كانت صفية تجلس القرفصاء في سرير غرفتها وهي تقرأ باهتمام ونهم شديد تلك الرسائل التي جلبتها المحامية قبل أن تقدّم إفادتها.
( صديقتي صفية سأخبركِ بقصة قصيرة لابد أن تكوني تعرفينها ولم تكن لكِ عابرة لابد أن تكون محفورة لديكِ في مكان ما وها أنا سأسردها لكِ اليوم في هذه الرسائل العديدة علّها تعيد لكِ صديقتكِ ذكرى التي نسيتِها. )
الرسالة الأولى لقاءٌ مرعب:
{ في يومٍ من أيام الطفولة وحين كنتُ أبلغ من العمر ثمانية أعوام انتقلنا لمنزلٍ جديد. وفي أول يوم لنا لم أنتبه على اختفاء قطتي الصغيرة "سالي" إلا بعد حين ثم بحثت عنها في أرجاء المنزل ولم أجدها، وحين عمّ المساء خرجتُ باحثة عنها ولم أجدها،لكن سمعتُ صوت مواء قطة قريبة فهرعت مسرعة علّها تكون سالي فركضت خلف ذلك الصوت،حتى وجدت سالي بين يديّ فتاة صغيرة ترتدي فستاناً أبيض اللون أو بعضه كان أبيض تملؤه الخرق والتشققات لكنه كان واسعاً عليها لأنها كانت شديدة النحول والضعف.ولها عينان واسعتان سوداوان وجميلتان. وذلك الشعر الأسود الطويل قد رُتّب بجديلة على الجانب الأيسر لكن تلك الملامح اللطيفة لم تشفع لها بأن سرقت سالي مني!
فهرولت إليها وأنا غاضبة وسحبت قطتي منها بعنف وصرخت في وجهها بقسوة:
-"أيتها السارقة لمَ تأخذين سالي مني ؟!
لقد كنتُ أبحث عنها طوال الوقت! "
اجتمعت الدموع في عينيها الجميلتان وكانت تتلعثم في حديثها،ولكني لم أدع لها فرصة لتدافع عن نفسها بل صرخت في وجهها بأنها سارقة!
حتى خرجت امرأة مخيفة من المبنى الذي كنا نقف عنده ونادت على الطفلة بصوت خشن حاد فركضت إليها مسرعة وهي ترتجف وترتعش كدجاجة صغيرة.
-" صفية! ماذا تفعلين ألم آمركِ بأن تطردي تلك القطة اللعينة من المنزل؟! لماذا تخرجينها لتوكِ ؟! "
فأجابتها بصوت خائف ومرتعد فلا يمكن أن أنسى تلك النبرة المرعوبة:
-"لقد.. أدخلتها فقط لتشرب الماء...والآن سلّمتها لصاحبتها.."
وفجأة قامت المرأة المخيفة بصفعكِ بشدّة حتى وقعتي أرضا.ثم سحبتكِ بقوة وعنف وهي تشدكِ من تلك الجديلة وترمي اللعنات والشتائم عليكِ، لكن رغم هذا لم اسمع لكِ صوت بكاء أو نحيب كأنما أصابكِ عجز وشلل في كل شيء حتى في المشاعر!
وحين رأيتُ ذلك المشهد ارتعشت وارتجفت كل خلية بجسدي وهرعت مسرعة إلى بيتنا الجديد الذي لم أستطع أن أنام فيه في ليلتنا الأولى. وانا اتذكر صوتكِ المرتجف الضعيف ومنظر تلك المرأة المخيفة الطويلة القامة وعيناها التي تمتلئ شراً ويداها تضرب بقوة وكأنها تمسكُ درعاً يجعل من ضرباتها مؤذية بشدّة !! }الرسالة الثانية العيش دون عائلة! :
{ في اليوم التالي انتظرتُ أن ينتهي الدوام المدرسي بفارغ الصبر،لكن ليس لأجل أن أعود للمنزل بل للذهاب لمكان لقائنا البارحة. وحين جاءت الظهيرة ركضتُ مسرعة وكلي حماسة واندفاع، لكن ذلك المنظر الذي رأيته فور وصولي أوقف دهشتي واطفأ حماستي! رأيتكِ تمشين ببطء وتثاقل مع مجموعة من الفتيات الصغيرات وقد حملتنّ حاجيات بدت ثقيلة على أجسادكنّ الهزيلة الضعيفة، وشمس الظهيرة تحرق جلودكن ويتضح من الإعياء الذي بدا عليكن أن مسافة المسير كانت طويلة وشاقة! لكن رغم هذا أصررتُ على المضي إلى ما كنتُ قد عزمتُ عليه ليلة البارحة.
فتقدمت ببطء نحوكِ والخجل والندم يملئاني،فنظرتِ إلي بدهشة وتلك كانت المرة الأولى التي لاحظت فيها أن عينيكِ بدت سوداء صافية كسماء في ليلة هادئة
ثم قلتُ لكِ بتردد وتوجس:
-"صفية.. اسمكِ صفية صحيح؟! "
-" نعم اسمي صفية.."
