عند منتصف الليل كانت السجينات قد خلدنّ للنوم إلا عينيّ ذكرى الخائفة المترقبة لم يكد يأتيها النوم وهي تفكر في تلك الخطة التي ستنّفذها غداً مع سديم لسرقة الجهاز اللوحي.كان عقلها لا يكاد يتوقف عن السؤال "هل سأدخل الغرفة ب7 ؟! هل سيفضحُ أمرنا ؟! لماذا رضختُ لها ؟! إلهي إلى متى ستلُحقني تلك السرقات ؟! " وكلما تذكرت ذاك الوجه الأبيض الشاحب بجروحه الغائرة أصابتها رعشة شديدة وهي تتخيل كونها ضحية تحت رحمة سكينها لو خالفت الخطة !
وفجأة أحست بحركة خفيفة رشيقة من السرير العلوي فادّعت السبات العميق لترى صديقتها أنسام تتسلل في ظلمة الليل برشاقة وحذر كدبيب النمل دون صوت أو همس متوجهة إلى دورة المياه. فبدأت ذكرى تشكُ فيما تفعله تلك المجنونة فهبّت خلفها دون أن تلاحظها واسترقت النظر لما تفعلهُ، وعندها جفلت حين رأت أنسام تدخنُ بشراسة ونهم ويديها ترتجف وهي تشعلُ سيجارتها وبدت كأنما قد التقت في موعد منتصف الليل مع محبوبها ! انتفضت ذكرى غضباً وحنق فانقضّت عليها وهي تسحب من يديها المرتعشة السيجارة ورمتها على الأرض لتدهسها تحت قدميها أخيراً.
صُعقت أنسام من وجود ذكرى فقالت في اضطراب وارتباك:
-"ذكرى..ماذا تفعلين هنا؟!.. لماذا أخذتها مني ؟! لماذا؟! "
-"اخرسي أيتها المجنونة إذا ضُّبط بحوزتكِ هذا السم سيقذفُ بكِ في الغرفة ب7 ولن يسأل عنكِ أحد ! "
-" لا يهم لا يهم..لا يمكن أن اتركها لا يمكن! "
فأخرجت من جيبها علبة السجائر المتبقية وسحبت واحدة جديدة وقد بدا وجهها شديد الشحوب والضعف وراحت تسعلُ المرة بعد الأخرى، لكنها لم تهتم بل سحبت أنفاسها من تلك السيجارة وقد هدأت أسارير وجهها شيئاً فشيئاً ! لكن ذكرى لم تحتمل ذلك أكثر فاقتربت منها وسحبت بعنف تلك العلبة المتبقية وذهبت إلى المرحاض لتتخلص منها جميعاً، ولم تستطع أنسام أن تمنعها فقد كانت هي الأخرى هزيلة ضعيفة تتهاوى بيأس وانكسار وعينيها تدمعُ بحرقة:
-" لماذا فعلتِ هذا يا ذكرى؟! لقد..لقد حصلتُ عليها بصعوبة! لا يمكن أن أعيش تحت هذا السجن اللّعين دونها ! انتِ لا تفهمين هذا !! أنا لا أستطيع تحمّل الماضي المؤلم ولا الحاضر الموحش دونها !! "
اقتربت منها ذكرى بغيظ شديد وأمسكت فكها بقسوة وهي تنظر إليها بحدّة وشراسة:
-"أيتها الضعيفة الجبانة بسبب هذا السم سيتم ابتزازي إلى ما شاء الله هل تفهمين أنتِ هذا ؟! سديم وعصابتها الأشقياء يعلمون بتدخينكِ الشرّه وإذا لم ننفذ أوامرهم سيكون مصيركِ أكثر بؤساً وعذاباً في تلك الغرفة التي ستقضي على ما تبقى لكِ من عقل ! "
-"أنا آسفة آسفة.. ذكرى سامحيني لم أقصد أن آتي لكِ بالمشاكل لكن..لكن أنا وحيدة وضعيفة هنا خيالات وأشباح صديقتي تلاحقني في كل ليلة!! لقد هجرتُ النوم بسبب تلك الكوابيس التي بدت أشبه باللعنة لا أعرف إلى أين أهربُ أو الجأ أنا لا أستطيع أن أستوعب أني قاتلة.. أنا قاتلة ومجرمة يا ذكرى قاتلة! أتفهمين ما يعنيه أني قاتلة!! إني أتقطعُ عذاباً كل يوم وليلة لا أستطيع الاستمرار بالعيش! كم أتمنى لو كنتُ أنا القتيلة!! إنني خائفة جداً.. شبحُ صديقتي يلاحقني في كل مكان لا أستطيع الهرب !! إن أسجانّي كثيرة متعددة لا هذا السجن فقط!! لقد حبستُ في الندم والماضي والعار والخزي والذنب أين أرحل يا ذكرى أين ؟!! " وقد كانت تنطق بتلك الكلمات وقد انهارت تماماً وهي تنّتحب باكية شاكية لرفيقتها.
