الفصل الحادي عشر

21 1 0
                                    

هي لم تفارق غرفتها منذ ذلك اليوم ، انتابتها نوبة هلع منذ اللحظة الاولى التي ادركت ما وقعت به ، اخر مرة انتابتها هذه النوبة كانت في السادسة عشر ، عندما قيل عنها ظلماً انها مريضة من قبل أشخاص كانوا الأقرب لها من دون غيرهم  ،ظنت انها تخطتها ، ولكن لا تسير الرياح بما تشتهي السفن ، كذلك المشاكل لا تنوي ان تغادر طريقها ،

تجلس في ذلك السرير وهي تضم ركبتيها الى صدرها ، لتضم بينهما وجهها و روحها ،مخبئه تلك الدموع التي ابت ان تفارقها ، دخلت عليها أريا بصينية الطعام للمرة المئة ،و لازالت ترفض ان تاكل اي شيء ، نظرت اليها الاخرى بحزن ، هي مشفقة على حالها ، لقد عانت منذ مجيئها الى هنا و ليس لها اي ذنب ،
-هيا ديسمبر ، أرجوك كلي حتى و لو لقمة واحدة ، انت لم تتذوقي اي شيء منذ يومان !
نظرت اليها الأخرى بتلك النظرة الباردة ، الخالية من اي تعبير يدل على ما يحصل داخلها .
تناولت ورقة و قلم كانت على المنضدة التي بجانب السرير ، كتبت عليها كلمتان او ثلاث ، لتعطيها لاريا و تقول بنبرتها المخنوقة بسبب كثرة البكاء
-هل بإمكانك ان تجلبي لي هذا الدواء ، انه للربو .
لتلتقطها الاخرى و تومئ لها بسرعة ،غيرمصدقة انها قد طلبت شيء غير المناديل الورقية ،انتهزت الفرصة و قالت
-و لكن عليك ان تأكلي ، لا يمكنك اخذ الدواء على معدة فارغة !
لتضيق عيناها و ترفع حاجبيها بانزعاج،هي تكره ان تُؤْمَر
-من الطبيب هنا انا ام أنتِ ؟
-انا والدتك و ستسمعين الي و تاكلين الصحن بكامله
قالت أريا و هي تشير اليها و من ثم الى الصحن ، واضعة يدها على خصرها بطريقة درامية ، لتلتقط ديسمبر الشوكة باستسلام ، و تبتسم الاخرى ابتسامة انتصار ، فخورة بما فعلته .
-حسنا امي
لتهمس مع شبح ابتسامة صغيرة نمت على ثغرها .

...
نزلت الاخرى لتناول تلك الورقة الى ستيڤان ، و سرعان ما تبدلت الابتسامة التي كانت تملئ وجهها الى عبوس ، بعد ما رأت حال الاخر ، مستلقي على الأريكة و لفافة التبغ بين إصبعيه، وفِي يده الاخرى كوب مليء بالخمر ،

-هل هذا ما تفعله طوال النهار ، تثمل ؟! ارى انك لا تتقدم في الخطة يا ستيڤان ، إما ان تبدأ بالعمل بجد او  تطلق سراح الفتاة ، صرخت في نهاية جملتها ، لقد مَلتْ من حال صديق طفولتها ،
تتذكر كيف كان في السابق ، كانت الابتسامة لا تفارق وجهه ، نكاته السخيفة التي تجعل المقابل يبتسم رغما عنه ، كيف كان يساعد جميع من حوله ،
كانت في التاسعة عندما التقت به لأول مرة ، بينما هو كان في السابعة من عمره ، كانت تعبر الجسر الخشبي الموجود في المتنزه الكبير وسط المدينة ، حاملة حقيبتها المدرسية متوجهة نحو منزلها ، لتسمع خلفها صوت جعلها تقفز من مكانها ، لتستدير لتجده يضحك بشدة ، لتدرك انه أفزعها و ان حقيبتها وقعت في البحيرة ، استدارت اليه غاضبة بينما الدموع سالت على وجنتيها ، لتعود الى المنزل باكية ،بينما هو قفز بسرعة جالبا الحقيبة ، عندما خرج و جدها تركض تاركة المتنزه ، حاول مناداتها و الوصول اليها لكنها تلاشت ، نظر الطفل الصغير الى الحقيبة المبللة التي بين يديه ،تنهد بحزن ، هو لم يقصد ان يجعل الفتاة الطويلة تبكي ، احاط الحقيبة بين يديه و أخذته خطاه الى منزله ، ركض الى غرفته بعد ان لمعت فكرة في ذهنه ، وضع الحقيبة على الارض و بعدها تسلل الى غرفة والدته ليأخذ مجفف الشعر من احد الأدراج ،ليركض الى غرفته حاملا المجفف بسعادة ، قضى الليل و هو يجفف الحقيبة ، الكتب و الدفاتر ، جميع ما كان موجود ، لينظر الصغير الى أغراضها و ابتسامة ناعسة ارتسمت على شفتيه ، ليسقط بعدها في نوم عميق ، متمنيا الأفضل للغد .

