اليوم مُطرنا بفضل الله ورحمته في العاصمة الرياض وأرجو من الله أن يكون بشرى خير كذلك لهذه القصة😊.
قبل عشرة أيام من الحادث:
تتراقص أنغام الموسيقى تارةً ناعمة هادئة وتارةً صاخبة تثير الحماسة في أرجاء الغرفة البيضاء الواسعة وتُجملّها زينة فاخرة باذخة يزيد روعتها روائح الياسمين فواحة عذبةً رقيقة. تتوسطها طاولة طعام كبيرة تحمل أشهى الأطباق وألذها وتتباهي بأصناف المأكولات المتنوعة الجذابة.
يتجاذب الحضور أطراف الحديث والضحك والمرح بحبور وسرور، ويتمايل باقي الحضور ويتراقصون بجنون واهتياج عالٍ على أنغام الموسيقى. لم يخفى على الحضور وهم يتبادلون التعليقات حول جمال وأناقة صاحبة الحفل، البعض اكتفى بالامتعاض والغيرة والآخر ندب حظه ونفسه أما أعقلهم فقد تمنى لها عاماً سعيداً.
دخلت "ذكرى" اليوم عامها الثامن عشر. ودعت جميع طالبات صفها احتفالاً بيوم ميلادها وحرصت بشدة أن تبدو أميرة أنيقة في حفلها. أسدلت شعرها الأسود القصير الكالح بحرية على كتفيها وجملّت تفاصيل وجهها بمساحيق التجميل وارتدت ثوباً أسوداً لما أسفل الركبة وزادت طولها طولاً بالكعب الأسود العالي، لطالما كانت تحب اللون الأسود وتشعر بفخامته حتى في أسعد مناسبات حياتها كانت تصر أن ترتديه بكل أناقة وهي تقول أنه "ملك الألوان".
على عكس ما كانت فيه ذكرى من أفخم مظهر، كانت صديقتها "صفية" في أبسط وأرق مظهر. أحبت دوماً أن تبدو على بساطتها وطبيعتها لكن يظل جمالها الرقيق ظاهراً محبباً للنفس. ارتدت ثوباً ناعماً طويلاً حتى غطى أسفل قدميها من اللون الوردي الفاتح وأصرت أن تُجدل شعرها على جانبها الأيسر كما كانت تحب والدتها أن تفعل في طفولتها،زينت وجهها بشيء من المساحيق التجميلية وكانت هادئة الحال بين الحضور.
تقدّمت ببطء نحو صديقتها ذكرى لتقدّم لها هدية يوم ميلادها تمنت أن تنال إعجابها ولا تجاملها كما في كل عام فذكرى صعبة المزاج والذوق،
ابتسمت بتودد وتردد-"عزيزتي ذكرى كل عام وانتِ بخير. يوم ميلاد سعيد كل عام ونحن أجمل صديقات. تفضلي هديتكِ مني أرجو أن تعجبكِ.."
أخذت ذكرى علبةً متوسطة الحجم مغلفة برقي وإتقان، واحتضنت صديقتها بحب وامتنان-"شكراً لكِ يا وردتي أتمنى ألا تكون مخيبة للآمال كما في كل عام.." واطلقت ضحكة ساخرة أشعرت صفية بقليل من الحرج لكنها تعلم أن عادة ذكرى أن تطلق النُكات بنية صافية.
جرت العادة أن تُقدم الهدايا وتُفتح أمام جميع الحضور لذا توجب إحضار أفخم وأرقى الهدايا. فتحت ذكرى العلبة وهي لا تصدق ما ترى ثم أطلقت ضحكة قوية وصاخبة -"صفية أيتها الماكرة كيف خطر لكِ ذلك؟! لم أتوقع منكِ أن تحضري لي ما أعشقه بجنون!! "
-"كنتُ أعلم أنكِ تعشقين هذا النوع من الشكولاتة كعشقكِ للون الأسود تماماً"
-"نعم لقد أحسنتِ عملاَ هذا العام يبدو أننا بدأنا نتفاهم أخيراً.."ضحك الجميع باستغراب وعجب على انتشاء ذكرى بعلبة الشكولاتة ولم تهتم كثيراَ ببقية الهدايا الثمينة.
دقت ساعة منتصف الليل وشارف الحفل على النهاية بسلام وهدوء وفجأة علا صوتٌ جهورعلى أنغام الموسيقى الهادئة واعتلت طالبة مكاناً يراه منها الجميع.
