الفصل الرابع عشر

38 3 0
                                    

بعد منتصف الليل عند الساعة الثالثة صباحاً غارت الأجفان وغرقت في النوم لكن عينا صفية كانت مستيقظة متأهبة ولم تجفن للحظة، فقد كان تفكيرها لا يتوقف للحظة وقلبها يحترق قهراً وغضب وهي تتساءل مع نفسها بلا هوادة " لماذا لم يخبرني فراس بأنه ابن المعلم جواد؟! يا إلهي لقد وضعتُ المعلم وابنه في مصائب جديدة ! ما الذي كنت أتخبط فيه ؟! كيف وثقت بتلك الماكرة أن لا تنشرها بهذه السرعة ؟! ما الذي اقترفته بحق نفسي وغيري ؟! بأي عينٍ سأقابل المعلم جواد وقد ألحقتُ سمعة عائلته للأقاويل ؟! لقد استغلّيتُ فراس لأجل مصلحتي وهو كان يريد أن يساعدني لكنه تورط معي بسبب خطتي البلّهاء ! ما الذي فعلتهِ يا صفية ؟! لكن أقسم بأني لن أغادر الليلة حتى أحصل على الدليل!"
وقامت من سريرها وقد حزمت حقيبة الظهر ونظرتّ ملياً نحو ذراعها اليمنى الملتفة بالجبيرة وهي تتذكر حديث فراس:
" إن هذا السور الحديدي قصير. يمكنني     تسلقه والتسلل إلى داخل الحديقة ! "
"أرجو أن لا تعيقينّي عن الهروب هذه الليلة!"
وخرجت من غرفتها وهي تتسلّل في ظلمة الرواق بهدوء وحذر مقتربة من غرفة وسام. وأخرجت ذلك المفتاح الصغير الذي أخذته دون انتباه وسام من على تلك الطاولة. وفتحت باب غرفتها برويّة لتسرق الهاتف المحمول الذي سجلت فيه المقطع المصور.
كانت وسام تغط في نوم عميق وهادئ وهي لا تعي وجود صفية داخل غرفتها.
حبست صفية أنفاسها وهي تنظر إلى عدد من الهواتف المحمولة على الطاولة الصغيرة بجانب سرير وسام وتساءلت أيهم سيكون؟! إلى أن قررت أخيراً أخذهم  جميعاً! وعندها حملت صفية أقدامها بسرعة وهي لا تلوي خلفها لتتجه إلى خارج هذا السجن الكبير للأبد!