كانت السابعة و النصف صباحا ، كان الطفل لازال في فراشه محتضنا تلك الدمية ،قرر اخيرا ان ينهض ليفرك عينيه مزيلا اثار النعاس ، جهز نفسه و حمل حقيبته و حقيبة الفتاة بحذر ، ليخرج و هو يسال و الدته عن مكان والده ، أخبرته انه لم يعد الامس من المختبر ، كسرت طرفا شفتيه ، و لكن سرعان ما ابتسم عندما سالته والدته عن الحقيبة التي بيده ، ليقول في صوت تغمره السعادة
-انها لفتاة افزعتها البارحةً في المتنزه الكبير فوقعت حقيبتها في البحيرة و لم استطع إعادتها اليها ، لذلك جففتها بمجفف الشعر و .." و ضع يده على فمه و انفرجت عيناه بصدمة ، لانه ذكر المجفف ،ضحكت الام على ردّك فعل صغيرها ، لتقرصه من خده و اومأت له كموافقة ، ليبتسم سريعا و يطبع على خدها قبلة و يودعها بعدها ، ذاهبا الى وجهته مع ابتسامة رسمت على محياه

حان وقت الاستراحة ، ركض سريعا خارجا من الصف الى باحة المدرسة ، هو متاكد انها في مدرسته ، ففي مدينتهم الصغيرة توجد عدة مدارس موزعة و بما انها كانت في المتنزه الكبير و الذي يقع بجانب المدرسة و كانت عائدة مشيا فهذا يعني ان منزلها قريب جدا ، مسح نظره في الجوار ، بحث عن اي إشارة  تدل على وجودها لكنه لم يجد ، حزن الطفل و لكنه فجاة شعر بيد على كتفه تديره الى الخلف ، نطر ليجدها هي ، شهق عندما وجدها و اتسعت ابتسامته ، لكن سرعان ما اختفت عندما رأى نظرات الغضب على وجهها نقل نظره الى بعض الكتب التي بيدها ، كانت جديدة ، ليردف مسرعا ناظرا في عينيها ،
-هل قمتي بشراء كتب جديدة ؟
-و هل باليد حيلة من بعد فعلتك ، كانت صوتها معاتبا له
ليرفع يده امام عينيها ، حيث كانت اطول منه ، ناولها الحقيبة و على وجهه عبوس و حزن
-قضيت الليل في تجفيفها ، انا أسف ، اقسم انه لم يكن عن قصد ما حدث ، لو علمت ان أغراضك ستسقط لما فعلت ما فعلت ، كل ما اردته هو المرح .
ابتسمت الفتاة من بعد نا استمعت الى كلامه باهتمام ، لتقول و على وجهها ابتسامة راضية ،
-انا أسامحك ! إذن اصدقاء ؟
قالت له وهي مادة يدها و مقفلة يدها ماعدا إصبع الخنصر ، حيث كان شامخ من دون الاصابع دالا على انها تريد صداقته
ابتسم و مد يده هو الاخر و بنفس الحركة ، تعانق اصبعيهما ، اشارة على بدء قصة صداقة جديدة ،

-
كانت لازالت في سريرها ، ممدة من دون اي حركة ، سوا يديها التي لا زالت ترتجف ،عيناها مثبتة على ستار النافذة وهي تتموج بسبب نسمات الهواء ، الغرفة مظلمة بالكامل عدا ذالك النور الطفيف الذي يرقص مع الستار ، لم تشعر بذلك الذي يدخل غرفتها و يجلس على الكنبة التي امام سريرها ، اخذ ينظر اليها مطولاً ،كانت هادئة ، ليست كآخر مرة رآها ، قاطع ذلك الصمت صوتها و هي تقول من دون النظر اليه،
-الى متى ستظل تحدق في ؟
ابتسم ابتسامة جانبية و تجاهل سؤالها و هو يستقيم متجها نحوها ،
-لم أكن أظن ان الأطباء النفسيين يعانون من أمراض نفسية ؟!
أدارت راسها و اخيرا و نظرت اليه ، بتلك العينين الزجاجية بصدمة ، سؤاله احزنها ، كسرها ، هي تكره ان يعلم احد بحالتها هذه ، و هو يستفزها بها الان ، لم تجد نفعا من الرد عليه او الشجار ، نطقت بعد صمت مريب ،
-مالذي تريده ؟
-اتيت لأعطيك هذا ، مرر لها كيس ازرق صغير ، هي علمت انه دواء لحالتها ، من خلال الكيس و تلك الرسومات و العبارات عليه ، أخذته بيديها المرتجفة و ورمته على المنضدة التي بجانبها ، نظرت اليه مرة اخرى ، كان يحاول التحدث بأمر ما ، اخذت ثواني قليلة حتى اعادت سؤالها له ، هي تعلم ان الدواء ليس السبب الرئيسي لمجيئه ، نظر اليها و اختصر كل شيء و خرج .

فَراغْ مُزدَحمْ ||F.Sحيث تعيش القصص. اكتشف الآن