بعد ساعتين:
تقدّم المعلم جواد وهو يُسرع الخطى داخل أروقة المشفى الكبير. وحين همَّ بالدخول إلى القسم الذي تعالج فيه صفية أوقفته الممرضة راجية بحزم !
-"عفواً يا سيدي إلى أين أنت ذاهب ؟! لقد انتهى وقت الزيارة. "
-"كيف هذا ؟!! يفترض أن هناك ساعة متبقية ! "
-"عُذراً لقد غيرنا المواعيد. أرجو منك المغادرة الآن. "
بدأ المعلم جواد ينفذ صبره -"لا يعقل هذا كل ما أردت الدخول منعني أحدهم تلك المرة ذكرى تمنعني والأخرى والدها والآن انتِ!! أريد أن أراها فقط أرجوكم إنها ابنتي!! ابنتي !!! "
زاد توتر الممرضة راجية وهي تضغط على نفسها أن تستمر في اللعبة:
-" لا علاقة لي بكل ذلك. أرجوك غادر يا سيد وإلا سأضطر لإحضار رجال الأمن."
أنزل المعلم رأسه بحزن وحسرة وهو يهمس-"هل هي ترفض لقائي؟! هل صفية لا تريد رؤية وجهي ؟ أخبريني الحقيقة !!"
ابتسمت الممرضة ابتسامة مصطنعة لتنهي هذا الموقف الحرج:
–"كلا..لا أعتقد هذا، ستراها غداً بالتأكيد لا تقلق. "
-"هل صحتها جيدة ؟ هل هي بخير ؟ هل عادت لوعيها ؟ هل هناك كسور أو رضوض ؟ هل هناك مضاعفات...؟ "
-" على رسلك يا سيد ! إنها بخير وبصحة جيدة. نعم لقد استعادت وعيها تماماً. "
شعر المعلم جواد براحة كبيرة وسعادة غامرة-" الحمد لله الحمد لله. أن عادت صفية إني خشيت أن أفقدها حقاً. يا إلهي الحمد لك أنها عادت. أريد رؤية الطبيب الذي يعالج صفية هل هو في مكتبه ؟ "
-"ماذا؟!...الطبيب!!نعم..أقصد كلا.. كان في مكتبه لكنه غادر قبل مجيئك بنصف ساعة! "
-"تباً..يا للحظ السيء ! بكل تأكيد سآتي غداً للإطمئنان عليها.اه صحيح...لا أرى السيد ناجي و زوجته هل هما هنا ؟ "
-"كلا لم يأتيا منذ أن دخلت ابنتهما إلى السجن. يا للأب المسكين إنه يركض هنا وهناك ليجد محامياً يُخرج ابنته وتلك الأم الضعيفة حالها لا يسر ! "
-"يا إلهي! يا للفتاة المسكينة ذكرى. من أين خرجت لها تلك المصيبة ؟! حسناً اعتذر عن الإزعاج شكراً لكِ. "
لوحت له بيدها مودعة وهي تحاول أن تخفي جميع انفعالاتها المضطربة
-" إلى اللقاء، نراك غداً."***
عند قرابة الساعة العاشرة والنصف كانت تقف صفية قُرب النافذة وهي تتأمل الشوارع المزدحمة بالسيارات والأسواق المضاءة، والناس التي تهرول مسرعة لداخل المشفى كي تطمئن على أحبابها. فأخذت تمسح دموعاً سقطت منها "رباه أليس لي في وسط هؤلاء الناس عائلة وأهل؟! أليس لي أحد يريد الإطمئنان علي؟! لماذا لا يأتي أحدهم يُذكرني بنفسي يُذكرني بحياتي ؟! لماذا لا يأتي أحد ويخبرني أنه يحبني وكان قلقاً عليّ ؟! لماذا لا أرى أحد بجانبي لماذا أنا وحيدة؟!! ليتني أستطيع التذكر ليتني أعلم ماذا كُنت ! ومن كان بقربي لكن يبدو أنه ما من أحد كان ! أشعر بالفراغ يأكلني وكأني ولدت خارج هذا الكوكب ولم أنتمي لسكانه يوماً!! ترى من أنا ؟! " لم تستطع أن تتمالك نفسها فأجهشت صفية في بكاء مرّ .
-"آه عزيزتي صفية لمَ هذا البكاء المحزن؟ " التفت صفية بفزع نحو صاحبة الصوت لترى فتاة ذات شعر قصير نحاسي اللون يظهر عليها من النظرة الأولى مظهراً ذا ثراء وغنى!
سألتها بتردد وخشية -"صفية!! أقلتِ صفية ؟!! من هي صفية ؟! "
اقتربت منها الفتاة وربتت على كتفيها بحنان وهدوء:
–"انتِ صفية اسمكِ هو صفية شهاب !"
-"مم..من انتِ..من أين تعرفيني؟! "
-"أنا وسام زميلتكِ في الصف حمداً لله على سلامتكِ " ومدّت لها يديها مصافحة وهي تبتسم بود ولطف.
-"زميلتي بالصف!"
