الفصل الخامس

34 0 3
                                    

كانت ذكرى تجلس في زاوية غرفتها ولم تتوقف دموعها للحظة. شعرت بفراغ كبير اجتاح المنزل فجأة، قامت بتثاقل نحو غرفة صفية لقد أرادت أن تتأكد من رحيلها بالفعل ما زال عقلها لا يصدق أو لا يريد أن يصدق!  فتحت خزانة ملابسها وتأملت بصمت في الأثواب الكثيرة التي تركتها من خلفها،لقد علمت أن تلك القرية البسيطة الفقيرة لا تحتاج لثياب المدينة الفاخرة والغالية. نظرت ملياً نحو الفستان الوردي الزاهي التي كانت ترتديهُ صفية يوم ميلادها وحدثت نفسها بحزن عميق" آه ما أسعد تلك الأيام واسرعها إنها تبدو بعيدة جداً ! لكن كل ما حصل قد بدأ منذ ذلك اليوم. إنه يوم غلطتي واندفاعي خلف حماقات وسام كنتُ دوماً متهورة وطائشة لم أبالي مرة بنصائح صفية لي ! لكن اليوم هي لم تبالي بي أو بدموعي حتى أنها لم تبالي بصداقتنا ورحلت بعيداً ! كل شيء كان بسببي وخطأي ما ذنب صفية في كرهي للمعلم جواد ما كان يجدر أن ارميها في تلك الورطة، لكن ما يوقف عقلي ويشلّه عن التفكير كيف تم التوصل إلى الصور وهي بحوزتي ؟!! ومن هو الذي فعلها ونشر الفضيحة في كل موقع ؟!! ليتني أعرفهُ لأحطم رأسه على هذه الوقاحة " فجأة لمحت ذكرى في أسفل الخزانة حصالّة صفية.فتحتها لتتأكد من أخذ صفية لمصروفها الشهري معها لكن المفاجأة أن المصروف كان كاملا لم يمسسه أحد !


هرعت ذكرى مسرعةً نحو والدتها وهي تتنفس بصعوبة وبدا الشحوب عليها:
-"أمي أمي انظري ماذا وجدت! صفية تركت مصروفها الشهري ولم تأخذ منه شيئاً لقد رحلت بلا نقود إنها لا تريد شيئاً منّا !! "
-"حتى أنها رفضت المال الذي أعطاهُ والدكِ لها. بماذا تفكر هذه الفتاة كيف ستسافر بلا أموال تُقلّها للحافلة ؟!! "
-"أمي أرجوكِ دعيني ألحق بها وأسلمها شيئاً منه. "
-"لن تقبل يا ذكرى إنها عنيدة ولم تعد تتحمل أي جميل أو قبيح منّا، ثم أين ستذهبين في هذا الليل الممطر؟! إن محطة الحافلات بعيدة ولن تصلي قبل..."
-"لم تذهب إلى محطة الحافلات مباشرة أنا أعلم إلى أين وجهتها أولاً. لن أتأخر يا أمي لا تقلقِ سأحاول أن أسلّمها المبلغ بطريقتي.. " وهرولت مسرعة نحو غرفتها لترتدي معطفها الأسود الثقيل وشالاً قاتما من الصوف وحملت مظلتها وخرجت بعدها وأقدامها تسابق بعضها البعض.
"لا يمكن أن تُحملي نفسكِ المزيد من أقاويل الناس وافتراءاتهم يا صفية! كيف تذهبين الى منزله بعد ما حصل؟! لابد أن تأخذ المبلغ مني بدلاً من ذلك الوغد الذي ورط صديقتي ويريد أن يورطها أكثر بسبب جهلها وطيبتها لن أسمح له بذلك ! "





سكنّتْ الأصوات وخملت عدا هدير الأمطار وهي تراقص أرجاء المدينة لتجدد الأرواح المنهكة وتعطيها أكسجين من الأمل.
