الفصل الواحد والعشرين

55 2 0
                                    

-"انظري صفية لقد تفتّحت الأزهار بجمال ربانّي آسر.كنتُ اعتني بالأزهار حين كنتِ في الغيبوبة الطويلة مثل ما تحبين." كان يتحدث فراس بحماسة ونشوة بالغة كأنما يحاول أن يخفي خذلانه مرتدياً قناع السعادة الزائف!
-"لم أتوقع منك أن تكون بهذا اللطف أيها الطبيب!"
-"يا إلهي يبدو بأنك تتصورين بأن جميع الأطباء عديميّ الحس والمشاعر ومحبين لمناظر الدماء والتشريح! أليس كذلك؟! "
ضحكت صفية بمرح ثم أردفت سؤالا له:
-"ترى لماذا قررت أن تكون طبيباً ؟! "
-"سؤال لطيف لكن إجابته تبدو عصية بعض الشيء..حقيقة لا أعلم بالتحديد لماذا !
هناك أسباب عديدة لاختياري، لكن أعتقد أن أساسها هو ذلك الشعور الذي يجعل قلبي يطربُ فرحاً ورضى حين أكون عوناً للآخرين..حتى هذه الأزهار حين كنتُ اعتني بها كانت تُشعرني بالسرور."
بدت صفية تتأمل كلماته بصمت وشغف وهي تشعر بمتعة العائدين للحياة حين  تتحدث معه.
-"أتعلمين صفية هناك زهرة واحدة ترفض القُرب منها لكن يا لسوء الحظ..أن تلك الزهرة وحدها هي من امتلّكت قلبي ! "
ثم صوبّ نظره إلى عينيها مباشرة ونظرات الخيبة والخذلان منّحوتة على وجهه بوضوح.
ارتبكت صفية بالكلية وقد بدا حديثها متلعثماً يتخبط في معناه:
-"ماذا..تعني فراس..أنت تفهم الأمر..بشكل آخر.."
-"صفية بربكِ اصدقيني القول..لماذا ترفضين الزواج؟! لقد استحلفتكِ بالله."
وكانت كلماته تخرج بصعوبة من تلك الغصة التي تقف في حنجرته.
أنزلت صفية رأسها بحزن ويُسمع صوت شهقاتها وهي تحاول أن تنطق بما كتمته عن الجميع.
ثم استجمعت قواها ورفعت رأسها وهي تصرخ في وجهه بقهر وانفعال شديدان: -"فراس لا تكن ساذجاً ! إن أي رجل لا  يمكن أن يرتبط بفتاة نُشرت عنها الإشاعات وتعرضت سمعتها للأقاويل!! ستظلُّ لّعنات المجتمع تُلاحقك وألسنتهم الحادّة تجرحك وتطعنّك ومعاملتهم الفظّة ستشملك وتكسرك!! لا يمكن أن أعرضك لهذا الويل يا فراس لا يمكن! هل تفهم هذا ؟! "
ضحك فراس بتهكم شديد وهو لا يكاد يستوعب ما قالته للتو:
-"بأي هراء تتفوهين أنتِ ؟! أنا أريدكِ أنتِ صفية لا أريد أن أرتبط بالمجتمع!..صفية أنتِ ستُفقدينّني صوابي حتماً !! اسمعي هذا منّي جيداً: حتى لو تحدث العالم أجمع بتلك الإشاعات لا يهمنّي هل تعلمين لماذا؟! "
-" لماذا ؟! "
-"لأنها مجرد إشاعات ليس لها أصل من الواقع !! صفية المهم هو أني أعلّمُ بأنكِ نقية كالماء العذب الزُلال ولو كان من نصيبي أن أُصاب باللّعنات عند شربي من هذا الماء العذب فليكنّ إذاً !"
عندها فُتح باب المنزل الخارجي ليدخل المعلم جواد ويُفاجئ هو الآخر بوجود فراس بينهم !