***







نجحت صفية في الهروب وهي تركض بأقصى سرعتها إلى أبعد نقطة عن ذلك المنزل المشؤوم! كانت وحدها في تلك الليلة في ساعة متأخرة ولا تعلم إلى أين ستذهب!! غير أنها شعرت بالأمان وهي بعيدة عن أنفاس وسام قدر ما تستطيع. وقفت عند محطة قطار عشوائية وقررت أن تركبها ببطاقة الطالبة التي معها دون الحاجة لدفع الأجرة. تنّفست الصعداء أخيراً وهي تجلس على مقعدها في القطار الشبه فارغ من الناس في هذا الوقت المتأخر!
قررت الاتصال على فراس وهي لا تستوعب ساعة الاتصال المتأخرة من شدّة توترها !
أجاب عليها فراس سريعاً وصوته يعلوه التعب والهمّ-"صفية.. ماذا هناك؟! لماذا تتصلين في هذا الوقت المتأخر ؟! هل حصل شيء آخر ؟! "
نظرت صفية إلى الساعة وهي تشير إلى الثالثة والخمس والأربعون دقيقة ! شهقت صفية وشعرت بالخجل الشديد وقالت بتلعثم-"آسفة.. آسفة.. لم أنتبه للوقت.. أه" فجأة جاء صوت صفية وهي تأنّ من الألم الشديد!
-"صفية..صفية! ماذا بكِ ؟! هل انتِ بخير ؟! أرجوكِ اجيبّي ! "
-"لا بأس.. أنا بخير.. لقد سقطتُ على ذراعي  المكسورة حين كنتُ أتسلق السور."
-"ماذا؟! ولماذا تتسلقين السور ؟! "
أجابت وصوتها يتقطع وهي تحاول أن تكتم ألمها عنه-"لقد.. لقد.. استطعت الحصول.. على الدليل.. وهربتُ الليلة ! "
صُدم فراس تماماً وتحدث منفعلاً من القلق: -"صفية أين انتِ الآن ؟! أين ذهبتِ في هذا الوقت المتأخر؟! ثم أنكِ متعبة وها قد أهملتِ ذراعكِ المكسورة! أين انتِ ؟! "
-"لا تقلق عليّ فراس سأجلبّ لك المشاكل إذا قلقت عليّ! على أي حال أنا في القطار الآن. بل أخبرني انتَ هل انت في المنزل؟! أستطيع سماع بعض الضوضاء حولك ! "
-"جيد.. أنا أيضا تائهٌ في طرقات المدينة.
لم أستطع العودة للمنزل منذ أن نُشر المقطع! أخشى من ردة فعل أبي! لقد حذرني أن أفعل كل شيء معكِ بعلمه، لكني هذه المرة اخطأتُ ولم أخبره بالخطة لأني كنت موقنّاً أنه سيرفضها، وها قد انقلب كل شيء
ضدنا! إني لا أستطيع أن أريه وجهي، لقد اعتمد عليّ لكني... لكني لم أستطع مساعدتكِ صفية أنا آسف! " بدا صوته حزيناً ومكسوراً كان صوتاً ضائعاً تماماً !
-"فراس..لكنك كنتَ غاضباً مني لأنه كان خطأي! أنا الحمقاء التي فكرتُ فيها!.."
ابتسم بلطف على اعتذارها الخجول:
-"كلا لا عليكِ صحيح أني غضبتُ منكِ لكني أدركت بأني شريكٌ في الخطأ معكِ.. ما كان يجب أن أجاريكِ كان عليّ أن أخبر أبي لنجد حلاً آخر...لكني اعتقدت بأني ذكيٌ كفاية !"
-"إذا المعلم جواد أيضاً كان يعلم أنك كنت تنّتحل دور عامل النظافة ؟! "
أجابها بأسف شديد-"نعم.. أنا آسف لكن كنّا مضطرين لهذا، خشينّا أن ترفضي الحديث معي كونكِ..قد نقمتي على أبي في السابق.. تعلمين فقدكِ للذاكرة قد... "
-"نعم.. أنت محق لقد ظلمتكم جميعا أنا لا أستحق مساعدة منكم ! "
-"آسف.. لم أقصد إزعاجكِ صفية أعتذر حقاً لا تقولي مثل هذا !  أخبريني الآن أين ستذهبين؟! أرجوكِ لا تغضبِ من سؤالي الآن  لكني خائفٌ عليكِ حقاً ! "
قبض قلبها من تلك الكلمة لكنها أصرت على أن تبتعد وقالت بصوتها الهادئ المتعب:
-"لا أعلم..سأذهبُ الى البعيد.. البعيد.. إلى حيثُ لا أحد يعرفني.. إلى حيث لا ماضي لديّ عند أحد.. إلى حيث ما ينسانّي الجميع.. إلى مكان أستطيع فيه أن أفقد ذاكرتي بالكلية...أنا لم أعد أريد الماضي يا فراس!!        لكن أعدك أني سأكشفُ وسام ولن أدّعها تُفلت....شكراً لك على كل شيء كنتُ في غاية اللطف والنّبل معي..وداعاً فراس.."
وأغلقت المكالمة قبل أن تسمع جواباً منه يثنّيها عما تريده !
وضعت رأسها المنّهك على النافذة وهي ترى الغيوم السوداء قد اجتمعت معلنّة عن قرب هطول أمطار غزيرة. راحت تبكي بشدّة وهي تشعر أن هناك سحاباً شديد السواد فوقها لا يريد أن يرحل! ودّعت الله بخضوع أن ينتهي كل هذا السواد وتشرق شمس الصباح عليها بسعادة.

لم تكوني يوماً وحيدة حيث تعيش القصص. اكتشف الآن