حبست ذكرى دمعتها بصعوبة وقد تأثرت بشدّة مما سمعت.فأمسكتها من ذراعها بلطف لتعينها على النهوض وهما تخرجان من دورة المياه.
استلّقت أنسام في مرقدها وقد بدت ضعيفة خائرة القوى وممزقة الشعور.
دثرتّها ذكرى جيداً ثم جلست بقربها ومسحت على رأسها بحنان وعطف شديد وهي تقول لها بصوت خافت عذب كأنه البلسم الشافي:
-"حبيبتي أنسام رويداً رويداً على نفسكِ.. انتِ نسمة عذبة جهلت طريقها يوماً فانسلّت إلى عاصفة هوجاء فتناثرت قطعة بعد قطعة.. لتعيدي لملمة أجزائكِ المبعثرة وعندها لن تحتاجين للهروب.. جميعنا هنا يجمعنا أمرٌ واحد وهو أننا ارتكبنا الأخطاء وهذا لا يعني أننا شياطيين ولا الذين خارج السجن ملائكة فحتى هم يرتكبون الأخطاء... لأننا جميعا بشر ولأجل أن نكون بشر علينا أن نرتكب الأخطاء حتى نستطيع محوها فيما بعد.."
همست لها أنسام بنبرة ضائعة منهكة:
-"أو هل تمحى تلك الأخطاء الشنيعة؟! كيف سأنجو بعد هذا؟!"
-" نعم..طالما أردتِ هذا ستُمحى تلك الأخطاء. إن الله كان ولا زال يغفر ويعفو ويصلح وهل سيمنعُ عبداً قد ضُيقت به الأراضي من العودة لرحاب عفوه؟! لا وربي... بل هو الملجأ يوم أن لا ملجأ.. كوني قوية بالله يا رفيقتي النسمة! "
وعندها بدت ملامح أنسام كأنما قد أزهرت بالحياة وأنبتّت ورداً عذباً يزينُ ثغرها الباسم بشحوب وقد تساقطت دمعتها بحرارة وندم مرّ:
-"يارب ليكن عفوك لي فأنا ضعيفة بذنوبي وقوية بعفوك ومغفرتك.. ثم أمسكت بيد ذكرى وهي تشدّها بعزم: أعدُكِ يا رفيقة سأتوقفُ عن التدخين ولن أهرب من جديد حتى النهاية ! "
فأشاحت ابتسامة رضا على مبسم ذكرى وراحت تُربّت عليها بهدوء وحنان حتى غفت أنسام في سبات عميق هادئ وقد بدا كأنها كانت تحتاجُ سلاماً وطمأنينة تعيدُ لها سكون الليل وهدوئه.
***
أنت تقرأ
لم تكوني يوماً وحيدة
Chick-Litسَتَبْدُو لَكَ فِي بَادِئِ الأَمْرِ حِكَايَةَ صَدَاقَةٍ عَادِيَّةً تَجْمَعُ بَيْنَ الفَتَاتَانِ.لَكِنْ الغَرِيبُ أَنَّ اِجْتِمَاعٌ الصَّدِيقَتَانِ لَا يَتَعَدَّى بِضْعَ مَشَاهِدَ وَأَحْدَاثٍ! فَمَا حِكَايَةُ تِلْكَ الصَّدَاقَةِ البَعِيدَةِ القَرِيبَ...