***

-"ما هذا الوجه المُضطرب بهموم العالم وهو مسجون هنا لا يعلم شيئاً عن العالم يا ذكرى ؟! "
كانت ذكرى تسحب أنفاسها بمشقة وتوتر وهي تجلس بجانب سديم ثم أجابت بصوت خافت-"سديم..لا تلّتوين معي كالأفعى إني أعلم ما تريدينه مني! "
-"عظيم جداً يا ذكرى البريئة.يعجبني هذا المزاج الحادّ لديكِ..إنه يشعرني بعنّفوان الحياة وقوتها بدل الأموات الذين حولي! لأجل هذا اخترتكِ أنتِ بالتحديد لأجل المهمة القادمة."وبدا طيف ابتسامة شحيحة على شفتّيها المنتفخة جراء جرح حديث أصابها.
-"هه..وكأنه شرف لي أن أحظى بإعجابكِ! مع الأسف لستُ سعيدة بهذا أبداً !!"
أطلقت سديم ضحكة ساخرة بصخب:
-"رباه من أين لكِ بهذا اللسان الحاذق يا فتاة؟!"
-"حاضر على الدوام لمن يستحقه ! "
-"آه يا للبراءة العنيفة التي تمتلكينها يا ذكرى..بالفعل لقد أثرتِ إعجابي ولهذا أريد أن أُنهي تلك البراءة هنا وللأبد ! "
حبست ذكرى أنفاسها المذعورة وهي ترى عينيّ سديم صارت سعيراً يلتهبّ.
-"انظري ذكرى..أترين تلك الفتاة الطويلة العريضة ذات الشعر الأسود الحليق.تحتاج أن تُلقنّ درساً في الأدب!"
-"نعم إني أراها.لكن ماذا تعنين بأن تُلقن درساً ؟! "
-"تلك الفتاة ذات الشعر الحليق تعتقد أنها ذكية كفاية بأن بلّغت مجموعة النزيلات الجدد أن يبتعدنّ عن صُحبتي والحديث معي حتى لا أجرهنّ للمشاكل وللأسف أنها نجحت في فعلتها المنّكرة."
لم تستطع ذكرى إخفاء ابتسامة السعادة والنشوة التي اجتاحتها جراء إفساد خطة سديم مع النزيلات الجدد.
-"ما المزعج في هذا ؟! أعتقد أني سعيدة بفشل حصولكِ على ضحايا جدد يا أختنا سديم! "
امسكت سديم ذكرى مع ذراعها وسحبتها بقوة إلى جانب خفي وبعيد عن أنظار المدّربة والفتيات ثم أخرجت سكيناً من جيبها وهمست لها بصوت بدا مرعباً مع تلك البحة التي لم تعد جذابة أبداً !!
-"لكن مع الأسف أنا لستُ سعيدة بهذا..أترين هذا الجرح المنتفخ على شفتيّ؟! "
أمعنّت ذكرى النظر فيه وهي لا تخفي نظرات الاشمئزاز والقشعريرة التي تصيبها كلما تأملت وجهها الذي تزداد جروحه تقحياً وإهمالا كأنما تتعمد تشويهه!
-"لقد فعلته أنا بنفسي.حينما حلمتُ به مقترباً مني..استيقظتُ فزعة ثم أخذت هذه السكين وفعلتها حتى لا يقترب من جديد!"
-"من هو هذا؟! أنتِ ماذا تقولين؟! هل جننتِ سديم ! "
-" جنّنت!! أظن أن الجميع هنا سيفقد صوابه حتماً ! على أي حال ستفهمين فيما بعد.    ما أريده الآن أن تأخذي هذه السكين  وتطعنين تلك الفتاة ذات الشعر الحليق، حتى لا تتجاوز حدّها مرة أخرى اطعنيها بعنّف وألم حتى تتمزق شرايين أقدامها التي كانت تتنّقل فيها بالوشاية بين نزيلة وأخرى.  لكن بحذر أيضاً عزيزتي ذكرى لا نريد أن تموت على يديكِ البريئة! "
وقدّمت سديم السكين إلى ذكرى.

لم تكوني يوماً وحيدة حيث تعيش القصص. اكتشف الآن