جلست صفية قرب المعلم جواد عند موقف الحافلات وسحبتْ نفساً عميقاً وهي تتأمل السماء الكالحة بود وحنين:
-" لطالما كنتُ أحبُّ اللعب والرقص تحت الأمطار في طفولتي حتى المرض ! كانت أمي توبخني دوماً على خروجي حتى أنها اخيراً أغلقت الباب وقت نزول المطر وخبأت المفتاح عني! كنتُ أتأمل الأمطار من النافذة وأنا منزعجة ومستاءة وكأنه صديق حميم لم أرحب بقدومه ! أعتقد أني الآن سأستمتع باللعب تحت المطر في القرية أكثر من هذه المدينة ! "
-"عن أي قرية تتحدثين ؟ هل ستتركين المدينة لماذا ؟!! أيمكن أن تشرحي لي شيئاً بربكِ ! "
-"سأغادرُ يا معلمي إلى القرية عند عمي لأعيش بكرامتي وشرفي التي لم يعد يراها أحد هنا ! حتى من عشت تحت كنفهم لسنين طويلة.. "
فتح عينيه بصدمة وذهول -" هل قاموا بطردكِ من المنزل ؟!! والديّ ذكرى صدّقا الخبر اللعين؟! إنِّي لا أكاد اصدق خلّتهم من أعقل الناس وأشرفهم حين أخذوكِ من الميتم وتبنوكِ لكن...يبدو أنكِ كنتِ لقمة سائغة لأجل ابنتهم الوحيدة ! تباً كان عليّ ان لا أدّعكِ معهم منذ البداية لقد ظهرت حقيقتهم.. "
-"ارجوك يا معلمي هذا يكفي! لا يمكن أن ارد لهم المعروف أياً كانت نيتهم اتجاهي. لقد ساعدوني واعتنوا بي ثمان سنين وهذا ما لا يمكن أن أغفل وأتغاضى عنه، ليس من شيمي أن أنسى معروفاً وفضلاً عليّ لكني اكتفيتُ أيضاً من أنٍ أُحمّل نفسي مزيداً من الأعباء والفضل.. أريد أن أُعتق رقبتي من التعلق بأستار الآخرين ! "
-"لكنكِ لا تزالين طفلة !! اتسمع اذنيكِ ما يخرج من فمكِ ! انتِ تحتاجين إلى مأوى وعائلة تعتني بك..حسناً اسمعي يمكنكِ المجيء معي إلى البيت وهذا ما كان يوصي به والدكِ كان علي أن استمع لوصيته لكنكِ رفضتي أن ترحلي معي وفضلّتِ عائلة ذكرى. دعينا من الماضي الآن..لن يمسكِ احد بسوء و زوجتي كذلك تحبكِ وتحترمكِ ولم تُصدّق الهراء الذي ألصقوه بنا حتى أنها أرادت أن تطمئن عليكِ. يمكنكِ أن تكوني ابنتها التي لم ترزق بها ستفرحُ بكِ جداً. وبالنسبة لأبنائي لا تهتمي الاثنان متزوجان وفي منزلهما واصغرهم سيكون في الطابق العلوي بحيث يكون الطابق السفلي لكِ خاص فيكِ ولن يزعجكِ أحد، أيعقل أن اترككِ في الشوارع والقرى الفقيرة ماذا سيقول لي والدكِ لو كان حياً ؟!!! "
تنهدت صفية بأسى ونظرت ملياً نحو معلمها-"معلم جواد ألم تعي ذلك بعد ؟! ألم تعي أننا غرباء !!! "
انزل المعلم رأسه بأسف واستياء:
-"نعم نحن غرباء في مجتمع غريب..لكن ما أعلمه ايضاً اننا قد نكون عائلة في يومٍ ما"
قُبض قلبها واضطربت ولم تفهم إلى ما يرمي به المعلم ونظرت إليه كمن يريد أن يستوضح أكثر، لكن المعلم تجاهل نظراتها متعمداً وسألها:
-"تلك القرية تعيش في التخلف لقد قاموا بطرد والدكِ حين كانت امكِ تحملكِ في أحشائها، لقد أذوها وضربوها و لم يرحموها، فقط لأنها مختلفة عنهم، لأنها ليست من اهل القرية، حينها اضطُر والدكِ أن يرحل بعيداً عن تلك القرية حفاظاً على كرامة زوجته وحياتها وحياة طفلته التي لم تولد بعد! كيف تريدين العودة لمن عذبوا اهلكِ هل جننتِ يا فتاة ؟! "
