس …
ومضت فترة قبل أن يقول الأمير الشاب لأبيه: «يا أبه … افسح لي صدرك! … لست أنكر عليك ما تفعل، ولكني أريد أن أعرف وجهه … وقد صنعت اليوم شيئًا … أفرأيتك وقد أعطيت خمارويه عهد الصلح، قد أعطيته شيئًا تملكه به أو يملكك؟ … وهل هو إلا ثائر قد خرج على مولاه، فليس له إلا السيف أو يثوبَ٢٧ إلى الطاعة والولاء؟»
قال أبوه: «نعم، وما أراني أعطيته شيئًا أملكه أو يملكني، بل أملك به نفسي وتملك به نفسك، وسيصير إليك أمر هذه الدولة يومًا، فإذا حَزَبَكَ٢٨ يومئذ أمر من أمرك ولم تجد الوسيلة فاعتصم بالأناة وحسن التأني، حتى تُمكِنَ الفرصةُ ويحين الأجل، ولا بد أن يحين …»
قال الشاب في ثورة حانقة: «… لا بد أن يحين يوم تصفر يده من المال … هكذا تقول …» وما أرى هذه ستكون يومًا، وأنت تُقْطِعُه كل يوم ملكًا جديدًا، وتُمَكِّن له فيَغْنَى وَيَشْرَه.٢٩
قال الشيخ في هدوء: «فما تصنع أنت؟»
فبدا الانكسار في وجه الأمير الشاب، وتذكر الماضي القريب فأطرق وعاد إلى الصمت …
ودخل غلام الأمير يؤذنه بحضور بعض من كان ينتظر من أصحاب سره …
وخلا الأمير بأصحاب سره، وهم بضعة نفر من أهل العزم والقوة، ليس فيهم إلا من يتمنى جاهدًا أن يكون على يديه مصرع خمارويه وتقويض دولته، منهم من نشأ في نعمة بني طولون، ومنهم من سلبه بنو طولون نعمته …
وتقدم الأمير إلى حاجبه أن يستوثق من الباب، فلا يأذن لقادم ولا يؤذنه بقادم، ثم أقبل على جلسائه فقال: «ماذا وراءكم من النبأ؟»
قال إسحاق: «إن مولاي لعليم بكل ما هنالك، فما تخفى عليه خافية في أطراف البلاد، ولكن هذا العهد الجديد يا مولاي! …»
قال الموفق: «خلِّ عنك ذلك العهد وحدثني بما عندك.»
قال إسحاق: «فإني لم أزل على ما عهدني مولاي، فليَرْمِ بي حيث شاء، فلن أعصي له أمرًا.»
قال الأمير: «بورك فيك يا إسحاق، وأرجو ألا ينال من عزمك ما تلقى من المكاره في سبيل حفظ الدولة من أطماع الخوارج، ولعلك أن تكون في خرجتك المقبلة إلى الشام أكثر توفيقًا وغنمًا … وسيجتمع لك الجيش قبل أن يستدير هلال العام الجديد … أما أنت يا أبا محمد!»
قال أبو محمد لؤلؤ الطولوني: «أما أنا فما نسيت بعد … وقد أعددت العدة لتحقيق ما أشار به مولاي … وقد أَجْمَعَ أَرْبَعةُ آلافِ أَسْوَدَ مِنْ غلمان خمارويه أمرَهُم على ما يعلم مولاي …»
قال الموفق: «وترى السودان أهلًا لتحقيق الخطة؟»
أجاب أبو عبد الله الواسطي: «نعم، وقد أنفذت إليهم رسولي منذ قريب بما دفع إليهم لؤلؤ من المال، وأحسب ذلك الرسول بينهم الساعة يدبر من أمرهم ما يدبر، وسيكون أول قصدهم إلى صاحب شرط خمارويه،٣٠ فإذا ظفروا به نفذوا إلى خزائن السلاح، ثم يمضي الأمر إلى غايته.»
وتحالف أصحاب السر على الكتمان ثم افترقوا.
_____________________________٢٧ يرجع.
٢٨ ضاق بك.
٢٩ يزداد طمعًا.
٣٠ قائد حرسه.
أنت تقرأ
قطر الندى ✔
Historical Fictionفي موكب لم تشهد مثله بلاد، ولم تعرف مثل عجائبه عروس؛ زُفَّت «قطر الندى» ابنة الوالي «خمارويه بن أحمد بن طولون» من «مصر» إلى «بغداد» زوجةً للخليفة «المعتضد»(خليفة الدولة العباسية آنذاك)؛ وذلك بعد أطماعه بالاستحواذ على خراج «مصر» كاملًا والقضاء على ال...