-"كفاكم رقصاً وحديثاً مملاً حان وقت المرح واللعب الحقيقي لقد جاء وقت التحدّي!.. ما هذا الذهول الذي يعلو وجوهكم ؟ هل أتيت وأنا أرتدي بنطالاً للحفل لأجلس في الزاوية وأنا أرى أزيائكم الفاخرة؟! كلا أريد تحدياً يكون ملحمةً لنهاية الحفل يا ذكرى ! "
كان هذا العرض من فتاة المدرسة القوية "وسام" ابنة الوزير.كانت ذكرى تحترق غيظاً منها لأنها كانت موقنة أنها ستحاول إثارة المشاكل والمتاعب في الحفل بأي طريقة ممكنة، لكن ما من بد من حضورها لأن العادة أن تتم دعوة جميع طالبات الصف عند حفلة ميلاد أحداهن.
همست ذكرى لصفية -" تباً...يبدو أن بداية عامي الثامن عشر حافلة بالتحديات والصدمات! إن هذه الفتاة لن تأتِ بخيرٍ اليوم لابد أن تفسد حفلي لن أسمح لها بذلك ولن أبدو ضعيفة أمامها ! "
-"لا تتسرعي يا ذكرى إنها تريد إيقاعكِ في شباكها أنتِ تعلمين كيف هي تحدياتها وماهي النتيجة دائماً، مصائب ومشاكل لا تنتهي فلتحذري !"
-"كلا لن ادعها تبين للجميع أني ضعيفة ولا أقبل التحدي وفي يوم ميلادي الثامن عشر أيضاً لابد أن أظهر القوة لعامي الجديد." وردّدت بصوت جهور قوي -"لقد قبلتُ التحدي أريني ما لديكِ لنبدأ المتعة! ".
ابتسمت وسام بخبث وسخرية -"يا لكِ من متباهية صغيرة يا ذكرى! على أي حال لن يكون تحدياً صعباً، لكن ما هو أهم من التحدي تنفيذ الشرط عند الخسارة! وإياكِ والإنسحاب بكل خزي أمام جميع طالبات صفكِ وإلا تعلمين العاقبة جيداً ! "
-"لا مجال للإنسحاب عندي ما هو الشرط؟ لا تعبثي معي لن أخشى شيئاً يا وسام !"
-"عظيم..الشرط هو يا عزيزتي على الخاسر أن يسرق.. أو لنلطف العبارة قليلاً عليه أن يسرب أوراق امتحان الرياضيات النهائي! "
جميع الطالبات بصدمة وهلع -"ماذا ؟!! "
أجابت ذكرى بغضب وامتعاضٍ شديد-"هل جننتِ يا فتاة ؟كيف أسرب أوراق الامتحان ؟ ومن أين لي أن أعرف؟ أتريدين أن تأتي بأجلي الدراسي؟ "
همست صفية بقلق وتوتر-"هذا التحدي لا فائدة ترجى منه انسحبي يا ذكرى ولا تنخدعي بها لقد فقدتْ عقلها تماماً ! "
تنهدت وسام بملل ونفاذ صبر-" أيتها الجاهلات ! إنه ليس بالأمر الصعب سيكون التحدي ممتعاً وسهلاً للغاية، كل ما عليكم هو الفوز لتتجنبوا الخسارة ولو كنتُ الخاسرة أعدكنّ من هنا أمام الجميع أني سأنفذ الشرط بلا تردد! ثم أضافت بصوت جهور يُلهب الحماسة ويثيرها:
أيتها الفتيات ألا تعانون كل عام من صعوبة الأسئلة ولو درستم ليل نهار ؟ ألا تفشل العديدات منكنّ في تجاوز الإمتحان ؟ أتريدن أن تجربن طعم الرسوب والفشل ؟ أم من الأفضل أن تذاكرن وتجتهدن لكن في الوقت ذاته تعلمنّ ماهية الأسئلة لتركزن عليها أكثر؟ هيا يا طالبات صفي الشجاعات لا تكونوا ضعيفات وتضيعن الفرص من أيديكنّ؟ ألا تطمحن للنجاح والدرجات العالية إننا نستحقها لكن المعلمين الأوغاد يسلبوننا حقنا بضمير بارد أليس كذلك ؟ هيا تشجعن..! "
هتفت الطالبات معاً بحماسة ونشوة بالغة-"نعم نعم صحيح.. هيا نريد الأسئلة.. هذا من حقنا نعم نحن نستحق ذلك..هيا ذكرى اقبلي التحدي... لا تكوني جبانة...إنه يوم ميلادكِ كوني قوية...لا تخيبي أملنا يا ذكرى إياكِ أن تتهربي... " شعرت ذكرى بضغط شديد وكبير عليها خاصة حين أصرت الطالبات عليها لقد خشيت أن لا يحترمنها طالبات صفها إذا انسحبت لذا قررت أن تبذل أقصى جهدها للفوز حتى تنجو من تنفيذ الشرط.