-"سأتحمل كما تحمّلت أمي ثم إني سأعمل في القرية ولن أكون عالة عليهم كما كنتُ هنا ! "
-"صفية ابنتي الغالية...انّي أشعرُ بالذنب حيالكِ لقد كنتُ سبب...توريطكِ في هذا المنزلق المؤلم أعلم أن أي اعتذار لن يكون ذا قيمة لكِ. لكن لتعلمي أني لن اسكت على هذا الظلم والافتراء عليكِ وسأكشف الحقيقة حتماً، حقيقة عزتكِ وشرفكِ وكرامتكِ المصونة أمام الجميع ولن يهدأ لي بال حتى أرى ضحكة عينيكِ الهادئتين من جديد وتتجلى الحقيقة للحاسد قبل الصاحب! أعدكِ بهذا وعد شرف. "
شعرت صفية أخيراً بأن الحمل الثقيل يخفف عن كاهلها، كانت تعلم أنه لن يرضى بما حصل وسيذهب خلف الحقيقة حتى آخر عمره! لقد كان رجلاً شهماً وشجاعاً يواجه الجميع ولم يكسر أو يحنث عن وعد قطعه. لأنه كان يعي أن إخلاف الوعد بمثابة دّق المسمار الأخير على النعش ! لكنها تعلم أيضاً أن سمعته ومهنته في خطر وشيك بسبب قربه منها، لذلك أرادت أن ترحل بعيداً عنه ليعلم الجميع أن لا علاقات سرية بينهما وينتهي كل شيء.
-"كنتُ أعلم بأنك ستقف بجانبي لكن يا معلمي ألا ترى أنك كذلك قد...تطاولوا على سمعتك ؟ لا أريد أن أورطك معي أكثر واجلب لك المصائب. لقد اخبرتك أني سئمتُ أن أكون الفتاة التي ينّظفون الفوضى من خلفها ! أريد أن أتحمل مسؤولية نفسي يجب أن أواجه الحياة. يكفي اختباءً وهروب خلف الآخرين.. لا ترمي بنفسك لأجلي! "
ضحك المعلم جواد بسخرية وحدّق في عينيها مباشرة-"يبدو أنه هروب من افعال الماضي يا صفية ! قلتِ أنكِ لا تريدين أن تنظف الفوضى من خلفكِ لكن ما أعرفه أنكِ رميتِ فوضاكِ على الآخرين أليس كذلك؟" جفلت صفية وصُدمت مما يقصده المعلم:
-" ماذا تقول لم أفهم ؟!! أي آخرين ! "
-"ألم تكونا انتِ و ذكرى الفاعلتان وليست وسام ؟!! "
احمر وجهها خجلاً وهي تخبئه وقررت الكشف عن كل شيء فلوم الضمير مزقها ولم تعد تتحمل أكثر -"نعم لقد كنّا نحن...وسام كانت شريكة في إخبارنا بزمن قدومك وصاحبة الفكرة بالطبع ونحن من نفذها ! لكن اقسم لك يا معلمي لو عاد بي الزمن ما كنتُ لأفعل ذلك الخزي وأخون ثقتك بي. لكنهم خدعوني ذكرى و وسام ضغطوا عليّ لأرضخ لهما...كلا هذا كذب لقد فعلتها بمحض إرادتي.. إن للمرء  إرادة واختيار على ما يقترفه لكنه يحاول أن يخادع نفسه بأنه مُجبّر حتى يمرر سوء أفعاله ولا يكشف ضعف نفسه وهوانها أمام شهوتها ! "
-"أنا لم أسألكِ هذا لأحاسبكِ ليس هذا الوقت المناسب، لكن ما أريدُ معرفته عن وجود ذكرى معكِ في ذلك اليوم ؟! "
-"هاه ! نعم كانت معي وهي من اقترحت أن أُلهيك بالحديث في المقهى حتى يتسنى لها تصوير أوراق الامتحان."
-"وكذلك تسنح لها الفرصة لالتقاط صورنا ونحن في المقهى أليس كذلك؟!!"
