الفصل السادس والأربعون:

24K 604 6
                                    




الكثير من الصخب والإزعاج حوله، ومع ذلك هو في هدوءٍ تام، أو هناك صخب من نوعٍ آخر داخل رأسه، وفي ذاكرته.
منذ فترة طويلة لم يبتعد عنها، كان يراها يوميًا ولم يتعد مفارقتها، والآن فقط أدرك أنها أصبحت إدمانه الدائم.. فهو يحاول التركيز في أي شيء عداها، وذاكرته تخونه وتقوده إليها، ربما في الأيام السابقة أدرك لماذا، وفهم ما السبب وراء هذا، فقد وصل لنتيجة مقنعة.. هو يحبها، بلى يحبهاكثيرًا.
لم يكن ليصدق أنه قد ينسى يومًا تلك الحقيقة السامة التي عرفها منذ القليل بالتفكير فيها. لقد اكتشف أن حياته كانت مبنية على الكذب والخداع، ومازالت لا تفارق ذاكرته! يعلم أنه لم يعطِ للموضوع هذا القدر المُستحق من التفكير، ويعلم جيدًا أنه أسرف بالتفكير بها، ومع كل هذا لا تزال تتصدر ذاكرته أفكارًا، واهتمامًا.

-وطبعًا الـ change دة هيفرق كتير معانا، ومعنى شراكة الشركتين لإن مفيش أي ماركة تانية هتتفوق علينا وهنكون في الصدارة.
انتبه هو لصوت صديقه الذي علا فجأة وكأنه ينبهه، فنظر أمامه ليتذكر أنه في اجتماعٍ الآن!
رد رجلٌ من الطرف الآخر بدبلوماسية:
-بأيدك و sure الموضوع دة هيعمل رواج كبير في الـ marketplace.
نظر له عقاب وأومأ رأسه مردفًا:
-تمام، يبقى كدة اتفقنا.
ثم وقف، ووقف الجميع عداهُ، وبدأ يصافح الجميع بين نظراتهم المستعجبة لتصرف رئيس الشركة، وبين سعادتهم بإتمام التعاقد.
وحين خرج الجميع، أخذ عقاب مقعده، وقربه من رفيقه ليتحدث بقلق:
-فيه إيه يا صهيب مالك؟
نظر له صهيب وكأنه يحاول التركيز على ما أمامه، ثم سأله ببساطة:
-مالي!
استند الأخير على المعقد، وابتسامة عابثة تتسلل إليه وهو يقول:
-أمممم أنا بسألك، وبعدين إيه الاختفاء دة كله، كان لازم يبقى فيه meeting مهم عشان نشوفك!
رفع حاجبه ساخرًا ليسأله:
-إنت مش كنت بتفضل تقولي ارتاح، خد أجازة، شيل يا عم
أجابه الأخير متذمرًا:
-حرام عليك دة أنا شايل الشركة والمصنع، وبدير المهم في الفروع إللي برا، يعني إنت لما تاخد أجازة أشيل أنا كل دة!
بهدوءٍ أجاب:
-ما أنت عارف، أنا مش بآمن على الشركة والمصنع إلا معاك، أنا وإنت واحد في الشغل.
تحدث عقاب بحنق:
-صهيب، يعني إنت لسة هتطول!
وقف صهيب وسار عدة خطوات للأمام، قبل أن يلتفت إليه ويجيبه بجدية:
-يومين اتنين، وهرجع تاني.
وقف الأخير وسار إليه وقد بدى الإنزعاج على وجهه، فابتسم صهيب له ليسترضيه. رغم كل شيء، فهو كالأخ بالنسبة له، لقد كان ومازال الصديق المخلص الذي لم يتركه مهما حدث، تحمله بكل همجيته وإطاحته بالكلام. تحمله بكل سلبياته ولم يسأم منه، يتذكر أنه حين أراد توظيفه معه تضايق! لم يهتم بالمال أو المكسب الذي سيجنيه، بل تضايق لأنه لا يحب العمل! و كاد أن يرفض لولا أنه خشي أن يحزنه، وبرغم هذا لم يقصر يومًا في العمل أو يتقاعس حين كان يحتاج إليه.
-بس المرادي مش هسيبك تشتغل، إحنا هنسيب الشركة اليومين دول، أنا وجويرية هنطلع يومين على الشاليه بتاعنا إللي في شرم، وإنت وحور تروحوا الشاليه إللي في أليكس. ونرجع أعصابنا هديت شوية.
وتلقائيًا وضع عُقاب يده على جبهة رفيقه متسائلاً بقلق:
-صهيب، إنت كويس؟
أنزل صهيب يده، ثم تحدث بهدوء:
-يعني أفهم من كدة إنك مش عاوز!
قبل أن ينهي حديثه اندفع الأخير ليجيب بضراوة:
-مين! لأ طبعًا خالص أبدًا، خلاص هروح، إنت مابتصدق!
صمت لفترة قبل أن يتابع بحيرة وهو ينظر له:
-بس بجد قولي إيه السبب!
أخذ صهيب نفسًا عميقًا، ثم بدأ كلامه:
-إنت عارف إني إتجوزت جويرية في نفس اليوم إللي مات فيه أبوها، ودة معناه أكيد إن هي محتاجة تغير جو شوية بس.
صمت عقاب لفترة قبل أن يسأله باهتمام:
-طب ليه إنت عملت كدة، ليه جوازكم كان في نفس..
قاطعه صهيب بغضب:
-عقاب، قفل على الموضوع دة.
تابع عقاب بنبرة حادة:
-بس أنا واثق إنك هددتها عشان توصلها، العقل بيقول كدة!
اشتعل الأخير منه، ولكن تابع عقاب بنفس الهدوء وقد وضع يداه على كتف صهيب:
-وإنت بتحبها يا صهيب، ورفضها ليك هيكسرك صدقني، حاول تبررلها موضوع تهديدها عشان متكرهكش.
-بس هي مطلبتش تبرير، هي مش مصدقة أصلاً إني كنت هأذيها، إنت مش فاهم حاجة.
كان هذا رده بعد أن سكنت نبرته كثيرًا.
ابتسم له، ثم ابتعد عنه وهو يجيبه:
-على فكرة، هي غيرتك كتير، مش بس الوقت، لأ من يوم ما شوفتها وإنت بتتغير، بقيت أحسن بكتير من ساعة ما شوفتها، يمكن هي إللي رجعتك شوية للحياة.
نظر له صهيب وشرد في حديثه، فحتى هو قد بدأ يلاحظ تغيره.. لقد بدأ التغير من الداخل، إلى أن تسرب للخارج، كيف تفعل هي هذا!
رفع رأسه ونظر له لثوانٍ قبل أن يقول:
-أنا همشي الوقت..

عصفورة تحدت صقر.......للكاتبه فاطمه رزقحيث تعيش القصص. اكتشف الآن