وصافحتها صفية بتردد وشك.
-"انظري بنفسك إن اسمك الكامل مسجل هنا وحالتكِ الصحية. إنها انتِ صفية ! " ومدّت لها ملفها الصحي. قرأت صفية الملف وتساقطت دموعها على الورقة.
كانت تتمتم بفرح وسعادة-"صفية صفية نعم.. أنا صفية ذلك اسمي صفية .." كانت تشعر بالضياع والوحدة دونما اسم أو ذكرى ولا حتى عائلة ! لكن ما إن علمت بأنها صفية حتى تخالطت دموعها بضحكاتها المنتشية لقد عادت لنفسها ! عادت للحياة من جديد مع اسم ينتمي إليها يشعرها بالأمان والوجود إنه الاسم الذي يمتلِكُكَ قبل أن تمتلكَهُ !
نظرت بامتنان نحو وسام -"من أين حصلتِ عليه يا وسام ؟ "
-"لا بأس هناك صديقة تساعدني."
-"انتِ فتاة لطيفة شكرا لكِ لقد كدتُ أن انهار منذ لحظات لكنك أعدّتِ لي صفية !"
نظرت وسام بذهول وهي لم تستوعب أن صفية تقول تخاطبها بهذا اللّطف ثم ضحكت بخفة لأن خطتها بدأت تُظهر نتائجها:
–"لا عليكِ نحن زميلات. يا لكِ من مسكينة يا صفية إنهم يحجّرون عليكِ كالسجينة ويخفون عنكِ الأعداء والأصدقاء!! "
بدأت صفية تشعر بالرهبة والخشية: –"أعداء !! أي أعداء ماذا تقصدين؟! "
-"آه يا إلهي من الجيد أن تلك الفتاة أودعت بالسجن وإلا كانت ستقلتني من بعدكِ !! "
-"تقتل!!! أي فتاة ؟! وسام لا تعبثي معي ما الذي تخفونه عني؟! "وبدأ يظهر على ملامحها غضب واستياء شديد.
-"ذكرى الفتاة التي أرادت قتلكِ! "
-"ذكرى!! من تكون ؟! إني لا اعرف أحداً بهذا الاسم !! "
-"بالطبع لن تعرفي لأنكِ فاقدة للذاكرة الآن يا صفية ! لكن الحقيقة أن ذكرى هي من أرادت قتلكِ فدفعتْ بكِ نحو السيارة لكن لحسن الحظ يا عزيزتي قد كُتب لكِ عمرٌ جديد لكن أيضا لسوء الحظ نسيتِ من هم اعدائكِ ! "
لم تستوعب صفية ما تسمعه فأمسكت رأسها بشدة وهي تحاول أن تتذكر كيف وقع الحادث، لكنها لم تتذكر شيئاً ! فجأة صُعقت حين تذكرت حديث الممرضة راجية:
–"الفتاة التي ذهبت إلى السجن هي الفتاة ذات النمش على خديها ؟! "
-"نعم إنها ذكرى ! " وأظهرت وسام ابتسامة خُبث ونصر لم تلحظها صفية من وقع الصدمة !
-"م..م ما الذي تريده مني تلك الغريبة ؟!!..لقد..لقد كانت تهذي أول ما استعدتُ الوعي بكلام لا معنى له من قبيل أن أسامحها ويجب أن لا أعرف شيئاً عن الماضي..لكن ماذا فعلتُ لها ؟!! لماذا تريد قتّلي.. ؟! " كانت ترتعش صفية بشدّة وترتجف أطرافها مرعوبة. اقتربت منها وسام وضمتها بهدوء كما تضم الأفعى فريستها دون مقاومة وهمست لها بلطف بالغ-" تحلّي بالهدوء عزيزتي صفية لتطمئني العدالة ستأخذ مجراها، ذكرى الآن في السجن وستأخذ جزائها. "
تعلّقت صفية بشدّة بعنق وسام وقالت وهي مذعورة تتلعثم:
-"ماذا..ماذا لو خرجتْ من السجن ستأتي لقتلي بالتأكيد.."
كانت وسام تحبس ابتسامتها الماكرة بقوة كي لا تُفضح ! مسحت على رأسها بحنان:
-" لا يمكن ذلك هناك دليل قوي ضدّها إلا في حال..."
-"إلا في حال ماذا ؟! "
-"إلا إذا تنَّازلتِ عن حقكِ ! "
أنت تقرأ
لم تكوني يوماً وحيدة
Chick-Litسَتَبْدُو لَكَ فِي بَادِئِ الأَمْرِ حِكَايَةَ صَدَاقَةٍ عَادِيَّةً تَجْمَعُ بَيْنَ الفَتَاتَانِ.لَكِنْ الغَرِيبُ أَنَّ اِجْتِمَاعٌ الصَّدِيقَتَانِ لَا يَتَعَدَّى بِضْعَ مَشَاهِدَ وَأَحْدَاثٍ! فَمَا حِكَايَةُ تِلْكَ الصَّدَاقَةِ البَعِيدَةِ القَرِيبَ...