ارتعشت صفية بالكامل وهي لا تكاد تستوعب ما قاله المعلم تحشرج صوتها وارتجف باضطراب -"ماذا تعني يا معلم جواد ؟!! لا يمكن أن تكون هي.. ارجوك أرجوك اخرج هذا الشك من راسك..ذكرى صديقتي أتعلم ما أعنيه بصديقتي صحيح ؟! "
-"بل ممكن ومنطقي جداً يا صفية. انتبهي لما سأقول وحكمي عقلكِ قبل قلبكِ،أولاً: لم يكن بالمدرسة غير أنا وأنتِ وذكرى  في الطابق العلوي وفي السفلي عامل المدرسة فقط. وكذلك زاوية التقاط الصورة قريبة من مكتبي الذي كانت تقف عنده ذكرى.
ثانياً: إنها تُكن لي بغض غريب انتِ أول من يعلمه ! لا أستبعد أن تكون فعلت هذا للحط من قدري ومكانتي في المدرسة.
واخيراً لقد حذرتكِ مراراً من أن ذكرى صديقة سوء لكِ ودوماً ما كانت تورطكِ في المشاكل وآخرها حين كُنتِ شريكة معها في تسريب أوراق الامتحان واليوم...حين قامت عائلتها بطردكِ تأكد لي أن تلك العائلة لا خير فيها ! وربما كانوا على علم أن ابنتهم خلف الفضيحة فقاموا بطردكِ لأبعاد التهمة عن ابنتهم والتخلص منك ! "
أمسكت صفية رأسها وهي تصرخ بهستيريا والصدمة هزتّها :
-" كلا كلا كلا كذب.. لا يمكن أن تشوه ذكرى سمعتي لا يمكن أن تكون بهذا السوء.. لا يمكن أن تخون عهد صداقتنا غير ممكن كذب كذب !! "
-"صفية اهدئي يا ابنتي أعلم أن هذا يصعبُ عليكِ أعلم أنكِ لن تصدقي ما قلتْ لكن الأدلة تثبتُ صحة قولي. ارجوكِ فكري بعقلكِ وسترين الحقيقة كالشمس الساطعة...لكنها ستكون حارقة بالطبع ! "
-"أعلم انك لا تثق بها ولا تطمئن لها..نعم قد تكون غير صالحة لي لكنها ليست بهذا السوء والحقارة! لا تحدثني عن العقل أنا لا أرى ولا أعلمُ عن الصداقة سوى القلب. ذكرى لا يمكن أن تطعن قلبي وتجرحه أنا أعلم ذلك ! "
ربّت المعلم جواد على كتفيها بحنان وعطف شديد وهو يأسى على حالها الذي يتلقى الصفعات المتتالية لكن الحقيقة يجب أن تنّجلي ويتلاشى الغمام الذي يحجبها. -"صفية عزيزتي لتعلمي أن في الصداقة خيانة وغدر وفي الحب والزواج والعائلة والأخوة وحتى الوطن ! لولا الخيانة لما عرفنا الوفاء وقدرنّاه وضحينا لأجله وتغنينا به وبصاحبه. أعلم أنكِ لن تصدقي ما أقول ولو حدثتكِ إلى طلوع الشمس لذا أريد منكِ شيئاً واحداً سيزيل الشك الذي يحوم في رأسي. "
مسحت صفية دموعها بقوة وإصرار وكأنها تريد أن تثبت للمعلم أن من يعطي الثقة لا يمكن ان يخونها صاحبه.
-"أريدُ منكِ فقط أن تعودي للمنزل بأي حجة كانت وتتأكدي من وجود الصور في هاتف ذكرى المحمول أم أنها مجرد أوهام معلمكِ الحريص عليكِ من أصدقاء السوء ! "
-"صفية اخيراً وجدتكِ ! "
صُدم الاثنان من الشخص الماثل أمامهما وهو مبتل الثياب من الأمطار الغزيرة.
-"ذكرى!! ما الذي أتى بكِ ؟ ألم نودع بعضنا وتنتهي تلك الحكاية ؟!! "




لم تكوني يوماً وحيدة حيث تعيش القصص. اكتشف الآن