كان خمارويه في ساعة صافية من أكدار الملك، قد طابت نفسه وهدأت خواطره، فليس يشغله شيء غير أمر نفسه، وما أقل ساعات الأنس والمسرة في حياة ذوي الهمة من الملوك وأصحاب السلطان … إنهم مما يشغلهم مِنْ هِمِّ أنفسهم وهموم الناس لا يكادون يظفرون بمثل هذه الساعة إلا عابرة في العام بعد العام، كأنهم يدفعون ضريبة الجاه والسلطان من سعادتهم ومسراتهم على مقدار ما يكون سلطانهم عاليًا أو نازلًا …
وكان كل شيء في تلك الساعة ساكنًا، كأنما استقال الأمير من تكاليف الإمارة ساعة فأقاله الزمن، وقد جلس بين يديه بنوه وبناته، وقام الوصفاء والغلمان من حوله، ينظرون ما يأمر به وعلى مقربة منه جلست «أم آسية» قابلة أولاده٣١ وحاضنتهم تقص عليه نوادر طفلته اللعوب الفاتنة «قطر الندى».
وكانت «قطر الندى» أحب أطفال الأمير إليه وأدناهم منه منزلة، وكان لها جمال وظرف وقوة أسْرٍ،٣٢ وعلى أنها لم تكن قد بلغت السابعة، فقد كان لها من قوة الإدراك أن تحسن الحديث، وتحسن الاستماع، وتفصل في بعض ما يعرض لها من الأمر …
وأغفلت أم آسية فيما تقص على الأمير من خبر ابنته ما يلزمها من الاحتشام في حضرة الأمير، ورعاية الرسوم الملوكية، وقد كان لأم آسية من الحرمة عند خمارويه ما يسمح لها أن تتبسط في حضرته وتنسى الاحتشام، أليست قابلة أولاده جميعًا وحاضنتهم، ولها عليهم مثل حق العمة ودلال الخالة، فإنها لتقيس مكانتها عند الأمير بمكانتها من ولده.
وقالت: «ودِدْتُ لو أذن مولاي الأمير فقصصت عليه رؤياي ليكون لي بذلك حق منذ اليوم أن أكون ماشطة الأميرة يوم زفافها إلى أمير المؤمنين في بغداد، كما كنت حاضنتها في قصر الأمير، وقابلتها يوم استهلت.»٣٣
قال خمارويه: «هيه يا أم آسية!»
قالت: «كان ذلك منذ بضعة أشهر، وكان مولاي الأمير في سفرته إلى الشام، وخطب إليَّ ابنتي «آسية» شاب من أهل الستر والصيانة، ولم أكن أملك يومئذ ما أتجمل به، وامتنع «أبو صالح الطويل» خازن مولاي أن يدفع إليَّ ما طلبت … وإنه لبخيل …»
وضحك خمارويه وقال: «جزاك الله يا أم آسية! ما يزال هذا دأبك منذ كنت تقدمين المسألة في صدر كل حديث، قولي، وسأدفع إليك ما منعه أبو صالح.»
قالت وأطرقت: «لا زالت نعمتك ممدودة الظلال يا مولاي … ثم إنني قضيت شطرًا من الليل أتحدث إلى مولاتي «قطر الندى» — وكان بها وحشة لغيبتك — وأقص عليها من طريف الأخبار ومليح النوادر ما يؤنسها ويسليها حتى غلبها النوم، فأويت إلى مضجعي، وبعد لَأْيٍ ما٣٤ تخلصت مما كان بي من فكر في أمر ابنتي آسية، وما يلزمها من جهاز العروس، وتسرحَتْ بي الأحلام من وادٍ إلى وادٍ …»
واستمرت تقول: «ورأيتني في قصر لم ير الراءون مثله، قد أخذ زخرفه وازَّيَّن كأنه من قصور الجنة، وسألت: لمن هذا القصر؟ قالوا: هذا قصر ملك المشرق! … قلت: وما هذه الزينة؟ قالوا: اليوم تزف له عروسه بنت ملك المغرب، قلت: وهذه الزينات كلها من أجل ذلك؟ فكيف يكون مبلغه في الاحتفال والزينة لو جاءه النبأ بالفتح والنصر؟ … وكأنما لم يقع سؤالي هذا موقعًا حسنًا ممن سمع، فضحك ساخرًا كل من حولي، حتى استحييت وهممت أن أفلت من الزحام، وسمعت من يقول: ما تقول هذه الشيخة؟ أليست تعرف من يكون ملك المشرق ومَن عروسه؟ فاليوم يجتمع على عرش واحد ملكان قد دانت لسلطانهما الدنيا … وحدق في وجهي محدِّق ثم هتف: افسحوا لأم العروس! فانفرج الناس صفين كأنما مسَّتْهم عصا موسى،٣٥ ورأيتني أمشي في طريق قد فرش حُصْرًا من ذهب، ونُثِرَت عليه حبات الجوهر، وبين يديَّ وصائف كأنهن من حور الجنة يَقْدُمْنَنِي ويَتَكَنَّفْنَنِي٣٦ في طريق القصر الباذخ، وأنا أتهادى بينهن تهادي العروس، وذكرت ابنتي آسية، وتوقعت أن أراها ثمة إلى جانب زوجها «أبي الحسنات» ووطئت عتبة القصر، واجتازت بي الوصائف إلى دار الحرم، وكانت قطر الندى هي العروس جالسة على سريرها في غرفة شارعة تطل من اليمين على نهر مثل النيل، ومن الشمال على نهر تحسبه دجلة … ولم أدرِ أين أنا من أرض الله؟ فلو قلت: رأيت عرش مصر لما أسرفت في التأويل، ولو قلت: إنه عرش أمير المؤمنين في بغداد لكان حقيقًا بأن يكون …»
قالت: «وكان البخور يفوح من مجامر المسك عطرًا مسكرًا، فكأنما حملني الأريج٣٧ على جناحين من لهب فطار بي في السماوات، فما تنبهت إلا على صائح يصيح …»
•••
كان الأمير يستمع إلى حديث القابلة مأخوذًا به، كأنما يتنقل معها حيث سارت منزلة بعد منزلة، فما بلغت من حديثها هذا الحد حتى انتبه من سكرته على صيحة أخرى غير الصيحة التي وصفت أم آسية … ثم تتابعت الصيحات كأن الناس قد دهمهم الفزع الأكبر، فنهض من مجلسه عَجْلان يستطلع الخبر …
وجاء حاجبه مهرولًا يقص عليه: «السودان يا مولاي!»
قال الأمير وفي وجهه علائم الجد: «ما شأن السودان؟»
قال الغلام: «لقد اجتمعت جموعهم، فوثبوا بصاحب الشرطة على غرة٣٨ فألجئوه إلى داره، وما أراه إلا قد هلك في أيديهم.»
ولبس خمارويه شِكَّته، وقصد إلى دار صاحب الشرطة، وفي يده سيف مسلول، فما رآه السودان حتى أخذتهم هيبته، وأعجلهم سيف الأمير فمن ناله منهم هلك، وتفرق جمعهم أباديدَ ذات اليمين وذات الشمال، وتتبعهم غلمان الأمير يقتلون كل من لقوه منهم، فهلك منهم من هلك، واستخفى من استخفى، حتى يبيض وجهه، وسكنت الفتنة وأمن الناس، وعادت الحياة في مصر كما كانت: تجري مجراها آمنة مطمئنة.
وجيء إلى الأمير بهارب من السودان كان مستخفيًا في بعض أزقة المدينة، فلما استنطقه الأمير نطق …
وظهر لخمارويه بعض ما كان خافيًا من أسباب فتنة السودان، فكتب إلى الموفق في بغداد كتابًا يذكره فيه بما بينهما من عهد، ويسأله القبض على لؤلؤ الطولوني والقصاص منه، جزاء سعيه بالفتنة بين جند مصر.
وقُبِض على لؤلؤ واسْتُصْفِيَ ماله، وحُبِس في المطبق.٣٩______________________________
٣١ القابلة: الداية.
٣٢ جاذبية.
٣٣ يوم ولادتها.
٣٤ وبعد جهد ما.
٣٥ في القرآن الكريم أن موسى مس بعصاه البحر فانفلق.
٣٦ يسبقنني ويُحِطْنَ بي.
٣٧ العطر.
٣٨ على غفلة.
٣٩ السجن.
أنت تقرأ
قطر الندى ✔
أدب تاريخيفي موكب لم تشهد مثله بلاد، ولم تعرف مثل عجائبه عروس؛ زُفَّت «قطر الندى» ابنة الوالي «خمارويه بن أحمد بن طولون» من «مصر» إلى «بغداد» زوجةً للخليفة «المعتضد»(خليفة الدولة العباسية آنذاك)؛ وذلك بعد أطماعه بالاستحواذ على خراج «مصر» كاملًا والقضاء على ال...