ثم سألت فجأة-"ومن أين لكِ أن تعلمي متى ستأتي الأوراق إلى المدرسة؟"
-"لقد نسيت تلك الجبانة أن لي معارف في المدرسة يبلغوني بما أريد وقت ما أريد! لا تقلقِ ستكون غداً صباحاً في المدرسة عند مكتب المعلم جواد. ما هو جوابكِ النهائي هل تقبلين بالتحدي ونتيجته؟ "
-"نعم قبلتْ.. لنرى ما لديكِ ما هو التحدي؟ "
-"إنه في غاية السهولة عزيزتي سيكون تحدي(سباق الدراجات الهوائية)
لكن الفرق أننا سنقود ونحن معصوبي العينين، أي أننا لن نرى مضمار السباق. لكن لا بأس سيكون المضمار على خط مستقيم فقط ومن تصل أولاً تكون هي الفائزة في التحدي."
ذكرى بذهول وعجب-" ماذا أتمزحين معي يا فتاة إني لا أعلم حتى كيفية قيادة دراجة الهوائية ناهيكِ عن أن أقودها معصوبة العينين!!"
-"يمكنكِ اختيارُ بديلة عنكِ" وأشاحت بابتسامة كيدٍ دفين !
التفتت ذكرى سريعاً نحو صفية بحماسة بالغة-" أنتِ ماهرة في قيادة الدراجة الهوائية تلك المتباهية ستفشل امامكِ حتماً ! "
-"هل أصابك شيء من جنون وسام كلا لن افعلها كيف أقود وانا معصوبة العينين ؟! هذا غير ممكن.."
-"صفية ارجوكِ لا تكوني جبانة أنه مجرد خط مستقيم لن يطول الأمر، لا تخيبي رجائي إنه يوم ميلادي لابد أن تقفي معي، لقد حوصرت تماماً من قبل وسام وطالبات الصف.. هيا تشجعي لو استطعنا هزيمتها لن نفعل تلك السرقة التي ستورطنا بها بل هي من ستفعلها وهذا ما أريده! "
فجأة صرخت ذكرى بصوت عالي وجهور:
-"صفية ستلعب بدلاَ عني وسيسقط حظكِ اليوم يا وسام.."
جفلت صفية من تجاهل ذكرى لسماع رأيها النهائي في الموضوع لكنها صمتّت ولم تبدي شيئاً وحدّثت نفسها بأسى
"لا بأس إنه يوم ميلادها يجب أن أقف بجانبها.."
تعالت هُتافات وتصفيق الطالبات بحماسة واندفاع بين مشجعات لصفية ومؤيدات لوسام واتجهن جميعاً إلى الفناء الخارجي.
وبدأ التحدي المنتظر 3 2 1 ... وانطلقت شارة البدء. كانت المسافة قصيرة لا تتجاوز الدقيقتين، تقدّمت صفية على منافستها وسام بكل قوتها منذ بدء السباق بكل براعة وخفة، رغم انها مُعصبه العينين فقد علّمها والدها قيادة الدراجة الهوائية منذ صغرها حتى احترفتها تماماً.
وعند اقتراب خط النهاية فجأة هجمت حمامات كانت حبيسة القفص على صفية وحلّقت قريباً منها باندفاع شديد فارتبكت منه صفية واختلّ توازنها وهي تحاول الهرب عن الحمامات بعيداً، لكنها لا ترى شيئاً ! فانحرفت عن مسار السباق حتى فقدت السيطرة على الدراجة وصدمت في الحائط وسقطت هناك. عندها تقدّمت وسام وهي تنتهز فرصة الفوضى التي تشعر بها حولها حتى اقتربت من خط النهاية وأُعلنت الفائزة بالتحدي وكانت (وسام)! صُدم الجميع وتفاجئ مما حصل مع صفية وكيف انقلبت النتيجة في آخر اللحظات فاجتمعت الطالبات حول صفية ليطمئنوا عليها.
اقتربت ذكرى بقلق وخوف على صفية وهي على الأرض واقعة-"صفية عزيزتي هل أنتِ بخير؟ هل تأذيتِ؟ كيف هي ساقكِ؟ هل بإمكانكِ الوقوف؟هل.."