-"وأنا اسمي ذكرى.. لقد أتيتُ إليكِ لأعتذر عما قلتهُ بالأمس لقد قسوتُ عليكِ بالكلام ودعوتكِ بالسارقة أنا آسفة صفية" توقعتُ منكِ أن تتجاهلني وتذهبين دون قول أي كلمة.
لكنك ابتسمت لي بشحوب وقلت:
ِ-"لا عليكِ المهم أن قطتكِ قد عادت إليكِ"
-" لكن بسببي وبختكِ والدتكِ..وقامت بضر.."وقبل أن أكمل جملتي قاطعتنّي بغضب وشدّة أفزعتني !
-" تلك ليست أمي! "
جفلتُ ولم أفهم رد فعلكِ العنيف فسألتُ بتعجب:
-"إذاً من تكون؟! لمَ قامت بضربكِ ؟! أليس هذا منزلكِ ؟! "
لكنكِ لم تجيبي عليّ بل اكتفيتِ بأن رفعتِ اصبعكِ مشيرةً إلى لوحة كُتب عليها
( دار العدالة لرعاية الأيتام ) ثم ركضتِ مسرعة وأنا اسمع بكائكِ الذي حاولتِ كبته أمامي!
وعدتُ للمنزل وأنا اسأل والديّ عن ذلك الدار وأنا لا أفهم شيئاً، لكنهما لم يجيبا عليّ بالشكل المطلوب بل باختصار واقتضاب جعلني حيرانة أكثر! وأنا التي اعتقدت أني وحيدة لأن ليس لدي اخوة! علمتُ حينها أن هناك أطفالاً بلا أب و أم يعانون وحدة لا يمكن أن يعيها بشر !
ومرة أخرى ذلك الصوت الباكي الضائع لم يجعل عينيّ تنام في تلك الليلة! }
الرسالة الثالثة تعارفٌ على الطريق:
{ ومنذ ذلك اليوم حرصتُ على رؤيتكِ بعد عودتي من الدوام المدرسي. وقد كنتِ خجولة وهادئة في بداية حديثي معكِ،
لكن مع مرور الأيام كنتُ اسمع ضحكتكِ بصخب على نكاتي السخيفة! لكن وقت الحديث معكِ كان قصيراً فلم أستطع أن احكي لكِ عن قصة شرائي لقطتي سالي ولا حتى عن قصص الأميرات والمحاربين والفرسان والحيوانات اللطيفة التي كنتُ اتابع أفلامها الكرتونية بشغف على شاشة التلفاز. كون أنكن في الدار لا تملكن تلفازاً فكنتُ أود بشدّة أن أحكي لكِ تلك القصص المثيرة. وبعد فترة خطرت على ذهني فكرة أن اللقاء بكِ في الحديقة العامة والتي هي في طريق ذهابكِ لإحضار متطلبات الدار. فكنّا نتسامر ونضحك ونحكي بشغف وسعادة ثم تعودين مسرعة للإنضمام لبقية المجموعة. ومع الأيام بدأت فتيات المجموعة ينضمين إلينا لسماع حكايات أفلام الكرتون بشوق واندفاع كبير!
وكنتن تنادينني جميعا بـ "أُختنا ذكرى "
وأنا التي لم أكن أعرف الأخوة بعد! وكن تقلن جميعاً جملة لم يمحوها الزمان أو يطويها بل ظلّت حية ومنتعشة بوجداني بذات الأثر مذ أن سمعتها !
"أختنا ذكرى أنتِ تروين لنا الحكايات الشيقة الممتعة كما يفعلن الأمهات لأبنائهن قبل النوم.لكننا لا نملك أمهاتٍ اليوم.
لكن على الأقل لا زلنا نملك حكايات ما قبل النوم ! "
ولكن تلك اللحظات السعيدة لم تستمر طويلاً فمنذ أن سردتُ لكم الحلقة الأخيرة من الفيلم الكرتوني"عهد الأصدقاء" لم تعد تأتي واحدة منكن! انتظرتُ ليومٍ وثلاث وأربع فأسبوع ثم أسبوعان! لكن لم أستطع أن أراكِ ولا حتى فتيات مجموعتكِ! بل رأيت مجموعة فتيات أخريات أصبحن يجلبن حاجيات الدار. لكن لم اجرؤ يوماً على الإقتراب منهن للسؤال فقد كانت هذه المرة تمشي برفقتهن تلك المرأة المخيفة! }
أنت تقرأ
لم تكوني يوماً وحيدة
ChickLitسَتَبْدُو لَكَ فِي بَادِئِ الأَمْرِ حِكَايَةَ صَدَاقَةٍ عَادِيَّةً تَجْمَعُ بَيْنَ الفَتَاتَانِ.لَكِنْ الغَرِيبُ أَنَّ اِجْتِمَاعٌ الصَّدِيقَتَانِ لَا يَتَعَدَّى بِضْعَ مَشَاهِدَ وَأَحْدَاثٍ! فَمَا حِكَايَةُ تِلْكَ الصَّدَاقَةِ البَعِيدَةِ القَرِيبَ...