ومضى الموكب مشرِّقًا يطلب مطلع الشمس، وقد جلست العروس في هودجها بين النمارق والحشايا ناعمة، كأن لم تبرح مجلسها من قصر الأمير، وجلست بين يديها ماشطتها أم آسية تقص عليها من أنبائها كل طريفة تبهج القلب وتسر النفس، وكان في الموكب عمها خزرج بن أحمد بن طولون، وعمتها العباسة، وصفِيُّ أبيها وخاصته أبو عبد الله بن الجصاص، وجماعة من الأمراء والأعيان وقادة الجند على جيادهم المطهَمَة، وبين أيديهم غلمان ومن ورائهم غلمان، وعلى جانبي الطريق حراس من جند خمارويه قد لبسوا الديباج، وعقدوا المناطق المُحلَّاة، وشرعوا سيوفًا بارقة قد سال عليها شعاع الشمس، والنغمات الصادحة يتجاوب صداها بين الشرق والغرب، وعن يمين وشمال في غنوة واحدة:
قطر الندى …
قطر الندى …واستمر الموكب على ترتيبه يسير بالعروس سير الطفل في المهد، ينظره من ينظر كأنه في موضعه لا يتحرك، فليس يحسب حاديه ولا رائده حساب الزمن ولا يفكر في عناء السفر ولا في بعد الشُّقَّة، فقد أعد خمارويه عدته لهذه الرحلة منذ بعيد، فبنى على رأس كل منزلة من منازل الطريق فيما بين مصر وبغداد قصرًا، حتى ليمكن أن تتراءى القصور متتابعة على الطريق كأنما هي مدينة قد استطال طرفاها فأولها على شاطئ النيل وآخرها عند شاطئ دجلة، وحتى لا تكاد العروس النازحة تحس أنها على سفر ساعة من نهار، وإنما هي على تتابع الأيام في قصر أبيها، تتنقل بين أبهائه من بيت إلى بيت، ولا تقع العين فيه بكل نُقلة إلا على جديد، فلا يكاد يمل الراكب أو يتعب الحادي حتى يوافي منزلة، فيجد ثمة قصرًا قد فُرِش ونُضِّد وفيه جميع ما يحتاج إليه المسافر والمقيم، فأعدت فيه المخادع وعُلِّقت الستور وهُيئت المائدة، وثَمَّ الخدم والحشم والجواري والولدان.
وتتابعت الأيام والركب يتنقل من منزلة إلى منزلة …
ونامت أم آسية ذات ليلة في بعض منازل الطريق ثم أصبحت معتلة وليس بها علة، فقد رأت في تلك الليلة تمام الرؤيا التي بدأتها في منامها منذ سنين …
وكان البخور يفوح من مجامر المسك عطرًا مسكرًا، فكأنما حملها الأريج على جناحين من لهب، فطار بها في السماوات، فما تنبهت إلا على صائح يصيح …
وسمعت في تلك الليلة صيحة الصائح، وفهمت عنه وعرفت شخصه، إنه «إبراهيم بن أحمد الماذرائي المصري» يهتف بنبأ ودَّت لو لم تسمعه أذناها ولم يكن …
يا له من حلم مروِّع، ليتها لم تنَمْ …
لو لم يكن لهذا الحلم بداية تحققت لقالت أضغاث أحلام، وهل يصدُق بعض الحلم، ويكذب بعضه؟ …
يا ليت! …ولكن أين منها الاطمئنان وهدوء النفس، وإنها لتترقب الساعة من الأحداث ما لم تكن تتوقع أو يخطر لها في بال، أعِنْدَ صفو الليالي يحدث مثل ذلك؟ …
وطوت صدرها على السر، فلم تكشف لأحد عن خبره، ولم تجد عندها قطر الندى في هذه الغداة ما يؤنسها ويسليها كشأنها معها في كل غداة، فقالت لها عاطفة: «ما بكِ اليوم يا أم آسية؟»
قالت: «لا شيء يا بنية، إنما هي وعكة خفيفة.»
وسكت لسانها، وراحت تحدث نفسها وتستمع إلى خواطرها، وطال صمتها وانقباضها عن مولاتها حتى نالتها العلة، واشتد بها الوجع ذات ليلة في بعض منازل الطريق وأصبحت ميتة، لم تكشف عن سرها ولم تتحدث إلى أحد برؤياها.
وكان على الطريق قبر مهيأ، فألقيت إليه …
واستأنف الموكب سيره، وكانت أصداء الأغاني ما تزال تتجاوب بين الشرق والغرب، وعن يمين وشمال، في غنوة واحدة:
قطر الندى!
قطر الندى!ولكن قطر الندى منذ ذلك اليوم لم تطرب لشيء مما تتجاوب به الأصداء، فقد أحست منذ فقدت أم آسية بالوحدة الخانقة، وهي في الموكب الحاشد، وكأنما خُيِّل لها في اليقظة ما رأته أم آسية في المنام، فانقبضت منذ اليوم ولم تهنأ بسعادة عيش …
واستمر الموكب في سيره، وأصداء الأغاني تتجاوب بين الشرق والغرب، وعن يمين وشمال … وبلغ الموكب شاطئ بغداد، في أول المحرم سنة ٢٨٢.
أنت تقرأ
قطر الندى ✔
Historical Fictionفي موكب لم تشهد مثله بلاد، ولم تعرف مثل عجائبه عروس؛ زُفَّت «قطر الندى» ابنة الوالي «خمارويه بن أحمد بن طولون» من «مصر» إلى «بغداد» زوجةً للخليفة «المعتضد»(خليفة الدولة العباسية آنذاك)؛ وذلك بعد أطماعه بالاستحواذ على خراج «مصر» كاملًا والقضاء على ال...