-"كفى اصمتي..كله بسبب عنادكِ والحمقاء الأخرى وسام التي فازت بالغش والخداع هل تسمعون جميعكم؟
كانت تعلم أن لديّ حساسية من الحمَام لذلك اخبرت احد اتباعها البلهاء ليدفعوه في وجهي أثناء السباق أنا متأكدة من هذا أتسمعون؟"
-"صفية بربكِ انتِ لا تملكين دليلاً على كلامكِ أن هذا من تدبير وسام، لقد خسرنا التحدي. لكن المهم أنكِ بخير ولم يصبكِ مكروه."
تجاهلت حديث ذكرى و نفضّت الغبار عن نفسها وتوجهت بقوة واندفاع نحو وسام ونظرت لعينيها بتحدي وحنق شديد:
-"لتعلمي أيتها اللعوب انكِ كسبتي هذا التحدي التافه بالاحتيال والخداع أنتِ ضعيفة لدرجة أنكِ تلتوين وتحيكي الألاعيب لأجل مصالحكِ.."
-"كل الأعذار والأوهام السخيفة هذه لن تجدي نفعاً، لقد قضي الأمر واستعدي لغدٍ انتِ وصديقتكِ المتهورة، جدوا طريقة لإحضار أوراق الامتحان من مكتب المعلم جواد وإلا سيحصل مالا يحمد عقباه. كما تعلمون أنه قانون الصف لا انسحاب من نتائج التحدي" واطلقت ضحكة ساخرة وهي تغادر بنشوة الانتصار المخادع فقد كانت تعلم أن صفية منافسة قوية لن تستطيع هزيمتها إلا بالحيلة.***
عند منتصف الليل وحين هدوء الليل وسكونه بعد يوم حافل بالضجيج والإرهاق. كانت ذكرى تستعيد أحداث يوم ميلادها وهي تزيل المساحيق التجميلية عن وجهها المتعب، كانت الابتسامة لا تفارق محياها وهي تنظر لنفسها على المرآة. تأملتْ صفية صديقتها ذكرى بصمت واختلطتها مشاعر مريبة من الحزن والفقد والحنين ثم همست بهدوء:
-"أتعلمين أنتِ فتاة محظوظة يا ذكرى ! اليوم هو يوم ميلادكِ الثامن عشر بين والديكِ وأصدقائكِ وعائلتكِ الجميع من حولكِ لابد أنكِ سعيدة بذلك.."
-"نعم لابد أن يكون كذلك اتمنى أن نحتفل أيضاً بكِ يا صفية."
-"تعلمين لقد توقفت عن الاحتفال بيوم ميلادي منذ وفاة أمي وأبي لقد مر على ذلك عشر سنوات.. فقدت عائلتي التي كانت أول من فرح بقدومي لهذه الدنيا كيف سأحتفل دونهما؟ لا أستطيع ذلك هناك شيء يخنقني جاثم على صدري لا يتزحزح.."وحبست دمعتها بقوة وصعوبة.
نظرت ذكرى ملياً نحو صفية بعين قلقة ومشفقة ثم قالت:
-"لا تفسدي جمال هذا الوجه الرقيق..ألسنا عائلتكِ؟! أمي وأبي يحبانكِ كذلك! أنتِ تعلمين نحن عائلة! "والتفتت للمرآة وهي تكمل إزالة الزينة.
أشاحت صفية نحو النافذة بحزن عميق وحدّثت نفسها
"قد تكونين عائلتي لست متأكدة من ذلك يا ذكرى! ".
اختفت الابتسامة والسعادة من وجه ذكرى بعد أن تذكرت التحدي:
-"اخبريني يا صفية ماذا سنفعل غداّ؟ كيف سنتجرأ على سرقة أوراق الامتحان؟! اني قلقة حيال ذلك.. تباً لكِ يا وسام !"
اجابت صفية ببرود -"من يجلب المصيبة لنفسه سيجد مصيبة أكبر لينقذ نفسه ! "
أنت تقرأ
لم تكوني يوماً وحيدة
ChickLitسَتَبْدُو لَكَ فِي بَادِئِ الأَمْرِ حِكَايَةَ صَدَاقَةٍ عَادِيَّةً تَجْمَعُ بَيْنَ الفَتَاتَانِ.لَكِنْ الغَرِيبُ أَنَّ اِجْتِمَاعٌ الصَّدِيقَتَانِ لَا يَتَعَدَّى بِضْعَ مَشَاهِدَ وَأَحْدَاثٍ! فَمَا حِكَايَةُ تِلْكَ الصَّدَاقَةِ البَعِيدَةِ القَرِيبَ...